خيارات إيران المُرة

موسم نفوق أخطبوط تصدير الخراب في المنطقة

الإثنين, 6 يناير / كانون الثاني 2025

عبدالرشيد الفقيه

عبدالرشيد الفقيه

رئيس مركز خلاصات للأبحاث ودراسة السياسات

منذ العام 1979، استثمرت إيران الخُمينية في بناء أخطبوط من التشكيلات المسلحة غير النظامية في المنطقة، لتكون حاملاً لاستراتيجيتها الأمنية خارج حدودها، إذ عمل النظام الإيراني على تخليقها ورعايتها في الظلام على امتداد عقود، مُستغلاً الاضطرابات وعدم الاستقرار، والأزمات الداخلية، وانحصر دعم إيران لشبكة حلفائها على التسليح والتذخير والشعارات الإيدلوجية، لتنتج تشكيلات مُسلحة قوية، راسخة في بيئتِها، ومُجهّزة ومُدرّبة ومؤدلجة، ومتفلتة من القوانين التي بين الدول، وسط مُجتمعات ضعيفة ومُفتتة ومنهارة اقتصادياً واجتماعياً وسياساً، بحيث تستطيع خدمة الإستراتيجية الإيرانية في المنطقة دون أن تورّطها في حروب مُباشرة مع أي دولة.

طائر الخراب (فيلق القدس)

لقد أوكل النظام الإيراني إلى (فيلق القدس)، الذي قاده الجنرال قاسم سليماني منذ العام 1998 حتى اغتياله عام 2020، مهمة تنفيذ العمليات العسكرية والاستخباراتية خارج حدود إيران، ويُعرف فيلق القدس بدوره المحوري في تعزيز النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، ودعم الحلفاء والجماعات الموالية لطهران، مثل نظام الأسد في سوريا، وحزب الله في لبنان، وجماعة أنصار الله (الحوثيين) في اليمن، والفصائل الشيعية المسلحة في العراق وسوريا، ويقود الفيلق عمليات تدريب الجماعات المسلحة وتجهيزها وتسليحها، ويعمل على تنفيذ استراتيجية إيران الإقليمية، بما في ذلك مواجهة النفوذ الأمريكي والإسرائيلي وتعزيز المحور الإيراني الممتد من طهران إلى البحر المتوسط.
وعلى مدى عقود، خاضت شبكة من الفصائل المسلّحة الحليفة لإيران، في أكثر من مكان في خارطة الشرق الأوسط، كثيراً من الصراعات الداخلية في سلسلة من الحروب الأهلية (بالوكالة)، دفعت أربع دول عربية هي (سوريا ولبنان والعراق واليمن) إلى شراك الغول الإيراني، وإلى الغرق في الفوضى والاحتراب والانهيار الاقتصادي، والسياسي والاجتماعي.

كما خاضت بعض تلك الفصائل، جولات محدودة من المواجهة مع إسرائيل، التي كانت في الغالب محصورة بجبهة واحدة، وفي نطاق زمني محدد، كما هو الحال في جولات الحروب بين حزب الله اللبناني من جهة، وإسرائيل من جهة ثانية.

القضية الفلسطينية بوابة للنفوذ الإيراني في المنطقة

منذُ عقود، هرولت أغلب الأنظمة العربية إلى التطبيع مع إسرائيل، برعاية أمريكية، إذ تخلت تلك الأنظمة عن دعم القضية الفلسطينية، وتمالأت مع مساعي تصفيتها، وترك النظام العربي الرسمي فراغاً هائلاً في مجال القضية الفلسطينية، وحقوق الشعب الفلسطيني، والصراع العربي الإسرائيلي، فبادرت إيران إلى ملء هذا الفراغ بتبني دعم القضية الفلسطينية، ومواجهة إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة الأمريكية، وبادرت إلى تقديم الدعم لفصائل المقاومة الفلسطينية، في إطار ما يُعرف بمحور الممانعة.

وقد بدأت العلاقة بين إيران وحركة حماس في تسعينات القرن العشرين، لتكون فصيلاً مقاومًا ضد إسرائيل، ضمن استراتيجية طهران لتعزيز نفوذها في المنطقة من خلال القضية الفلسطينية، وعلى الرغم من الاختلاف الإيديولوجي بين إيران الشيعية وحماس السنية، فإن التعاون بينهما استند إلى هدف مشترك يتمثل في مواجهة إسرائيل، ومع ذلك، فقد شهدت العلاقة بين إيران وحماس بعض التوترات، لاسيما خلال الأزمة السورية، عندما وقفت حماس مع المعارضة السورية لنظام الأسد المدعوم من إيران، مما أدى إلى فتور مؤقت في العلاقات، ولكن في السنوات الأخيرة، عادت العلاقة إلى مسارها، إذ استأنفت إيران دعمها لحماس والفصائل الفلسطينية الأخرى، مثل حركة الجهاد الإسلامي، في إطار مواجهة إسرائيل ودعم حقوق الشعب الفلسطيني، كون ذلك جزءاً من استراتيجيتها الإقليمية.

وفي السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، شنت حركة حماس والفصائل الفلسطينية هجوماً واسعاً غير مسبوق على المستوطنات الإسرائيلية في منطقة غلاف غزة، شمال قطاع غزة، أُطلق عليها اسم عملية «طوفان الأقصى»، فقامت إسرائيل بتوجيه أصابع الاتهام إلى إيران بالضلوع في دعم الفصائل الفلسطينية للتخطيط للهجوم وتنفيذه، وفي الوقت الذي نفت فيه إيران الاتهام، نفذت إسرائيل عمليات انتقامية عدة طالت أهدافاً إيرانية في المنطقة في إطار ردها على عملية طوفان الأقصى، ورداً على هجمات الفصائل المسلحة المحسوبة على إيران في المنطقة، وعلى رأسها حزب الله اللبناني، وجماعة أنصار الله الحوثية، والفصائل العراقية.

وعلى امتداد أشهر من التصعيد الإقليمي، في إطار تفاعلات حرب غزة، وسعت إسرائيل من عملياتها العسكرية في كل من لبنان وسوريا، وصولاً إلى قلب إيران، إلا أن إيران تجنبت خوض حرب مُباشرة مع إسرائيل، على الرغم من سلسلة عمليات الاستهداف الإسرائيلية التي طالت أهدافاً حيوية إيرانية، التي كسرت فيها إسرائيل مراراً الخطوط الحمراء الإيرانية، باستثناء ردين مُنسقين ومحدودين، لكنهما غير فعّالين، ، إذ أعلنت إيران بوسائل عدة حرصها على منع اندلاع حرب إقليمية واسعة، وعوضاً عن ذلك استمرت بالدفع بشبكة الفصائل المُسلحة المتحالفة إلى المواجهة المباشرة مع إسرائيل.

درسٌ من البراغماتية الإيرانية

حزب الله اللبناني

ذخائر إيران على الخاصرة الشمالية لإسرائيل

منذُ تأسيسه في لبنان مطلع الثمانينات، تصدى حزب الله لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني، وخاض حرب استنزاف طويلة، وعلى مدى عقود دعمت إيران الحزب منذُ نجاح الثورة الإسلامية عام 1979، ليكون جزءاً من استراتيجية إيران لتصدير الثورة وتعزيز نفوذها الإقليمي، من خلال توفير الموارد المالية والأسلحة والتدريب العسكري للحزب، مما مكنه من تحقيق نفوذ سياسي وعسكري واسع في لبنان، إذ يشكل حزب الله ذراعًا استراتيجية لإيران يسهم في تعزيز مصالحها الجيوسياسية، وفي نشر نموذجها السياسي، كما يمثل حليفًا محليًا قويًا ضمن التركيبة السياسية اللبنانية.

وعلى امتداد زُهاء أربعة عقود، اندلعت جولات عدة من الصراع، بين حزب الله من جهة، وإسرائيل من جهة ثانية، استنزف حزب الله اللبناني فيها موارد إسرائيل، وقدرتها على التحمل في مستنقع احتلالها لجنوب لبنان الذي دام ثمانية عشر عامًا، مما أجبر إسرائيل في نهاية المطاف على الانسحاب من الجنوب اللبناني، في 24 مايو/آيار 2000، وفي 12 يوليو/تموز 2006، شن مقاتلو الحزب هجومًا عبر الحدود، قتلوا فيه ثمانية جنود إسرائيليين (بينهم خمسة أثناء عملية إنقاذ إسرائيلية فاشلة)، وأسروا جنديين، فردت إسرائيل بحرب شاملة ومفتوحة، بدأت بحصار بحري وعمليات قصف جوي مكثف، ثم توغل بري، واستمرت المعارك لمدة (33) يوما. وبمعايير الأهداف التكتيكية لتلك الحرب، حقق حزب الله انتصارا عسكريا ومعنويًا غير مسبوق، ولم تُحقق إسرائيل - التي فوجئت تماما بالقدرات العسكرية والتنظيمية المتطورة التي يمتلكها الحزب - أي من الأهداف التي أعلنتها.

ومع نمو قوة حزب الله، واستقرار هيمنته المُطلقة في المشهد اللبناني، أرسل الحزب عام 2012، تشكيلات من قواته إلى سوريا لمساندة الرئيس السوري بشار الأسد ونظامه الديكتاتوري في قمع انتفاضة اندلعت ضده مع موجة ثورات الربيع العربي، إذ انخرط مقاتلو حزب الله في القتال في الحرب الدموية الدائرة في سوريا، وتورط الحزب في انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان.

ومنذُ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023، شن حزب الله هجمات صاروخية على نطاق واسع شمال إسرائيل، تضامنًا مع الشعب الفلسطيني، في محاولة لإبقاء بعض القوة النارية الإسرائيلية - على الأقل - محصورة في حدودها الشمالية، التي كانت كافيةً لإجلاء إسرائيل للمجتمعات القريبة من حدودها مع لبنان، وأرغم ذلك نحو ستين ألف إسرائيلي على ترك منازلهم، الأمر الذي حوّل الحدود إلى منطقة حرب نشطة مع حزب الله، إذ تصاعدت الهجمات المتبادلة، على امتداد الجبهة الشمالية، منذ يوليو/تموز 2024، في ظل إصرار حزب الله على الاستمرار في ضرب إسرائيل ما دامت مستمرة في الحرب على القطاع الفلسطيني، على الرغم من الضربات القاصمة التي تلقاها الحزب، بدءًا بسلسلة عمليات الاغتيال التي نفذتها إسرائيل، التي طالت عددًا من قيادات الصف الأول في حزب الله، بينهم قيادات فلسطينية.
وقد شن حزب الله سلسلة من الهجمات استهدفت المستوطنات الإسرائيلية الشمالية، مستخدمًا الحد الأدنى من الأسلحة، كمًا ونوعًا، تحت سقف قواعد الاشتباك؛ لممارسة الضغط على الآلة الحربية الإسرائيلية التي استفردت بالشعب الفلسطيني، على امتداد عام كامل، ارتكبت خلاله فظاعات وجرائم حرب مروعة، وجرائم إبادة جماعية، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم تجويع مئات الآلاف من المدنيين، وسط تورط وتواطؤ دولي واسع، فضلا عن جرائم الاحتلال والاستيطان والتهجير القسري، والفصل العنصري، وهي جذور دورات الدم، ومُحرك الإرهاب، ووقود الحروب، وهو ما يتم تجاهله، وصرف الأنظار عنه عمدًا، بذرائع واهية، منها مواجهة إيران ومحورها في المنطقة.

وفي اختراق بالغ الخطورة، نفذ جهاز الاستخبارات الإسرائيلي "الموساد" والجيش الإسرائيلي، يوم الثلاثاء 17 سبتمبر/أيلول 2024، عملية استهدفت شبكة الاتصالات التابعة لحزب الله اللبناني، إذ فجرت الآلاف من أجهزة الاتصال في وقت واحد، مما خلّف آلاف الجرحى في جميع أنحاء لبنان، في أخطر هجوم تشنه إسرائيل على حزب الله، وعملية ثانية نُفذت في اليوم التالي، الأربعاء 18 سبتمبر/أيلول 2024، فجرت فيها إسرائيل أيضًا آلاف الأجهزة، من نوع آخر، في إطار شبكات اتصالات حزب الله، ضمن سلسلة من عمليات الاستهداف الإسرائيلية طالت قيادات الحزب وبناءه وهياكله، بسبب هجماته ضد إسرائيل، وقد أسفر أكبر هجوم جوي تشنه إسرائيل على لبنان منذ عقود، يوم الإثنين 23 سبتمبر/أيلول 2024، عن مقتل أكثر من 500 شخص.

ولم تتوقف الآلة الحربية للكلب الإسرائيلي المسعور، عند تلك العمليات النوعية، وذهبت إلى المدى الأبعد، ونفذت عمليتها الأكبر والأخطر، التي طالت مساء الجمعة 27 سبتمبر/أيلول 2024، حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله اللبناني، العدو اللدود لإسرائيل، على امتداد زهاء ثلاثة عقود، وطالت معه عددًا كبيرًا من قيادات الحزب، إذ ألقت مقاتلات إسرائيلية من طراز إف-15 آي، نحو ثمانين قُنبلة موجهة، مُخصصة لاختراق التحصينات، زنة كل قنبلة طن، سوت أربعة مبان على الأقل بالأرض، بعد أن كانت قد نجحت في اغتيال فؤاد شكر، أحد الأذرع اليمنى لنصر الله، في الثلاثين من يوليو/تموز 2024، وهي نقطة تحول جيوسياسية، وتصعيد دراماتيكي يدفع الشرق الأوسط إلى الاقتراب من الحرب الشاملة متعددة الجبهات.
وقد نجحت إسرائيل في اغتيال نصر الله، بعد أن حددت الاستخبارات الإسرائيلية أنه متوجه إلى ما أسماه جيش الدفاع الإسرائيلي "مخبأ القيادة والسيطرة"، لحضور اجتماع ضم عددًا من كبار قادة حزب الله، وقائد إيراني كبير لعمليات الحرس الثوري.

وعلى الرغم من الضربات النوعية وغير المسبوقة التي طالت قيادات الحزب وبنيته، فإن تسلسل القيادة المرن، فضلا عن شبكة الأنفاق الواسعة والترسانة الضخمة من الصواريخ والأسلحة التي بناها على مدى عقود، عززت قدرة الحزب على امتصاص تلك الضربات، ومنحته القدرة على الصمود في وجه عمليات الاستهداف الإسرائيلية القاصمة وغير المسبوقة، التي قوضت جزءًا من قوة حزب الله، إذ قدّر تقرير للكونغرس الأميركي، يوم الجمعة 20 سبتمبر/أيلول 2024 أن عدد مقاتلي الحزب يتراوح بين 40 و50 ألف مقاتل، وهو نصف العدد الذي سبق أن قاله نصر الله، إذ قال إن قوام مقاتلي الحزب يبلغ 100 ألف مقاتل.

أوان الجبهة الشمالية

حروب الشبكات

خمسة عقود من النفوذ الإيراني في سوريا

خلافاً للعراق ولبنان وفلسطين واليمن، ارتبطت إيران بعلاقة رسمية وثيقة مع نظام الأسد، الذي حكم سوريا زهاء خمسة عقود، إذ تعود العلاقة بين إيران الخمينية ونظام الأسد إلى بدايات الثورة الخُمينية في إيران عام 1979، فقد شكلت سوريا، بقيادة حافظ الأسد، حليفًا استراتيجيًا لطهران في منطقة الشرق الأوسط، ومن المفارقات أن نظام الأسد قد دعم إيران في حربها مع العراق، وقد تميزت هذه العلاقة بتوافق المصالح السياسية والجيوسياسية، لاسيما في مواجهة التحديات المشتركة، مثل العداء مع إسرائيل، والنفوذ الغربي في المنطقة.
وبرز الدعم الإيراني لنظام الأسد بصورة أكبر عقب الانتفاضة السورية التي اندلعت في مارس/آذار 2011، ضد نظام بشار الأسد، فقد انخرطت إيران في حماية النظام أمنياً وعسكرياً، إذ تعد بقاء النظام جزءًا من مصالحها الحيوية، واستمرارًا لمحورها الإقليمي الممتد من طهران إلى بيروت عبر بغداد ودمشق. وتحت المظلة الإيرانية انخرط حزب الله اللبناني في قمع الانتفاضة السورية ضد نظام بشار الأسد، وتحتفظ الذاكرة الحقوقية السورية بفصول قاتمة من الانتهاكات التي تورطت فيها ثلاث قوى خارجية، هي: الخلايا الإيرانية، ومجاميع حزب الله اللبناني، والمقاتلات الروسية، فضلاً عن المجموعات المُسلحة المتطرفة المناوئة لنظام الأسد المدعومة من عدد لا محدود من الدول حول العالم.

وفي المقابل، أتاح النظام السوري لإيران تعزيز نفوذها الإقليمي، من خلال السماح لها باستخدام المجال السوري لدعم حزب الله اللبناني والتشكيلات الأخرى، وهو ما جعل سوريا منصة إيرانية مُتقدمة في السياسة الأمنية والعسكرية الخارجية لإيران.

وعلى مدى عقود، أدار نظام الأسد (الأب والابن) ظهره للاحتلال الإسرائيلي، وللقضية الفلسطينية، حتى في الأشهر الأخيرة التي شهدت الاشتباك الإقليمي الواسع بين محور المقاومة المتمثل بحركة حماس والفصائل الفلسطينية (فلسطين)، وحزب الله (لبنان)، وجماعة أنصار الله (الحوثيين) (اليمن), وتشكيلات المقاومة الإسلامية (العراق)، وحتى حين استهدفت اسرائيل حزب الله بعمليات غير مسبوقة، من بوابة الثغرات السورية، فقد بقي نظام الأسد مُتفرجاً، مؤثراً السلامة، شأنه في ذلك شأن الأنظمة المطبعة في المنطقة.

لقد ركزت إيران على تقديم دعم أمني وعسكري إيراني لنظام الأسد، وقد كشفت الأحداث افتقاره إلى الحد الأدنى من الجاهزية العسكرية الدفاعية، أو الهجومية أو الاستخباراتية، سواء أمام الهجمات الإسرائيلية التي استباحت مراراً الأجواء السورية على امتداد سنوات، أم أمام تقدم قوات المعارضة السورية صوب دمشق، إذ انهارت خطوط دفاع قوات النظام في ظرف أيام قليلة، في حين تبخرت حصون الحماية الإيرانية والروسية بصورة صادمة.

بين يدي سوريا الجديدة

جانب من رحلة إيران في بلاد الرافدين

منذُ هزيمة الشاه إيران وانتصار الثورة الخمينية في العام 1979، شهدت الأرضية العراقية جولات عدة من جولات التنافس الأمريكي الإيراني، وخلال حقبة الحرب العراقية الإيرانية التي اندلعت في 22 سبتمبر/أيلول 1980، وامتدت حتى 20 أغسطس/آب 1988، دعمت الولايات المتحدة الأمريكية القوات العراقية وسلحتها وأمدتها بالمعلومات في حربها ضد إيران، بل أكثر من ذلك، وبعد نقاشات مطولة، أعادت واشنطن علاقاتها الدبلوماسية مع بغداد سنة 1985، وبالمقابل دعمت طهران تشكيل فصائل شيعية مُسلحة معارضة للنظام العراقي.

لقد عمدت الولايات المتحدة الأمريكية تجاه العراق وإيران إلى إستراتيجية تُلخصها التصريحات المنسوبة إلى وزير الخارجية الأمريكي البارز هنري كسنجر : "هذه أول حرب في التاريخ أتمنى أن لا يخرج منها طرف منتصراً، وإنما يخرج طرفاها وكلاهما مهزوم!"، و "إن الهدف الذي نحاول الوصول إليه من جراء هذا النزاع يتمثل في القضاء على من نرى أنهما قوتان معاديتان لأمريكا، لا نحب العراق ولا إيران كلاهما عدو لمصالحنا الاستراتيجية في المنطقة والعالم".

وعقب غزو الكويت في العام 1990، بات صدام حسين بالنسبة للأمريكيين -كما للإيرانيين- مُعضلة مُشتركة، وفي أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول، قررت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش تغيير النظام العراقي برئاسة صدام حسين، إذ بدأ فصل جديد في العلاقات الإيرانية الأمريكية، شهد حالة من التساكن والتخادم على الساحة العراقية، لخصها المؤرخ الفرنسي جان بيار فيليو بالقول: "كان كل تراجع أمريكي وسط الفوضى التي سببها الاجتياح العنيف يعود بالمنفعة على إيران".

ومع سقوط نظام صدام حسين عام 2003، وعوضاً عن وعود التحول الديمقراطي الأمريكية في العراق، هيمنت على المشهد العراقي ما بعد نظام صدام خارطة تقسيم طائفي (شيعي، سني، كردي، إلخ)، برعاية أمريكية إيرانية، إذ تصاعدت العلاقة بين إيران والفصائل العراقية المسلحة، إذ قدمت إيران لتلك الفصائل دعماً شاملاً يشمل التمويل، والتدريب العسكري، وتسليحها من خلال الحرس الثوري الإيراني، بهدف تعزيز نفوذها في العراق والمنطقة. وبدورها عملت تلك الفصائل لتكون أذرعاً استراتيجية لإيران، تسهم في تحقيق أهدافها الجيوسياسية، سواء عبر مواجهة القوات الأمريكية في العراق أم عبر تعزيز سيطرتها على الممرات البرية التي تربط طهران بدمشق وبيروت.

وفي ظل جُملة من السياسات الخاطئة بوغت الفاعلون كافة في ربيع سنة 2014 بالتقدم السريع لتنظيم الدولة الإسلامية التي نجحت في الانتصار على القوات الحكومية التي نخرتها السياسات القمعية والانقسامات، في الفلوجة أولا ثم في الموصل، ليُصبح عنوان مكافحة الإرهاب مظلة لعلاقة أمريكية إيرانية دافئة على أرض العراق.

ولم تدم رحلة شهر العسل الأمريكية الإيرانية على ضفاف الفرات طويلاً، فقد ارتدت صراعات الطرفين عند حدود سوريا، وفي أكثر من ملف من ملفات المنطقة لتنغص حالة التساكن في بغداد، إذ تعرضت مواقع أمريكية عدة لهجمات من قبل التشكيلات العراقية الموالية لإيران، فكان رد إدارة ترامب حاسماً بهجوم صاروخي في بغداد أودى بحياة الجنرال الإيراني قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، قائد الحشد الشعبي. وبعدها بأيام، وعقب ذلك شنت إيران هجمات ضد قواعد أمريكية في العراق.

ومنذُ السابع من أكتوبر/تشرين 2023، صعّدت الفصائل العراقية المسلحة الموالية لإيران من هجماتها ضد إسرائيل، إذ أعلنت فصائل عراقية عن شن عشرات الهجمات على أهداف في إيلات جنوبي إسرائيل باستخدام الطائرات المسيّرة، فضلاً عن شن هجمات على أهداف حيوية في حيفا ومينائها بواسطة الطيران المسيّر، مؤكدة استمرار عملياتها ضد “معاقل الأعداء” بوتيرة متصاعدة.

وبالتوازي مع ذلك، شنت الفصائل العراقية هجمات ضد القوات الأمريكية في العراق وسوريا، رداً على دعم واشنطن لإسرائيل، فضلاً عن استهدافها لإسرائيل، وذلك في سياق التوترات الإقليمية المتزايدة، إذ أعلنت الفصائل العراقية، التي تُعرف بـ”المقاومة الإسلامية في العراق”، مسؤوليتها عما لا يقل عن 92 هجومًا على قواعد أمريكية في العراق وسوريا منذ اندلاع حرب غزة.

وقد استهدفت هجمات الفصائل العراقية قواعد أمريكية مثل قاعدة عين الأسد في الأنبار، وقاعدة حرير في أربيل، فضلاً عن مواقع في محيط مطاري بغداد وأربيل الدوليين، ومواقع على الحدود السورية الأُردنية . كما طالت الاستهدافات قاعدة التنف الأمريكية جنوبي سوريا، وقواعد أخرى للتحالف الدولي ضد داعش في الحسكة ودير الزور شرقي سوريا.

عقدين من النفوذ الإيراني في اليمن

مع دعم نظام صالح والسعودية الرسمي لتيارات سلفية في اليمن، ومنها محافظة صعدة أحد معاقل الزيدية التاريخية في اليمن، تأسست خلال العام 2002 حركة إحيائية زيدية في محافظة صعدة، بقيادة حسين بدر الدين الحوثي، أُطلق عليها شعبياً اسم (جماعة الشعار)، صاحب تأسيسها ونشاطها في المساجد توترٌ مع السلطات الرسمية، وبعد توتر دام شهوراً عدة بين مرددي الشعار والسلطات اليمنية، اندلع في 19 يونيو/حزيران 2004 نزاع مسلح بين حسين بدر الدين الحوثي وأنصاره من جهة وقوات الأمن الحكومية من جهة أخرى، إذ مر هذا النزاع الذي استمر نحو خمس سنوات بست جولات رئيسة من القتال.
وعلى الرغم من أن النزاع بدأ في جولته الأولى، في قرية مران بمديرية حيدان بمحافظة صعدة ( 250 كيلو متر) شمال العاصمة صنعاء، فإنه ازداد تعقيداً واتساعاً جولة بعد أخرى، ليصل في جولته الخامسة إلى مشارف صنعاء، وليضم مسرح العمليات الحربية بعد ذلك محافظتي عمران والجوف، فضلاً عن صعدة وصنعاء، بالتزامن مع اتساع دائرة ضحايا المواجهات وملفاتها وأطرافها، وازدياد المخاوف من اتساع دائرتها لتشمل محافظات أخرى .
وفي الجولة السادسة من الحرب، شنت مُقاتلات المملكة العربية السعودية في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2009 غارات جوية على مواقع جماعة الحوثي في نطاق واسع، وبذلك دشنت دخولها الرسمي والمباشر في حرب صعدة، وشارك الجيش السعودي في العمليات الحربية حتى توقف الجولة السادسة من الحرب في 11 فبراير/شباط 2010م.

ومنذ اندلاع الجولة الأولى للنزاع وأطرافه لم تتوقف عن استدعاء العامل الإقليمي والدولي ، ففي حين دأبت السلطات مراراً على اتهام إيران بدعم جماعة الحوثي ، تتهم الجماعة بالمقابل السلطات بأنها تخوض حرباً بالنيابة عن المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، وقد حاكمت السلطات اليمنية مجموعات عدة بِعَدّها خلايا متصلة بإيران، وربطها بأحداث صعدة ، وعلى الرغم من العدد الكبير للمجموعات التي ضبطتها السلطات، وقدمتها للمحاكمة بتهم التخابر مع إيران، وعلى الرغم من التغطية الإعلامية الواسعة فإنها بدت كأنها محاولة لاستقطاب دعم دولي، أمريكي –سعودي بالتحديد، فإنها فشلت في ذلك كما أوضحت رسائل السفير الأمريكي وقتئذ التي نشرها موقع ويكليكس، وقال جيفري فيلتمان مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى حينها في تصريحات صحفية أنه لا يوجد دلائل على دعم طهران للمتمردين الحوثيين في اليمن.

ومنذ العام 2010، ظلت جماعة الحوثي جماعة مسلحة صغيرة يتركز وجودها في بعض مديريات محافظة صعدة، ومع اندلاع الاحتجاجات الشعبية المناهضة لنظام صالح انخرطت الجماعة في التظاهرات، ثم قامت الجماعة بسلسلة جديد من الحروب الصغيرة، في مواجهة تشكيلات حزب الإصلاح والسلفيين والمجاميع القبلية وبعض الوحدات العسكرية شمال الشمال، في الجوف، وحجة، وعمران، وصولاً إلى تقدم الجماعة صوب العاصمة، وفرضت الجماعة حصاراً مسلحاً على العاصمة صنعاء، وانتهاءً بالسيطرة عليها، في 21 سبتمبر/أيلول 2014، وبقية المحافظات بالقوة المسلحة في ظل تواطؤ إقليمي ودولي، بالتوازي مع التفاهمات الأمريكية-الإيرانية، تبعًا للاتفاق النووي، مع الارتياح الغربي لفرية قدرة جماعة الحوثيين على إنجاز مهمة مكافحة الإرهاب السني، في ظل إخفاقات الهياكل الحكومية الضعيفة والمهترئة.

وعلى مدى عقدين، تطورت في الظلام خلال حروب صعدة علاقة إيران بجماعة أنصار الله (الحوثيين)، وبرزت هذه العلاقة بشكل واضح عقب اندلاع الحرب اليمنية أواخر العام 2014 ومع إعلان التدخل العسكري للتحالف بقيادة السعودية والإمارات، وعلى الرغم من أن طهران تنفي دعمها المباشر للحوثيين، فإن ثمة مؤشرات عدة تؤكد عمق العلاقة بين الطرفين، فإلى جانب الدعم السياسي والإعلامي، استغل الحوثيون دعم إيران لتطوير قدراتهم العسكرية، بما في ذلك تطوير الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة، إذ ينظر الحوثيون إلى إيران بوصفها شريكاً استراتيجياً يوفر لهم الموارد والخبرات لمواصلة حربهم، وتحقيق طموحاتهم السياسية، وبالنسبة لإيران أصبحت جماعة الحوثيين حليفًا استراتيجيًا يعبر عن نفوذ طهران في شبه الجزيرة العربية، ويتيح لها تعزيز نفوذها في اليمن والبحر الأحمر ومضيق باب المندب، الذي يُعدّ موقعاً حيوياً للملاحة الدولية، فضلاً عن مواجهة النفوذ السعودي في المنطقة، من خاصرتها الجنوبية.

ومع اندلاع حرب غزة، التي أعقبت هجوم الفصائل الفلسطينية على المستوطنات الإسرائيلية في منطقة غلاف غزة، في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وفي ظل الجرائم الإسرائيلية المروعة المرتكبة على نطاق واسع في قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة، وتفاقم الأوضاع الإنسانية، برز دور جماعة أنصار الله (الحوثيين) على المستوى الإقليمي، إذ شنت من مناطق سيطرتها الواسعة في اليمن، منذ التاسع عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، سلسلة من الهجمات العسكرية استهدفت سفن الملاحة المتجهة من وإلى الموانئ الإسرائيلية عبر مضيق باب المندب والبحر الأحمر وخليج عدن، وأكدت الجماعة أن وقف هجماتها في البحر الأحمر مرهونٌ بوقف العمليات العسكرية الإسرائيلية، واستئناف تدفق المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، وقد أجبرت تلك الهجمات الآلاف من السفن على إعادة توجيه مسارها، والالتفاف حول جنوب إفريقيا عبر رأس الرجاء الصالح، مما تسبب في إطالة المدة الزمنية لوصول السفن، وزيادة التكاليف والأعباء المالية والاقتصادية على تلك السفن وعلى الشركات المالكة لها، فضلاً عن ارتفاع أسعار الشحن والتأمين.

وعلى امتداد عام كامل، أخفقت ما يزيد عن 930 هجمة من هجمات القوات الأمريكية والبريطاني، التي استهدفت مناطق سيطرة جماعة الحوثيين من اليمن، عن وقف تلك هجمات أو الحد منها ومن تأثيراتها على إسرائيل، كما لم تنجح هجمات التحالف الأمريكي البريطاني في تأمين عبور السفن إلى الموانئ الإسرائيلية من خلال البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن.

ومع استمرار حرب غزة، صعّدت جماعة أنصار الله (الحوثيين) من هجماتها ضد المستعمرات الإسرائيلية، إذ أفادت صحيفة معاريف الإسرائيلية في 21 ديسمبر/كانون الأول 2024 أن الحوثيين أطلقوا أكثر من 200 صاروخ وأكثر من 170 مسيرة متفجرة على إسرائيل منذ بداية الحرب، وقد ردت إسرائيل بشن هجمات جوية على مرافق البنية التحتية في الحديدة وصنعاء، وهددت بشن مزيد من الهجمات ضد مرافق البنية التحتية في اليمن إذا واصلت جماعة الحوثي شن هجمات ضد إسرائيل.

حالة الدول والمجتمعات الحليفة لإيران

بمعزل عن حالة الاشتباك الإقليمي الواسع بسبب حرب غزة، وعن مآلات ذلك الاشتباك، وعن حسابات الربح والخسارة، المباشرة وغير المباشرة، وعن قوة الموقف الأخلاقي لأي مساندة للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة، يتوجب علينا التدقيق في حالة كل من إيران أولاً، وسوريا ولبنان وسوريا والعراق، التي استوطنها الأخطبوط الإيراني، ثانياً، إذ انحصر الاستثمار الإيراني في حيازة البارود والصواعق والشعارات، بمعزل عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والأمنية والسياسية، لتلك المجتمعات والدول.

والثابت الآن، وبعد عقود من تصدير الثورة الخمينية، إلى أكثر من بؤرة في المنطقة أن إيران لم تقدم أي شكل من أشكال الدعم الاقتصادي والتنموي، لأي من تلك الدول والمجتمعات الحليفة، إذ عمدت إيران إلى ترك لبنان -بعد استفراد حزب الله بالهيمنة على قرارها- تغرق في الأزمات المعيشية والإنسانية والاقتصادية، وبالمثل تعاملت مع أوضاع كُل من سوريا والعراق واليمن، وهو ما يُعرف تلك التحالفات، أنها تحالفات تكتيكية لا استراتيجية، إذ أفصحت أوضاع تلك البلدان عن نظرة إيران الحقيقية لحلفائها، وللمجتمعات والدول التي يبسطون سيطرتهم عليها.

وبعد أن أسهمت إيران الخُمينية والسعودية الوهابية، بتغذية الصراع الطائفي في المنطقة، ومُفاقمة الانقسامات، ونذرت بلدانها ومجتمعاتها لهيمنة محاور إقليمية ودولية متعددة، فإن السمة الغالبة لدويلات الأخطبوط الإيراني في المنطقة العربية، تقول إنها قد دُفعت إلى فخاخ الاحتراب، والتمزق، والفساد، والفقر، والبطالة، والفشل، وسوء الإدارة، وتمزق النسيج الاجتماعي، وانتهاك حقوق الأفراد، ففي أوضاع كل من لبنان وسوريا والعراق واليمن أدلة فشل الثورة الخُمينية في حواضنها في أكثر من بلد عربي، بعد أن فشلت في موطنها داخل المجال القُطري الإيراني.

بين أمريكا وإيران

قيامة إيران وأخطبوطها

على مدى أربعة عقود، ظل التركيز موجهاً نحو النشاط الإيراني في أكثر من بلد في المنطقة، بمعزل عن دراسة حالة إيران من الداخل، إذ ظل التركيز على أدوارها الإقليمية، وعلى برنامجها النووي، وأزماتها السياسية مع النظام الغربي، وظل الشأن الإيراني بين سرديتين دعائيتين، سردية النظام الإيراني ومحوره، وسردية النظام الأمريكي ومحوره.

وعلى امتداد السنوات الماضية، ظلت كثير من الأسئلة تفرض نفسها، مثل: لماذا لم تقدم إيران أي شكل من أشكال الدعم الاقتصادي والتنموي للبلدان التي صارت تحت حُكم حلفاء طهران مثل اليمن، ولبنان، كونها استثماراً استراتيجياً لها؟ ولماذا تترك إيران حلفاءها في مواجهة الأزمات، وفي مواجهة الشعوب، على الرغم من مواردها الضخمة؟

لقد بقيت تلك الأسئلة تبحث عن إجابات موضوعية، مُتجردة من تأثير سرديات محاور الصراع، حتى يوم الأحد 19 مايو/ آيار 2024، وهو يوم مقتل إبراهيم رئيسي، ثامن رؤساء الجمهورية الإيرانية، مع عدد من معاونيه، الذين كان أبرزهم وزير الخارجية، أمير عبد اللهيان، إثر تحطم طائرة مروحية، في منطقة شمال غرب إيران.

لقد قدم ذلك الحادث صورة كاشفة عن حالة إيران، بوصفها نظاماً، ومشروعاً، وفاعلاً إقليمياً، وقدم إجابات لكثير من الأسئلة حول إيران وأدوارها الإقليمية، وبشأن الأوضاع الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والعسكرية، والأمنية، في دول (المحور الإيراني)، وهي حالة يُلخصها المثل الشائع: فاقد النهضة والقوة لا يُعطيها.

لقد كشف ذلك الحادث المروع -فضلاً عن سلسلة طويلة من عمليات الاستهداف الإسرائيلية الأمريكية داخل إيران وخارجها- ما كان مستوراً من حقائق حالة النظام الإيراني، الذي بدا - في أكثر مراحل الصراع خطورة- في حالة غير مسبوقة من الضعف والهشاشة والانكشاف، وأظهر كثيراً من حقائق حالة الترهل والتقادم والضُعف التي باتت تعيشها بُناه وهياكله ووسائله.

عن عوامل وشروط قوة الدول ونهوضها

لقد كان من المؤكد أنَّ تداعيات ذلك الحادث الصادم، على وضع إيران، لن يكون لها حد، سواءً أكان الحادث مُدبراً أم لا، فقد مثّل فاتحة لمستوى جديد من عمليات الاستهداف الإسرائيلية - الأمريكية، غايتها تقويض النظام الإيراني، وتعطيل أدواره الإقليمية النشطة الرامية لاقتطاع مساحات وازنة لنفوذها على نطاق واسع من خارطة الشرق الأوسط، وفق تصور إيران الخاص بها لحدود مصالحها الجيوسياسية.

وفي مدة قياسية، كان نظام إيران أمام محطات اختبار دقيقة، أبرزها: الهجوم الإسرائيلي على قنصلية إيران في دمشق، وحادثة تحطم مروحية الرئيس الإيراني، التي أدت إلى مقتله مع عدد من معاونيه، أبرزهم وزير الخارجية، إلى اغتيال زعيم حماس إسماعيل هنية في قلب طهران، إلى استباحة حزب الله، وصولاً إلى سقوط نظام الأسد، إذ تكشفت تباعا حقائق جلية حول قوة إيران الحقيقية، مغايرة كليا للصورة الذهنية التي رسختها الدعاية الإيرانية، والدعاية المُضادة لها، زهاء أربعة عقود، بوصفها فاعلا إقليميا قويا، يلعب أدواراً محوريةً، في الشؤون الإقليمية والدولية.

مآزق إيران

ومن واقع ما عايشناه على امتداد الشهور الماضية، فإن مرد نفوق الأخطبوط الإيراني المُبكر، فضلاً عن الفجوة الهائلة التي ظهرت بجلاء بين قوة إيران الحقيقية، وبين قوة عدوتها إسرائيل وخلفها أمريكا، في جولة الصراع الحالية، يتمثل أيضاً في جُملة من الأسباب الرئيسة المستوطنة لحالة إيران على مستويين:

المستوى الأول: جملة العوامل المُتعلقة بحالة النظام الإيراني، وغياب الأنموذج الحضاري، والطابع العقائدي للنظام، كونه محوراً رئيساً من محاور الصراع الطائفي في المنطقة، وضعف الحوكمة وسوء الإدارة والفساد، وتقادم البُنى والهياكل والمؤسسات والوسائل وترهلها، وتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وقمع حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة، وغياب القضاء العادل والمستقل، والفصل بين السلطات، والاستبداد.

المستوى الثاني: عوامل مُتعلقة بسياسة النظام الإيراني الخارجية غير البناءة في محيطه الإقليمي، واستراتيجية الاستثمار في بناء فصائل مسلحة طائفية، وتغذية الصراعات الداخلية، ودعم نُظم مُستبدة، والإحجام عن الاستثمار في البناء الاقتصادي والتنموي في شبكة الحلفاء، فضلاً عن العوامل الخاصة بسياق كل حالة من حالات التحالف في المنطقة العربية.

محطات تهاوي الأخطبوط

إذا ما ذهبنا إلى استعراض محطات تهاوي الأخطبوط، بدءًا من فلسطين، العنوان الرئيس لتحالف إيران في المنطقة، إذ ما يزال من غير المعلوم ماهية الدعم الذي قدمته إيران فعلياً لحركة حماس والفصائل الفلسطينية، غير أن الثابت أن إسرائيل قد استفردت على مدى ما يزيد عن عام كامل، بالفصائل الفلسطينية وبالشعب الفلسطيني عموماً، وتمادت في كسر الخطوط الحمراء كافة التي أعلنتها إيران، وأقدمت على عمليات نوعية على امتداد خطوط التماس مع إيران ومحورها، وفي أكثر من عمق، خارج حدود المعركة الرئيسة في قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة، وسط اطمئنان آلتها الحربية لابتلاع قائدة محور المقاومة(إيران) لضفادعها واحداً تلو الآخر، دون ردع أو رد، إذ تولت إسرائيل بحرية تامة إعادة رسم خارطة المنطقة، وتطويع خصومها على سقوف جديدة في عمق حدودهم القُطرية، في حين ظلت إيران تراوح عند حدود الصبر الاستراتيجي وتكرر إعلان الاحتفاظ بحق الرد.

لقد كان الاعتقاد سائداً بأن حزب الله اللبناني، هو أهم استثمار إيراني إقليمي، وقد ترسخ ذلك الاعتقاد على امتداد مسيرة الحزب، من حرب الاستنزاف حتى تحرير الجنوب اللبناني، إلى حرب تموز، إلى توغله في الحياة السياسية اللبنانية، وعلاقته بمراكز القوى والفساد، إلى دوره في الاغتيالات السياسية، إلى تمسكه بالنظام السياسي الطائفي، إلى رحلة الآثام داخل المجال القُطري السوري لحماية نظام الأسد من العام 2011، إلى معركته لمساندة غزة، وصولاً إلى ما طاله من ضربات قاصمة، كشفت كثيراً من الحقائق بشأن مُحددات منظور إيران لتحالفاتها، أهمها: أن إيران تركت حزب الله في نهاية المطاف يتلقى منفرداً سلسلة من الضربات القاصمة، بظهر مكشوف، أمنياً وعسكرياً وسياسياً، واكتفت بالتصريحات النارية على منصات شبكة دعايتها الضخمة.

وفي سياق آخر، قدمت إيران درساً قاسياً لحلفائها في المنطقة، على الضفة السورية، إذ تابعت بحياد تام مجريات تقدم قوات المعارضة السورية المدعومة من تركيا للسيطرة على المدن السورية مدينة تلو أخرى، وصولاً إلى العاصمة السورية دمشق، وإسقاط نظام بشار الأسد، بعد أن تبخرت الخطوط الدفاعية الإيرانية من المجال السوري، إذ كُشفت فصول تخلي إيران عن أحد حُلفائها الرئيسين في المنطقة، على الرغم مما كان يمُثله النظام السوري بالنسبة للإستراتيجية الأمنية الإقليمية الإيرانية، بوصفها منصة متقدمة لتذخير فصائلها المختلفة في المنطقة، وعلى رأسها حزب الله اللبناني، والفصائل العراقية.

وعقب سقوط نظام الأسد، اتجهت الأنظار إلى المساحة الثالثة والرابعة من مساحات النفوذ الإيراني، بدءًا من العراق، إذ يدير الفاعلون المحليون والإقليميون والدوليون المشهد فيه بتركة ثقيلة من حمولة خبرة القفزات في الظلام، مروراً باليمن، الذي نذرته جملة من التعقيدات المحلية والإقليمية والدولية لفُسحة من الجمود، إلا من مساعي عدد من الأطراف المحلية المناوئة لجماعة أنصار الله (الحوثيين) للاستفادة من المُتغير التكتيكي في المزاج الأمريكي من الجماعة اليمنية المتحالفة مع إيران بسبب هجماتها المستمرة ضد سفن الملاحة المتجهة من وإلى الموانئ الإسرائيلية عبر مضيق باب المندب والبحر الأحمر وخليج عدن، وهجماتها على العمق الإسرائيلي، وبالتزامن عمليات التحالف الأمريكي البريطاني، ومع العمليات الإسرائيلية ضد مرافق البنية التحتية في مناطق سيطرة جماعة الحوثيين، غير أن الحراك الدعائي الضخم الذي دشنته شبكات الأطراف الحربية المناوئة لجماعة الحوثيين، لم يُجاوز عملياً حدود مساحات شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، حتى آخر أيام العام 2024 على الأقل.

وبغض النظر عن مصير ما تبقى من أذرع أخطبوط إيران في المنطقة العربية، وعن مصير النظام الإيراني نفسه، فإن المشهد في المنطقة ما يزال يشهد غياباً كلياً لوجود أي بوادر مشروع عربي ناضج قادر على الدفاع عن مصالح مجتمعات المنطقة ودولها، في مساحات تقع في عمق مجال الأمن القومي العربي، إذ يتحرك فاعلون عدة، وعلى رأسهم إسرائيل وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، وفق منظور كل منها لأمنها القومي.

لقد عايشنا خلال العقدين الماضيين رحلة صعود النفوذ الإيراني في المنطقة، ورحلة صعود الفصائل المتحالفة معها، وعايشنا في ظرف أسابيع فقط موسم نفوق الأخطبوط في مساحتين رئيستين على الأقل، لبنان وسوريا، في الوقت الذي ما يزال مصير النظام الإيراني نفسه مفتوحاً على كل الاحتمالات، كما هو حال حلفاء إيران في اليمن والعراق، حيث يسود الترقب لحظة تسلم ترامب السلطة في 25 يناير/كانون الثاني 2025، الذي من المؤكد أنه سيُباشر سياسة خارجية تجاه المنطقة مغايرة لسياسة سلفه بايدن

استخلاصات

إن أهم الدروس المُستلهمة مما مر من تجارب عدد من أذرع الأخطبوط الإيراني في المنطقة، أن أخطاء الأنظمة والمكونات الداخلية، بدءًا من انتهاكات حقوق الإنسان، والمظالم، والقمع، وإطلاق يد الأجهزة الأمنية للقمع، وسوء الإدارة، والفساد، وعدم وجود تعددية سياسية وحريات عامة، أنها أحصنة طروادة، تفتح الأبواب لإسقاطها وطي صفحتها إلى الأبد.

ومما قاله الدرس الإيراني وأثبتته تجارب عدد من الدول أن حيازة أسلحة نووية، وصواريخ بالستية قادرة على حمل رؤوس نووية لا يدل بالضرورة على تصاعد قوة تلك الدول، كما أنها لا تقدم أي مؤشرات على تعافي تلك البلدان وبدء نهضتها. فلم يقف امتلاك الاتحاد السوفييتي لأكبر مخزون في العالم من الرؤوس الحربية النووية حائلا دون انهياره وتفككه. وعندما امتلكت الهند وباكستان أسلحة نووية بعد سباق تسلح طويل بينهما لم يدشن ذلك عهودا جديدة من النهضة والنمو والقوة والاستقرار والازدهار. ولم تُخرِج ترسانة الأسلحة الضخمة كوريا الشمالية من عزلتها وأزماتها الُمتفاقمة، ولم تسهم، على الأقل، في تأمين مكانة معقولة لنظامها الحاكم للتفاعل مع السياسات الإقليمية والدولية؛ لأن الأمر لا يتوقف عند حيازة أطنان من البارود وصواعق تفجير، بمعزل عن حيازة تكنولوجيا متقدمة، وتقنيات تجهيز وتوجيه، ونُظم تخزين وإدارة وتأمين، ووسائل نقل وصيانة وتشغيل وتطوير، وقبل ذلك وبعده، وجود اقتصاد متماسك قادر على الصمود في وجه الصدمات، ووجود نظام حُكم، وإدارة حديث ذات كفاءة تستند على شرعية ومشروعية سليمة.

ومما تقوله لنا سلسلة طويلة من التجارب أن النهوض الحضاري لأي بلد مشروط بجُملة من العوامل، يتصدرها النهوض السياسي المرتكز على الحقوق السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في إطار المواطنة وسيادة القانون والعدالة والحكم الرشيد والإدارة الجيدة، وأن النُظم الشمولية التي تستهلك طاقات المجتمع من خلال تكتيكات قهر الأفراد والمجتمعات، وإخضاعهم، وتدجينهم وقولبتهم، حُبلى بعوامل الفشل والضعف والتخلف، وأنها محض خيالات، ومحض نمور من ورق، مهما بدا أحياناً أنها خلاف ذلك.

عن عوامل وشروط قوة الدول ونهوضها

إن إدراك تلك الحقائق المُستخلصة من رتل طويل من التجارب، وأخذها في الحسبان، بمسؤولية وجسارة، في مراحل عمليات إنجاز التحولات الوطنية النهضوية والخلاقة المختلفة يُمثل السبيل الأمثل والأرشد لتجنيب المجتمعات والدول الكلفة الباهظة للمغامرات غير المدروسة التي تستهلك طاقات أجيال عدة وفرصها، في طرق لن تؤدي إلا إلى مآلات حتمية، معلومة بالضرورة، لتكون قبورا جماعية أبدية، يستوطنها الخراب والضعف والتشظي والاحتراب والتخلف، طال الزمن أم قصر.

content

يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.