تجربة
عقب حادث مقتل إبراهيم رئيسي، ثامن رؤساء الجمهورية الإيرانية، مع عدد من معاونيه، أبرزهم وزير الخارجية، أمير عبد اللهيان، إثر تحطم طائرة مروحية، يوم الأحد 19 مايو/ آيار 2024، في منطقة شمال غرب إيران، كان من المؤكد أنَّ تداعيات ذلك الحادث الصادم، على وضع إيران، لن يكون لها حد، سواءً أكان الحادث مُدبراً أم لا. فإن كان مُدبراً، فهو ضربة قاتلة وخطيرة، تُمثل فاتحة لمستوى جديد من عمليات الاستهداف الإسرائيلية - الأمريكية، غايتها تقويض النظام الإيراني، وتعطيل أدواره الإقليمية النشطة الرامية لاقتطاع مساحات وازنة لنفوذها على نطاق واسع من خارطة الشرق الأوسط، وفق تصور إيران الخاص بها لحدود مصالحها الجيوسياسية المُعكِّرة لحالة الإذعان والاستلاب السائدة في المنطقة.
وإذا ما استُبعدت فرضية أن حادث تحطم مروحية رئيس إيران ومقتله، مُدبراً، وأنه محض حادث عرضي، فهو حينذئذ، لا يقل عن الاحتمال الأول، في خطورة دلالاته وأبعاده وتداعياته، البالغة، فقد بدى النظام الإيراني، عاجزاً عن تأمين نقل رئيس الدولة، وعن تأمين سلامته، داخل مجاله الجغرافي، والأدهى من ذلك أنه قد بدا عاجزاً لساعات طويلة عن تحديد آخر موقع للرئيس، وعن الوصول إلى رفاته، قبل أن توكل مهمة تحديد الموقع والعثور على الجُثمان إلى مُسيَّرة أرسلتها الجارة تركيا، بعد تقديم إيران طلب المساعدة، والتي أنجزت المهمة نهار اليوم التالي لوقوع الحادث، في ظرف أقل من ساعة واحدة من بدء مهمتها.
وفي كلا الحالتين، فقد كشف ذلك الحادث المروع -بالإضافة إلى سلسلة طويلة من عمليات الاستهداف الإسرائيلية الأمريكية داخل إيران وخارجها- ما كان مستوراً من حقائق حالة النظام الإيراني، الذي بدا -في أكثر مراحل الصراع خطورة- في حالة غير مسبوقة، من الضعف والهشاشة والانكشاف، وعن الكثير من حقائق حالة الترهل والتقادم والضُعف التي باتت تعيشها بُناه وهياكله ووسائله.
وبالمثل، فإن اغتيال الدكتور إسماعيل هنية، رئيس حركة حماس، في هجوم استهدفه في محل استضافته في قلب طهران، في وقتٍ مُبكر من يوم الأربعاء، الموافق 31 يوليو/ تموز 2024، خلال حضوره للمشاركة في مراسيم تنصيب الرئيس الإيراني المُنتخب، خلفاً لرئيسها الراحل، والذي نُفذ في سياق اشتباك إقليمي غير مسبوق، أحد أطرافه الرئيسية إيران وحلفاؤها في "محور المقاومة" والفصائل الفلسطينية، بمن فيها حركة حماس التي يقف (هنية) على رأسها، وهو حادث، لا يقل في خطورةِ دلالاته وأبعاده وانعكاساته البالغة، لجهة الأمن القومي الإيراني، ولجهة حالة الصراع الإقليمي، ولجهة مُستقبل الشرق الأوسط، عن حادث مقتل الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي، وعن سلسلة طويلة من عمليات الاستهداف الإسرائيلية التي طالت أهدافاً استراتيجية بالغة الأهمية، داخل إيران وخارجها.
وخلافاً لكل ما مر من جولات الصراع مع إسرائيل ورعاتها الغربيين، فإن نظام الثورة الإسلامية الخُمينية في إيران، سيدفع كُلفًا باهظة، إذا ما اختار هذه المرة أيضاً، ابتلاع ضِفدع عملية اغتيال (هنية)، كما حدث مع العديد من العمليات الخطيرة التي كسرت فيها إسرائيل مرارًا خطوط إيران الحمراء، منها عمليات إسرائيلية استهدفت خبراء إيرانيين في قلب إيران ذاتها على امتداد السنوات الماضية، سواءً أكان ذلك الابتلاع تحت عنوان (الصبر الإستراتيجي)، المربوط بامتلاك (أسلحة نووية) رادعة، أم عمدت إلى خيار الرد مُجدداً من خلال شبكة من الفصائل المسلّحة الحليفة، في غير مكان من خارطة الشرق الأوسط، وهي تشكيلات مسلحة غير نظامية، تتسم العلاقة معها بالمرونة النسبية، فهي ليست مستقلّة تمامًا ولا مجرد تابع، وراسخة في بيئتِها، ومُجهّزة ومُدرّبة ومؤدلجة، ومتفلتة من قوانين ما بين الدول، بحيث تستطيع خدمة إيران دون أن تورّطها مُباشرة، طبقًا لتوصيف المفكر والدبلوماسي اللبناني غسان سلامة.
وما لم يكن هناك مراجعة إيرانية ذاتية شاملة، تُدقق في غربال الثغرات والثقوب الخطيرة في جدران الحماية الإيرانية، الهشة والركيكة، وترسم بعناية فائقة ماهية الرد ومستواه، فإن الأسوأ من عمليات الاستهداف والتقويض التي ستطال إيران قادمة لا محالة، وستتضاعف وقتذاك خسائر إيران حصراً، حيث من المؤكد أنها ستكون رهن تهديدات وجودية غير مسبوقة في تاريخها، إذا ما عمدت إلى تكرار التعامل غير الفعال مع أحدث نُسخة من عمليات الاستهداف الإسرائيلية، باللجوء إلى أحد خيارات خزانتها المألوفة، ولم تذهب إلى اختبار نهج جديد أكثر فاعلية وجدوى، في وضع حد للتجاوزات الإسرائيلية المُتصاعدة، ووقتئذ، فإن كل تكتيكات المناورة الإيرانية الرامية إلى تجنب أو تأجيل الاشتباك المباشر مع إسرائيل، ستكون محض فُسح وأوقات وفرص إضافية، مُهداة لصُنَّاع القرار الحربي الإسرائيلي، ورعاتهم الأمريكيين.
إن النتيجة الحتمية لتكرار التعامل بذلك النهج البراجماتي، ستتمثل في ضمان استمرار احتفاظ اليد الإسرائيلية الطولى بزمام المبادرة، حرباً وسياسةً، في الوقت الذي لا زالت هي من تختار بحرية تامة، وبعناية فائقة، أوان ومكان وماهية وأسقف عمليات الاشتباك، هجوماً ودفاعاً، مبادئةً ورداً، باستثناء هجوم السابع من أكتوبر، وهو ما يتيح لها الاستفراد بأعدائها عدواً تلو الآخر، في ظل حراسة إقليمية ودولية، تعمل بكل الوسائل على فرض سقوف وخطوط حمراء لقواعد الاشتباك، لضمان بقاء العمليات العدائية مع إسرائيل تحت السيطرة، وهي سقوف وخطوط وقواعد مُلزمة لكافة الأطراف في المنطقة، عدا إسرائيل، التي تُباشر العمليات العدائية، متجاوزة كل السقوف، ومُنتهكة كل الخطوط الحمراء، وخارقة كل القواعد، منذُ زُهاء تسعة أشهر من جولة الصراع التي اندلعت منذ السابع من أكتوبر.
لقد فشلت الآلة الحربية الإسرائيلية، على امتداد ما يزيد عن تسعة أشهر من حربها ضد الفلسطينيين في غزة، على كل فظاعاتها، عن استعادة سمة الردع، التي كابدت لبناء صورتها الذهنية زهاء سبعة عقود من عمرها، سواءً على مستوى فلسطين أم على مستوى الإقليم، لكنها من خلال اغتيال (هنية)، في قلب طهران، توقيتاً ومكاناً وهدفاً ومناسبةً، أنجزت تلك المهمة، أو تكاد.
والمؤكد الان، أن تداعيات اغتيال (هنية)، بالإضافة إلى حادث مقتل الرئيس الإيراني السابق، مروراً بالهجوم الإسرائيلي على قنصلية إيران في دمشق، والرد الإيراني المحدود وغير الفعال على إسرائيل، وقبلها اغتيال قاسم سليماني، بالإضافة إلى سلسلة طويلة من عمليات الاستهداف الإسرائيلية التي طالت أهدافاً استراتيجية داخل إيران وخارجها، على وضع إيران وعلى أمنها القومي وعلى مستقبلها ووجودها، لن يكون لها حد، ولا ينبغي الاستهانة بها، والتي ستُمثل قاطرة لسلسلة قادمة من عمليات الاستهداف، غايتها تقويض النظام الإيراني، وتعطيل أدواره الإقليمية النشطة، في غير مكان من منطقة الشرق الأوسط، وفق تصور إيران الخاص بها لحدود مصالحها الجيوسياسية.
بكل الحسابات، فإن أكبر المتضررين من عملية اغتيال (هنية) هي إيران، حيثُ استُهدِف في عاصمتها وفي ضيافتها، على هامش مراسيم تنصيب رئيسها الجديد، الذي انتُخب خلفاً لرئيسٍ قُتل في حادثٍ كاشف، بينما كان (هنية) آمناً في دولة صغيرة مثل قطر، ودولة منافسة مثل تركيا، وبدرجة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة، ستصيب شظايا عملية الاغتيال جدران الأمن القومي لدول المنطقة، وعلى رأسها الدول العربية، فهي تُفصح عن دخول المنطقة مستوًى جديداً من انفلات الآلة الحربية الإسرائيلية، دون أي سقوف أو خطوط حمراء، ودون أي قواعد اشتباك، فيما ستكون حركة حماس والفصائل والقوى الفلسطينية، أقل المُتضررين من تلك الجريمة الإسرائيلية، غير المفاجئة لرحلة التحرر والاستقلال الفلسطينية الطويلة.
يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.