قد يصعب الحديث عن قيم ثورتي اليمن اللتين خلصتا الشعب -في حلمهما الواسع قبل انتكاساتهما- من الخضوع لوضع منغلق على نفسه في الشمال، واستعمار شديد الوطأة في الجنوب؛ من منطلق تاريخي صرف، أو منطلق تاريخي ذي بعد سياسي؛ كما يصعب التحيز المطلق للحقيقة وحدها؛ لأن أغلب الحقائق المطروحة ما تزال واقعة تحت مجهر وجهات النظر سلبًا وإيجابًا، فضلا عن أن الحقائق المطلقة ما تزال مغيبة تماما، فقد يكون الظاهر هو نصف الحقيقة فقط، وربما أكثر قليلا أو أقل. لكن ما يمكن تأكيده هو أن الثورة قد حملت قيمًا ذات امتدادات إنسانية عالية في طموحها، كانت تؤسس لمستقبل يسوده المواطنة المتساوية والرفاهية والعدالة التي لا يشوبها أي خلل. لكنها منيت بانتكاسات حادة، ومرت بمنعطفات جارحة لمثاليتها ومُثُلِها نتيجة لانتكاسات الثورتين. ويمكن التأكيد على أن هذه القيم - على سموها- قد عُطِّلَت بشكل أو بآخر بفعل فاعلين محليين، وفاعلين إقليميين ودوليين، وعلى الرغم من هذا كله وما استتبعه من أحداث عنيفة عصفت بالبلد على أصعدة متعددة، بعد أن ظل الملايين من الشعب شمالا وجنوبا يحملون هذه القيم ويحلمون بها رغم كل شيء.
ولعل من نافل القول، التأكيد على أن الانتماء إلى مبادئ ثورتي السادس والعشرين من سبتمبر/أيلول، والرابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول وقيمهما، المُتأصلة والخالصة والراسخة في ضمائِر ملايين اليمنيات واليمنيين وعقولهم، وسيبقى هذا الانتماء عصيًا على الاستئصال والإفناء والتوظيف والتجيير، من غير طرف، شأن تلك القيم والثوابت والغايات النهضوية، مع عواصف الاستهداف، شأن المعادن النفيسة، مع عمليات الصهر، التي تزيدها نقاءً ولمعانًا وصلابة.
وغني عن القول إن تلك القيم والمبادئ والغايات السامية قد منعت هذه الأمة من النفوق سواء بسبب الأوبئة والأمراض أم بسبب الجهل والعبودية والطُغيان والكهنوتية والاستعمار ومُخلفاتهما، وفيما نرى ونعايش على امتداد سنوات ما يكفي للتيقن من عظمتها، ومن جدارتها بوصفها حوامل للخلاص الوطني، ولإدراك المآلات الحتمية للردة عن تلك المبادئ والغايات، وعن وعودها ومضامينها وخيانتها، ولعدم الوعي بقيمتها ومكتسباتها وبخطورة الفجوات الحضارية التي ردمتها، وإدراك أهمية الجسور التي شيدتها وعبدتها في سبيل تأمين وجودنا الفردي والجماعي.
وعلى الرغم من ذلك فقد منيت الثورتان بكثير من النكسات، إلا أنهما حظيتا بكثير من المحاولات لإنعاشهما، وإعادة مخرجاتهما إلى داخل الرحم بدلا من تسربها إلى خارجه، ومع كل خطوة جادة كانت تحدث كان يُمْنى من يخطوها بالموت سحلا أو اغتيالا أو إعداما أو زجا في غياهب السجون.
في هذا السياق سوف يستعرض هذا المقال كثيرًا من المنعطفات الحادة التي منيت بها الثورتان، وما نتج عن هذه المنعطفات من إشكالات حتى اللحظة الراهنة، ليس من باب الاستعراض الجاف الذي لا يفضي إلى توجيه مبضع التحليل إلى مكامن الخلل فحسب، بل ويحاول تشريح هذا الخلل ما استطاع؛ لتتضح الرؤية؛ رؤية السياقات التاريخية للثورتين من جهة، ورؤية الواقع الحاصل بكونه نتيجة لانتكاسات الماضي نفسه، ومن ثم غياب فاعلية هذه القيم في الواقع، وبقائها في أعماق الملايين حلما معنويا لا يتوقف.
لسوء الحظ، فإن ثورتي سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول، لا تواجهان خصمًا واحدًا، بل تواجهان -على امتداد ما يزيد عن ستة عقود- شبكة واسعة من الأعداء المباشرين وغير المُباشرين، بدءًا من الأحداث الدامية التي اندلعت بين فصيلين من قوات النظام الجمهوري، يومَي 23 و24 أغسطس/آب 1968، بعد سبعة أشهر من نجاح القوات الجمهورية، بكسر حصار السبعين يومًا، الذي فرضته القوات الملكية، على العاصمة صنعاء، إذ نُفيَ على إثر تلك الأحداث مجموعة من القادة العسكريين البارزين، ثم تصفية المقدم عبدالرقيب عبدالوهاب، قائد قوات الصاعقة، ورئيس هيئة الأركان العامة، عقب عودته من منفاه في الجزائر مطلع العام 1969م، وهي أحداث على خطورة أبعادها المناطقية، مثّلت كذلك تراجعًا كليًّا عن وعود الثورة ومضامينها، إذ استحوذت مراكز القوى التقليدية المُحافظة المدعومة من السعودية على النظام الجمهوري، بعد أن تمكّنت من تصفية عدد من رموز التحديث، وامتدت آثارها السلبية إلى الدولة والمجت لعقود لاحقة.
واستكمل انقلاب أُغسطس/آب بعملية اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي، ومشروعه التحديثي، مساء يوم 11 أكتوبر/ تشرين الأول 1977م، رفقة شقيقه عبدالله الحمدي، إذ اشترك فيها عدد من الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين، وبعدها بأشهر قليلة، طالت عملية إعدام مُخططة لصنوه في عدن الرئيس سالم ربيع علي (سالمين)، يوم 26 يونيو/حزيران 1978م، بتهمة الضلوع في اغتيال أحمد الغشمي- رئيس اليمن الشمالي، المتهم بقيادة عملية اغتيال الحمدي.
وتكفلت دورات الصراع السياسي - التي استهلكت طاقات اليمن وبددت فرص أجيالها- بمواجهة مفاعيل ثورتي اليمن ومساراتها النهضوية، من أحداث 13 يناير/كانون الثاني 1986م، في عدن ومناطق الشطر الجنوبي من اليمن، وحروب المناطق الوسطى، بين الفصائل المنضوية في إطار "الجبهة الوطنيّة الديمقراطيّة"، التي شكلت عام 1976م، مظلةً لتشكيلات "التقدميين" و"منظّمة جيش الشعب" و"منظّمة المقاومين الثوريّين"، التي كان مقرّها الرئيس في مدينة عدن، عاصمة الشطر (الاشتراكي) من اليمن، إذ سار أعضاء من التنظيم الناصري، على طريق الوحدة مع الجبهة الوطنية الديمقراطية، التي كانت تتولى قيادة نشاط مختلف القوى اليسارية والقومية في البلاد ضد نظام الشمال، وقد ركزت عملياتها المسلحة على المناطق الواقعة بين دمت، والبيضاء، وحريب، وفي مناطق وادي بَنَا، وبعض مناطق جنوب محافظة تعز، وفي مناطق عتمة وريمة ووصابين، وسيطرت على مناطق واسعة، مع العملية العسكرية الواسعة، التي شنتها قوات اليمن الجنوبي، في 23 فبراير/شُباط 1979م، تحت عنوان إقامة سلطة وطنية ديمقراطية في الشطر الشمالي من اليمن على طريق تحقيق الوحدة اليمنية الديمقراطية، المدعومة من نظام الاشتراكي في عدن، والمدعوم من الاتحاد السوفيتي، وبين نسخة الجهاد اليمني ضد الاشتراكية السوفيتية تحت رعاية المظلة السعودية المُتحالفة مع الولايات المتحدة الأمريكية، في أولى محطات تحالف نظام صالح مع فرع حركة الإخوان المسلمين في اليمن، إذ تشكلت الجبهة الاسلامية التي انخرطت في حروب المناطق الوسطى (1976-1982)، التي شهدت وقائع النُسخة اليمنية من الجهاد الذي ترعرع في حُضن تحالف نظام صالح والإخوان على أرض الشطر الشمالي من اليمن، ودُفع إلى خطوط التماس وسط اليمن، في ظل أعاصير أدلجة التعليم العام.
وقد دفعت الأطراف المُناوئة لثورتي سبتمبر وأكتوبر اليمن إلى مستويات جديدة، من خلال الانقلاب على التزامات "وثيقة العهد والاتفاق" التي وقّع عليها شريكَا الحكم، والقوى السياسة الأخرى، بل وعلى اتفاقية الوحدة ودستور الدولة وتشريعاتها وقوانينها، وهو ما عمق من الاختلالات والتصدعات، وأَشعَل شرارة حرب صيف 1994م، التي بدأت بشكل اشتباكات مسلحة بين عدد من الألوية، في عمران وذمار، في 27 أبريل/نيسان 1994م، ثم امتدت تِباعًا إلى نطاق واسع من اليمن، إذ قاد صالح، تحت عنوان المحافظة على الوحدة، تحالفًا واسعًا من التشكيلات المسلحة النظامية، ومجاميع حزب الإصلاح والقبائل، ومجاميع الجهاديين العائدين من أفغانستان، فضلا عن تشكيلات جنوبية من فصيل الذين فروا إلى الشمال عقب أحداث يناير/كانون الثاني، في مواجهة تشكيلات قادها نائب الرئيس علي سالم البيض، تحت عنوان فك الارتباط واستعادة دولة الجنوب، التي انتهت باجتياح قوات صالح وتحالفه محافظات الجنوب في 7 يوليو/تموز 1994م.
وعلى الرغم من توقف العمليات العسكرية، بهزيمة قوات الحزب الاشتراكي، الجنوبية، واصل صالح وحلفاؤه المنتصرون استباحة مؤسسات الدولة وممتلكاتها، ولكن هل يمكن تسميتها استباحة فعليا؟ لغة الصحافة التي كانت سائدة آنذاك لم تكن دقيقة، إذ يمكن النظر إلى نظام صالح من منظور كونه كان يمثل الدولة، وبناء على هذا -وبغض النظر عن الإقصاء وما مارسه-، فإن ممارسته هو ونظامه وفريقه لمهامهم في مؤسسات الدولة يعني أنه كان في سياق طبيعي، ولم يكن فعله استباحة، بما في ذلك الفساد الذي كان على الأراضي والعقارات، فضلا عن عمليات التسريح الواسعة التي طالت كوادر المؤسسات العسكرية والأمنية والمدنية الجنوبية المحسوبة على الحزب، وقد تركت تلك الحرب، وما لحقها من أعمال تسريح وإزاحة وصلت إلى حد التصفية آثارًا كبيرة على السياسة والاقتصاد والمجتمع في اليمن، ورفض نظام صالح مرارًا دعوات معالجة آثار تلك الحرب، وتُركت ملفاتها مفتوحة، تتفاعل وتتفاقم وتتسع وتتعمق دائرتها، وتزداد تعقيدًا، وعوضًا عن المبادرة المسؤولة لمعالجة الآثار الكثيرة، لتلك الحرب، تشارك تحالف الأطراف المُنتصرة فيها، ومراكز القوى في أجنحة الحكم في فوضى سباق حصاد الغنائم والفواتير والاستحقاقات لتلك الحرب، وعلى ما تبقى من تركة الطرف المهزوم، مع جنوح صالح عامًا بعد آخر إلى ركل حلفاء الحرب والحكم، سعيًا للاستفراد بالسلطة، مرورًا بعمليات إفراغ حوامل الجمهورية والديموقراطية، والتعددية السياسية، والتداول السلمي للسلطة، ومبادئ دستور الدولة وقوانينها وتشريعاتها، من مضامينها النهضوية والتحررية، سعيًا إلى تكريس سلطة الفرد، وتقويض حقوق المواطنة المتساوية، كونها مصدر السلطة، والشرعية والمشروعية، مرورًا بست جولات من حروب صعدة في الشمال، بين قوات حكومة صالح من جهة، وجماعة الحوثيين من جهة أخرى، التي اندلعت أولى جولاتها في 19 يونيو/ حزيران 2004، على نطاق محدود، في قرية صغيرة نائية شمال محافظة صعدة، ثم اتسعت رقعة الحرب على امتداد ست جولات دامية، اتسمت بالعشوائية، والتلاعب، والتوظيف، وسوء الإدارة، واللاقانونية.
وقد مثلت الانتهاكات المروعة لتلك الحرب إحدى المحطات الكاشفة للحالة المُخيبة للقوات المسلحة اليمنية، ولحالة مؤسسات الدولة ككل، وفضلا عن ذلك فحروب صعدة، تعد واحدة من أكبر محطات عمليات التجنيد العشوائية لأبناء القبائل، و على نطاق واسع، وفُسرت تلك الحرب، وإخفاقاتها المُتكررة، بأنها فخاخ مُهندسة لإنهاك قوات المنطقة الشمالية الغربية، وقوات الفرقة الأولى مدرع بقيادة اللواء علي محسن، وعزز ذلك التفسير، ما كشفته في حينه وثائق ويكيليكس، بتقديم أجهزة استخباراتية موالية لصالح إحداثيات موقع تمركز علي محسن الأحمر خلال قيادته للعمليات العسكرية في صعدة للطيران السعودي؛ لاستهدافه كونه موقعًا لجماعة الحوثيين، لتمثل تلك الواقعة، القشة التي قصمت ظهر بعير التحالف التاريخي الوثيق، بين صالح ومحسن.
وعقب الحراك السياسي المعارض لنظام صالح، الذي رافق الانتخابات الرئاسية في العام 2006م، انطلقت في 13 يناير/كانون الثاني 2007م، في المناطق الجنوبية من اليمن تظاهرات احتجاجية، تحت عنوان (التصالح والتسامح)، قادها المسرحون من الوظائف العسكرية والأمنية والمدنية عقب حرب صيف 94، ومع عدم استجابة نظام صالح لمطالبها، ومواجهتها بالقمع، ابتداءً من إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، وعمليات القتل غير القانونية، والاختفاء القسري والاحتجاز التعسفي، والمحاكمات الجائرة، وانتهاك الحريات الصحفية، صعد "الحراك الجنوبي" من مطالبه، وبدأ في العام 2008م، مطالبته بانفصال جنوب اليمن عن شماله. وفي العام 2009م، تشكلت لجنة رئاسية لمعالجة المشكلة، وأصدرت تقريرها، الذي عُرف بتقرير هلال باصرة، وقد رصدت اللجنة كثيرا من تجاوزات صالح ونظامه، وطالبت بمحاسبة المسؤولين عن الخروقات في الجنوب، وحذرت من خسارة الجنوب ككل.
ومنذ إعلان قيام الوحدة اليمنية، في 22 مايو/آيار 1990م، وحتى العام 2010م، كانت عمليات بناء مؤسسات الدولة، مُجرد رحلة طويلة من المُراكمة العشوائية، المُثقلة بحمولات ملفات ميراث الصراعات السياسية السابقة لإعلان قيام الوحدة بين الشطرين، فضلا عن ملفات جديدة، كآثار حرب صيف 94، وملفات حروب صعدة الستة وآثارها، وملفات الانسداد السياسي من التوريث إلى إشكالية نزاهة الانتخابات، واعتلالات السجل الانتخابي، وفشل النظام الرئاسي، فضلا عن ملفات الفشل الإداري والاقتصادي، وعدم كفاءة الخدمات والمؤسسات والأجهزة، وزيادة نسب البطالة والفقر، واستشراء الفساد المالي والإداري لأجهزة الدولة ومؤسساتها.
وعلى مدى عقدين من عمر دولة الوحدة، أُهدرت عدد من الفرص الاستثنائية، لبناء دولة المؤسسات، تحت ضغط هواجس البقاء في السلطة والاستفراد بها، ثم تحت نوازع توريثها، بعده موجِها أساسا لأداء سلطات نظام صالح، التي انحصرت وظيفتها في حماية السلطة الحاكمة، لا الدولة والمجتمع، مع تسيد فساد مالي وإداري، وهي عوامل تظافرت في مُراكمة هياكل خاوية، رغم الموارد الضخمة التي كانت تلتهمها ثقوبها السوداء، لذا فقد تخلقت جيوش وتشكيلات ومؤسسات وأجهزة متعددة الولاءات، إذ كانت مراكز النفوذ تتقاسم أجهزة الدولة ومؤسساتها المختلفة، العسكرية والأمنية والمدنية، وفي ظل تسيد الفساد سُلحت القوات المُسلحة النظامية من أسواق خردة الحرب العالمية الثانية، وعلى ندرة الأسلحة الأحدث، فقد أُعدمت في عمليات إتلاف تحت إشراف أمريكي، في ظل عدم وجود أي خطة لدى الدولة لاحتكار السلاح ووسائل القوة المشروعة، مع تزايد حيازة المجموعات القبلية والتشكيلات غير النظامية، والأفراد للأسلحة، بأنواعها المختلفة على نطاق واسع.
وفضلا عن ذلك فقد التحقت اليمن، منذ العام 2005م، بقائمة الدولة الهشة، وفقا للتقارير الدولية المتخصصة، التي رأت أن اليمن في طريقها لتصبح دولة هشة وفاشلة؛ بسبب تملص نظام صالح، الذي حكم اليمن زهاء ثلاثة عقود مرارًا من الالتزام بالإصلاحات الاقتصادية والإدارية والسياسية والهيكلية، والعسكرية والأمنية، إذ بدأت تلك التحذيرات منذ أواخر القرن العشرين، بالتزامن مع تعمق الأزمات وتوسعها على أكثر من صعيد، وكان وضع الجيش اليمني، المتداعي والمتآكل، والمؤسسات الأمنية، الضعيفة أبرز مظاهر تلك الأزمات الصارخة.
وطبقًا لبيانات المؤشر العالمي للهشاشة، الذي يصدره سنويًا، منذ العام 2005م، صندوق السلام الأمريكي، ومجلة السياسات الخارجية، الذي يغطي (178) بلدا تتصدرها اليمن باحتلالها المرتبة الأولى في مؤشر الدول الهشة، عالميًا، منذ العام 2019م، ولخمسة أعوام متتالية في جميع المؤشرات، وقد سجّل اليمن، منذ العام 2006، وحتى العام 2014، تأرجحًا، من المرتبة (24) إلى المرتبة الثامنة.
ومنذ العام 2015، بدأ اليمن بالقفز إلى الأمام في مراتب الدول الهشّة، ابتداءً من المرتبة السابعة في العام نفسه، ثم المرتبة الرابعة في العامين 2016 و2017، وجاء في المرتبة الثالثة عام 2018.
وبعد جولات من الحوار بين الأحزاب السياسية المعارضة مع حزب صالح الحاكم، على امتداد سنوات النصف الثاني من العقد الأول للقرن الحالي، أُرجِئت الانتخابات النيابية عن موعدها الدستوري والقانوني، بعد أن كانت الأحزاب نفسها قد اتفقت على تمديد دورتها لعامين إضافيين، ودُفعت اليمن، بحلول العام 2010، إلى حالة الانسداد السياسي في ظل تفاقم عدد من الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية.
ومع حلول الأسابيع الأولى للعام 2011، كانت اليمن، مُهيأة تمامًا لاندلاع الانتفاضة الشعبية، ضد الرئيس علي عبدالله صالح، في إطار ما يسمى بثورات الربيع العربي، التي كشفت تباعًا كثيرا من التصدعات في بُنية النظام الحاكم، ومع تفاقم الأزمة بذلت المملكة العربية السعودية من خلال مجلس التعاون الخليجي وبدعم من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، جهودًا حثيثة للحيلولة دون انزلاق اليمن إلى أتون حرب أهلية، وعلى امتداد شهور العام 2011، يسرت المملكة جولات عدة من المشاورات، برز خلالها اسم (عبدربه منصور هادي)، نائب الرئيس صالح، ليكون مرشحا لخلافة صالح في رئاسة اليمن للمرحلة الانتقالية، قبل أن يحظى بإجماع نادر من قبل فرقاء الأزمة اليمنية، رهانًا على سمات الضعف والهشاشة والانعدام المُتأصلة في شخصية الرجل، لتكون مميزات ومعايير للترأس، وصولًا إلى لحظة توقيع الأطراف السياسية اليمنية، في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، في قصر اليمامة بالرياض، المبادرة الخليجية (السعودية) وآليتها التنفيذية المُزمنة، الموقعة بين حزب المؤتمر الشعبي العام (الحاكم) وحلفائه من جهة، وبين تكتل اللقاء المشترك (المُعارض) وشركائه من جهة أخرى، تحت رعاية الملك عبدالله بن عبدالعزيز، ملك السعودية، التي هدفت إلى إنجاز تسوية سياسية تضمن طبقًا لديباجتها وبنودها ومضامينها الحفاظ على وحدة اليمن وأمنه واستقراره، وتلبية طموحات الشعب اليمني في التغيير والإصلاح، وضمان انتقال السلطة بطريقة سلسة وآمنة، تُجنِّب اليمن الانزلاق إلى الفوضى والعنف، في إطار توافق وطني.
ومع تراخي قبضة الحكومة في خضم احتجاجات ما سمي بالربيع العربي، سيطر مسلحو تنظيم أنصار الشريعة، في 27 مارس/آذار 2011، على مدينة جعار، ثم في يوم 29 مايو/أيار 2011، على مدينة زنجبار، عاصمة محافظة أبين، التي تبعد عن مدينة عدن، بنحو 50 كيلومترا إلى الشرق، وأعلنوها "إمارة إسلامية" وغيروا اسمها إلى "وقار" وأعلنوا تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية التي قالوا إنها كانت معطلة، واضطر عشرات الآلاف من السكان إلى الفرار إلى خيام تحت الأشجار في المناطق الريفية خارج المدينة، واحتشد عشرات آلاف آخرين في عدن، في مدارس وبيوت مهجورة.
وفي 21 فبراير/شباط 2012، وعقب انتخابات صورية، كان المُرشح الوحيد فيها، الذي نُصب رسميًا (عبده ربه منصور هادي)، المولود في 1 سبتمبر/أيلول 1945، في محافظة أبين، جنوب اليمن، والنائب الضعيف لرئيس الجمهورية اليمنية (صالح)، منذُ 3 أكتوبر/ تشرين الأول 1994، بعد حسم حرب صيف 1994، حتى 20 فبراير/شباط 2012، رئيسًا للجمهورية اليمنية، خلفًا للرئيس السابق لليمن علي عبدالله صالح، بعد (33) عامًا من حكم اليمن، وشهدت اليمن عملية انتقال سياسي، بين عامي 2012 و2014، بعد تشكيل حكومة الوفاق الوطني، بالمناصفة بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة، برئاسة محمد سالم باسندوة، في إطار تنفيذ المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية المزمنة، برعاية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي، بدعم من الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، والمجتمع الدولي.
وعلى مدى أشهر من عمر المرحلة الانتقالية في اليمن، في إطار المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، وخلافًا للدعم المحلي والإقليمي والدولي، وفي ظل الشغور غير المسبوق، الذي هيمن على قُمرة القيادة العليا لليمن، خلال عامين فقط من رئاسة هادي، وحكومة الوفاق الوطني، برئاسة باسندوة، دُفعت اليمن خلالها إلى مسار طريق كان مهندسًا بعناية؛ لتحقيق جُملة من الأهداف الجيوسياسية غير المُعلنة، التي يمكن قراءتها الآن بتجميع أجزاء صورة المشهد، وأحداثه، ونتائجه، بعد اكتمالها، ولو نسبيًّا، على امتداد زهاء عشر سنوات من عمر الصراع، التي يمكن بتتبعها وتحليلها بناء خُلاصات متماسكة حول جانب من وقائع تفخيخ الوضع في اليمن وتفجيره، وتمثلت أول بذرة من بذور الإشكالات العنقودية، بترأس (عبده ربه منصور هادي)، وتوزير صنوه (محمد ناصر أحمد) وزير دفاعه.
وفي ظل المناخ الخصب الذي تكفل الرئيس (هادي) ووزير دفاعه بخلقه، تعاظمت بسرعة فائقة قوة جماعة أنصار الله (الحوثيين)، التي تحوّلت من جماعة صغيرة، تتمركز في بعض مديريات ريف محافظة صعدة شمال اليمن، إلى تشكيل مسلّح سيطر على العاصمة اليمنية صنعاء بالقوة المسلحة في 21 سبتمبر 2014، بعد أن عُطّلت كل الموانع الكفيلة بوقف تقدمها المُسلح، منذُ أول خطواتها خارج معقلها، في جبال صعدة، مرورًا بإسقاط محافظة عمران، وتوسع سيطرتها إلى محافظة الجوف، في ظل تواطؤ إقليمي ودولي، فُسّر حينئذٍ، بأنه إحدى هدايا التفاهمات الأمريكية-الإيرانية، الجانبية، والمجانية، تبعًا للاتفاق النووي.
ولم تقتصر أدوار (هادي) و(ناصر)، على عدم القيام بأي من مسؤوليات رئيس أي دولة ووزير دفاعها، ولا القيام بأي من مهامهما وواجباتهما في الظروف الطبيعية والاعتيادية، أو على عدم القيام بأي من مسؤولياتهما ومهامهما وواجباتهما في أي دولة تشهد عملية انتقال في ظروف بالغة الحساسية، أو على عدم القيام بأي من متطلبات الطموح الغرائزي للبقاء أطول وقت على رأس سلطة، ورأس وزارة دفاع إحدى دول العالم الثالث، مع أن الرجلين لم يكونا زاهدين في السلطة، بل على العكس من ذلك تمامًا، بل والأدهى من كل ذلك، أن (هادي) و(ناصر)، خصصا جُل طاقاتهما الضئيلة في لحظات إفاقتهما النادرة للغاية من غيبوبتهما شبه الدائمة في سراديب قصية، في سبيل تكريس كل ما يُناقض تلك المسؤوليات والمهام والواجبات والمتطلبات والمستلزمات وتعزيزها وتقعيدها في جميع الحالات والظروف والاحتمالات والسيناريوهات، إذ قدما معًا أنموذجًا حيًا لما يفعله الطموح بلا كفاءة، وبلا رؤية وبلا خطط وبلا قيادة وبلا إدارة فاعلة.
وفي حين عمد الرئيس هادي إلى الاستفراد بإدارة دفة المرحلة الانتقالية، سعيًا منه إلى التمديد على رأس السلطة، معتمدًا بدرجة رئيسة على وزير دفاعه، محمد ناصر أحمد، والمبعوث الأممي إلى اليمن، جمال بن عمر، حامل عصا مجلس الأمن وعقوباته، فضلا عن دائرة صغيرة من التقنيين المُلحقين بمكتبه، بعد أن ذهب إلى التجميد الفعلي لأعمال (اللجنة العسكرية العليا)، رغم نجاحاتها، ثم العمل على أن يكون مؤتمر الحوار الوطني، شكلي الانعقاد والنتائج، وصولًا إلى سلق عملية عبثية، بكل مقدماتها ونتائجها، تكفلت بتفكيك ما هو قائم من بُنى وهياكل للجيش وتقويضه، تحت عنوان هيكلة القوات المسلحة، التي كان من أبرز رعاتها، السفيران الأمريكي والبريطاني لدى اليمن، التي لم تكن في حقيقتها أكثر من عملية تحريك شكلية وسطحية لألوية القوات المسلحة ووحداتها، بناء على تصورات نظرية، تفتقر إلى العلمية والمنهجية، التي لم تشخص واقع المؤسسة العسكرية، ولم تقارب أي من إشكالاتها، التي هدفت إلى حرق المراحل من أجل فرض الذهاب في اتجاه إجباري يقود في نهاية المطاف إلى تمديد مدة رئاسة هادي، خلافًا للاتفاق الموقع بين الأطراف السياسية، في إطار المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية المُزمنة، التي حددت سقف المرحلة الانتقالية بإجراء انتخابات رئاسية يوم 21 فبراير/شباط 2014.
وعلى الرغم من النتائج الكارثية الناجزة على أكثر من صعيد، التي لم تتحقق بسبب فاعلية الأدوار السلبية الذاتية لـ (هادي) ووزير دِفاعه وكفاءتها، في أحسن السيناريوهات المُفترضة للدوافع الموجهة لأدوار الرجلين وأسوأها، ولا بفعل شِراك مؤامرات حاكها بمكر خصوم حكم (هادي) المُفترضين، بل إن أسوأ الأوضاع التي علقت فيها سلطة (هادي)، كانت صنيعة (هادي) وشركاء حُكمه وحلفائه، التي كانت مُضادة كليًا لما ظهر من أمنيات وطموحات جوقة إدارة المرحلة الانتقالية التي كانت تعمل بصورة كارثية تحت عنوان سلطة الرئيس (هادي)، محدود القدرات والمعارف والمهارات والتصورات، الذي تظافرت جهوده وجهود وزير دفاعه الكارثية مع حالة الصراع المُحتدم داخل أروقة بُنى الجهاز الإداري والمالي للدولة وهياكله مع التصدعات العميقة في التحالفات السياسية والاجتماعية والعسكرية والأمنية والقبلية والجهوية، إذ تحركت وتفاعلت وتفاقمت تلك الأدوار (الكارثية) في بيئة مثالية، أدت في نهاية المطاف إلى جُملة من التطورات والمآلات الدراماتيكية المتسارعة في المشهد اليمني، وصولًا إلى حالة الحرب.
لقد تأسس التصور القاصر لدى (هادي)، لمصالحه وطموحاته بالبقاء في السلطة، على فرضيات عدة، كانت هي الموجهات لسياسات سُلطة (هادي) الداخلية والخارجية، تتمثل أهمها في غاية تعطيل إنجاز مهام عمليات المرحلة الانتقالية، وإفراغها من مضامينها، وفي غاية تعزيز كل ما يضعف الأطراف السياسية النافذة في الساحة، وعلى رأسها حزب الإصلاح وشبكة تحالفاته القبلية والعسكرية والإيدلوجية والمذهبية، وحزب المؤتمر، وجناح الرئيس السابق (صالح) وشبكة تحالفاته، مع غاية ضمان تفاقم الوضع في الجنوب لتكون ورقة ضغط، وورقة قضية حروب صعدة والحوثيين في الشمال، فضلا عن غاية تحفيز الضغائن الكامنة لدى القوى السياسية الأصغر والأقل وزنًا مثل الحزب الاشتراكي، والتنظيم الناصري، وحزب الحق، واتحاد القوى الشعبية وحزب البعث، وغيرها من القوى.
وعلى سوء وكارثية كل تطورات الوضع، وكل مآلات المشهد اليمني، بكل محطاته الرئيسة والثانوية، وبتعدد الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين المنخرطين فيه، فإنها لم تكن تحمل أي قدر من المفاجئة، بل إنها كانت على الدوام، نتائج طبيعية لمقدمات لا يمكن لها أن تؤدي إلى أي مآلات مغايرة، تحت أي ظرف، وستظل الوقائع والحقائق تُثبت ذلك أمام أي مُقاربة مُتجردة، على الرغم من كل المحاولات الرامية إلى تقديم سرديات تضع جُملة من الفبركات والتأويلات والتخمينات والأساطير التي قدمتها وسائل الدعاية حول مؤامرات إفشال (هادي)، وإدارة المرحلة الانتقالية، وهي محض تزوير بالغ الركاكة، في إطار محاولات فرض كل ما كان ثانويًا وهامشيًا ومُختلقًا ومُفبركًا من الوقائع والحقائق والأسباب التي دفعت بالوضع في اليمن إلى الانهيار الكلي، بهدف صرف الأنظار عن الوقائع والحقائق والأسباب الحقيقية والفِعلية، وهو ما قاد بالضرورة إلى تحليلات واستنتاجات وتدخلات خاطئة، ضمنت استمرار تفاقم الإشكالات والأوضاع، وقادت البلد من سيء إلى أسوأ، في مختلف جوانب المشهد اليمني، ففي (هادي) ووزير دفاعه، وفي حلفائه في إدارة المرحلة الانتقالية تتمثل كل الأسباب والعوامل الأساسية لكل الكوارث العنقودية في اليمن، وكُل ما سواها هي أسباب ثانوية، حتى وإن تحولت لاحقًا إلى أسباب وعوامل (أساسية).
وخلال النصف الثاني من العام 2011، تسلم عبده ربه منصور هادي، نائب الرئيس صالح، مهام رئيس الجمهورية، عقب نقل الرئيس صالح للعلاج في أحد مستشفيات المملكة العربية السعودية، إثر إصابته في الانفجار الذي استهدف الرئيس (صالح) ومعه معظم قيادات الصف الأول في نظام حُكمه، يوم الجمعة 3 يونيو/حزيران 2011، خلال وجودهم في جامع النهدين، في دار الرئاسة، في العاصمة اليمنية صنعاء، في ذروة الأزمة السياسية التي أعقبت اندلاع الاحتجاجات الشعبية مطلع العام 2011، إذ بدأ (هادي) ووزير الدفاع، في مسقط رأسه (أبين)، بدعم وتمويل تشكيل مجاميع مسلحة غير نظامية تحت مُسمى (اللجان الشعبية)، بالتوازي مع حجب أشكال الدعم كافة عن ألوية القوات المسلحة النظامية والأجهزة الأمنية الحكومية.
وبعد ما يزيد عن عام من سيطرة التنظيم على أبين، شن الطيران اليمني سلسلة من الهجمات الجوية، بالتوازي مع سلسلة من هجمات الطائرات بدون طيار (الأمريكية)، ضد مواقع جماعة أنصار الشريعة، في مدينة زنجبار عاصمة محافظة ابين، ومدينة جعار، وعلى قطاعات واسعة من محافظتي أبين وشبوة، سقط إثر تلك الهجمات الجوية والأرضية عشرات الضحايا المدنيين، وقد شُنت تلك الهجمات عقب موجة من العمليات الانتحارية، والهجمات بالسيارات المُفخخة والاغتيالات، التي شنتها جماعة أنصار الشريعة، فضلا عن عمليات احتجاز أفراد الأمن والجنود.
وبعد أسابيع فقط من تسلم (هادي) رسميًا رئاسة اليمن، أعلنت وزارة الدفاع اليمنية، في 12 مايو/آيار 2012، بدء تنفيذ عملية عسكرية واسعة، لطرد مسلحي التنظيم من محافظة أبين، أُطلق عليها "السيوف الذهبية"، بقيادة اللواء الركن سالم علي قطن، قائد المنطقة الجنوبية في الجيش اليمني، شارك فيها 25 ألف جندي، وأعلنت يوم الثلاثاء 12 يونيو/حزيران2012، استعادت الجيش اليمني السيطرة على زنجبار عاصمة محافظة أبين الجنوبية، وعلى مدينة جعار المجاورة، بعد يوم واحد من سيطرة القوات اليمنية على مدينة شقرة الاستراتيجية، التي كانت بمثابة مركز إمداد وتموين لعناصر القاعدة في جعار، وتولت وحدات الجيش تمشيط المدينتين والمناطق الأخرى، للتخلص من جيوب التنظيم، وإزالة الألغام والعبوات الناسفة، قبل أن تنجح (القاعدة) بتوجيه ضربة موجعة للجيش اليمني، باغتيال اللواء قطن، في 18 يونيو/حزيران 2012، قائد الانتصار على التنظيم، بعد نحو شهرين فقط من تعيينه في أبريل/ نيسان 2012، قائدًا للمنطقة العسكرية الجنوبية، خلفًا للواء مهدي مقولة الحليف السابق للرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، الذي أقيل بعد تزايد الاتهامات له بالتواطؤ في تمكين القاعدة من السيطرة على محافظة أبين.
ورغم النجاحات التي حققتها قوات الجيش اليمني ضد جماعة أنصار الشريعة في أبين، إلا أن الرئيس (هادي)، ووزير الدفاع (محمد ناصر أحمد)، استعملوا صلاحياتهم لفرض إحلال ميليشيات (اللجان الشعبية)، محل قوات الجيش النظامية، والأجهزة الأمنية الحكومية كافة، ومؤسسات (الحكومة) وأجهزتها كافة، وسلمت سلطات (هادي) مليارات الريالات ميزانيات مُخصصة للجان الشعبية التي كان يقودها (عبداللطيف السيد)، القيادي السابق في تنظيم أنصار الشريعة، بوصفها سلطة أمر واقع تحكم محافظة أبين، منذ تحريرها من سيطرة تنظيم أنصار الشريعة.
ومع بداية العام الثاني لرئاسة هادي، شهدت اليمن حالة من فوضى التحاصص، من خلال عمليات الإنزال المظلي على الوظائف العسكرية والأمنية والمدنية، وبالتحالف مع حزب الإصلاح، والأحزاب والقوى الأخرى، بدأ الرئيس هادي عملية تقليم الأظافر، التي طالت عددًا من أفراد أسرة سلفه صالح، شملت كذلك، تعيين محافظين في الجوف وعمران وحجة، فحفز بذلك دورات الصراع بين حزب الإصلاح وشبكة تحالفاته العسكرية والقبلية والإيدلوجية من جهة، وبين جماعة الحوثيين في ظل نقمة صالح ومن تبقى في مركبه في المرحلة الأخيرة من رحلته من جهة أخرى ، في ظل كثير من الهواجس والضغائن والتحفظات من حلفاء حزب الإصلاح في تكتل المشترك، وفي الثورة ضد صالح.
وقد شهدت اليمن، سلسلة من الأحداث الخطيرة، ابتداء من استهداف سلاح الجو، سواء بالتفجيرات، أم بعمليات الاغتيال، أم بحوادث سقوط عدد من الطائرات الحربية، مرورًا باستهداف ضباط الأمن السياسي بعمليات الاغتيال، وعمليات استهداف قيادات عسكرية، وموجة من عمليات الاغتيالات السياسية، والهجمات الإرهابية، مثل الهجوم على مجمع وزارة الدفاع، وعلى الرغم من الأهمية القصوى للمرحلة الانتقالية، إلا أنها قد شهدت حالة فراغ خطيرة في القيادة، ومن مُفارقاتها، أن رئيس الجمهورية الجديد، لم يُداوم يومًا واحدًا في مكتبه بدار الرئاسة أو في القصر الجُمهوري، وقد تزامن الضعف في الرئاسة مع الضعف في الحكومة بصورة غير مسبوقة، وهي حالة لعب فيها وزير الدفاع، محمد ناصر أحمد، أدوارًا خطيرة، برزت بصورة جلية عقب الإطاحة بالرئيس المصري محمد مرسي ومعه حُكم الإخوان في مصر، بمساعدة إماراتية وخليجية، في يوليو/حزيران 2013، إذ بدأت عملية تفكيك ما هو قائم من بُنى وهياكل للقوات المُسلحة والأجهزة والمؤسسات الأمنية ومؤسسات الدولة الأخرى، وقد أصدر الرئيس (هادي)، في 6 أغسطس/آب 2012، قرارا بنقل سبعة ألوية تابعة للحرس الجمهوري لتصبح تحت إشرافه المباشر، كما أصدر قرارًا بتشكيل قوات حماية رئاسية من ألوية عدة، وهي من ألوية الحرس الجمهوري، وألوية الفرقة الأولى مدرع، التي كان يقودها اللواء علي محسن الأحمر، بينما ألحقت قرارات (هادي) عدة ألوية من الجانبين، بالمناطق العسكرية المختلفة، ثم أصدر مساء يوم الأربعاء، 19 ديسمبر/كانون الأول 2012، قرارات قضت بإعادة هيكلة الجيش اليمني، وحل قوات الحرس الجمهوري والقوات الخاصة.
ومن حرب دماج في صعدة، وسلسلة من الحروب، ومنها حرب شمال الشمال، في الجوف، وحجة، وعمران، في ظل تواطؤ الرئيس (هادي) ووزير دفاعه، اللذان عملا على إذكاء الصراع بين تشكلات حزب الإصلاح والسلفيين والمجاميع القبلية المُتصارعة مع تشكيلات الحوثيين ومجاميعهم، مع تقديمهما سردية أن الدولة ليست طرفًا في تلك الصراعات، إذ كُبلت كثير من القوى، بعصا عقوبات مجلس الأمن، تحت عنوان محاسبة معرقلي العملية السياسية، ومع تصارع النخب السياسية، وانشغالها بالمحاصصة، والمكايدة، ونوازع الانتقام، تحوّلت جماعة الحوثيين، من جماعة صغيرة في شمال اليمن، إلى تشكيل مسلّح، وعُطّلت كل الموانع الكفيلة بوقف تقدمها، منذُ أول خطواتها خارج معقلها في جبال صعدة، وبتواطؤ من صالح وحلفائه من قادة قبائل طوق صنعاء، والقادة العسكريين والأجهزة الأمنية، مع دخول نخب اليسار تحت تخدير فرية أن عملية جماعة الحوثيين تستهدف فقط مراكز القوى، وبيت الأحمر، والفرقة، وجامعة الإيمان، في حين نذرت عدد من وسائل الإعلام، والنخب، لمهمة الدعاية المُسخرة لصالح أجندة جماعة الحوثيين، التي أغرقت المشهد العام بالضبابية وصولًا إلى مشهد زيارة (هادي)، إلى مدينة عمران، عقب سيطرة الحوثيين عليها، وقتل قائد اللواء 310، حميد القشيبي، وتصريحه الشهير خلال تلك الزيارة بأن عمران عادت إلى حُضن الدولة، ثم تقدم الجماعة صوب العاصمة، تحت غطاء وزير الدفاع (محمد ناصر أحمد)، والرئيس (هادي)، وصولًا إلى فرض الجماعة حصارًا مسلحًا على العاصمة صنعاء، وانتهاءً بالسيطرة عليها، في 21 سبتمبر/أيلول 2014، وبقية المحافظات بالقوة المسلحة، في ظل تواطؤ إقليمي ودولي، فُسّر حينئذٍ، بأنه إحدى هدايا التفاهمات الأمريكية-الإيرانية، الجانبية، والمجانية، تبعًا للاتفاق النووي، مع الارتياح الغربي لفرية قدرة جماعة الحوثيين في مهمة مكافحة الإرهاب السني، في ظل إخفاقات الهياكل الحكومية الضعيفة والمهترئة.
وتحت فوهات بنادق جماعة الحوثيين، وقعت الأطراف مساء سيطرة الجماعة على العاصمة صنعاء في 21 سبتمبر/أيلول 2014، على اتفاق السلم والشراكة، الذي أفضى إلى تشكيل حكومة المهندس خالد بحاح، غير أن شهر العسل بين الرئيس هادي وجماعة الحوثيين لم يدُم طويلًا، إذ اندلعت اشتباكات عنيفة بين قوات الحماية الرئاسية ومسلحي جماعة الحوثيين، انتهت بهزيمة الأولى، وهو ما دفع رئيس الحكومة إلى تقديم استقالة (لا رجعة فيها)، إلى رئيس الجمهورية (هادي)، في 22 يناير/كانون الثاني 2015، بعد أسابيع من تصاعد ممارسات جماعة الحوثيين ضد الحكومة والرئاسة، تبعها بعد ساعات قليلة، بعد يوم واحد فقط من تواتر الأنباء عن اتفاقه مع الجماعة على تعديل الدستور وتقاسم السلطة استقالة الرئيس هادي، الذي كان قد وُضع من قبل جماعة الحوثيين مع وزراء الحكومة ورئيسها تحت الإقامة الجبرية، وفي 15 فبراير/شباط 2015، وقام مجلس الأمن الدولي بوضع اليمن، تحت الفصل السابع، بموجب القرار 2201.
جر الجميع إلى مستوى كارثي جديد
وفي يوم 21 فبراير/شباط 2015، تمكن الرئيس (هادي) من مغافلة مسلحي الحوثيين، بكسر الإقامة الجبرية، والفرار من صنعاء، إلى مدينة عدن جنوبي البلاد، ومنها كرر الأخطاء نفسها بدءًا من استدعاء ميليشيات (اللجان الشعبية)، التي كانت لا تزال تسيطر على محافظة أبين، منذ النصف الثاني من العام 2012، وعلى امتداد العام 2013، والعام 2014، التي انخرطت في الاشتباك مع تشكيلات جماعة الحوثيين والقوات الموالية لصالح، التي تمكنت من احتجاز وزير الدفاع اللواء محمود الصبيحي، واللواء فيصل رجب، وشقيق الرئيس هادي ناصر منصور، بالصدفة البحتة خلال تقدمها نحو مدينة عدن، قبل سيطرتها عليها، وقام الرئيس (هادي) بالفرار برًا إلى سلطة عمان، صباح الخميس 26 مارس/ آذار 2015، واستقبله مساء اليوم نفسه في مطار العاصمة السعودية الرياض، وزير الدفاع، الأمير محمد بن سلمان، ورئيس الاستخبارات، خالد الحميدان، عشية إعلان عملية (عاصفة الحزم)، التي قادتها السعودية، بمشاركة باقي أعضاء "مجلس التعاون الخليجي"، باستثناء عُمان، ودول عربية أخرى، ضد جماعة "الحوثيين" وقوات صالح في اليمن.
وعلى مدى سنوات حرب التحالف بقيادة السعودية والإمارات، بهدف استعادة سلطة (هادي) الشرعية، كرر (هادي) وحلفاؤه المحليين والإقليميين والدوليين، الأخطاء نفسها التي أدت إلى الحرب، فظهرت ميليشيات جديدة، وأُهدرت كل فُرص إعادة بناء مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية والخدمية والإدارية، فأصبحت المساحات المُنتزعة من سيطرة جماعة الحوثيين وقوات صالح، وعلى رأسها مدينة عدن المُعلنة عاصمة مؤقتة لحكومة هادي المعترف بها دوليًا، منذ إعلان بدء عملية عسكرية بحرية وجوية وبرية، في 14 يوليو/ تموز 2015، لتحرير المدينة من سيطرة قوات جماعة أنصار الله الحوثيين وحليفهم وقتذاك الرئيس السابق صالح، مجالًا للفراغ أمام عدد من التشكيلات والجماعات، بما في ذلك التنظيمات الإرهابية، والتشكيلات المُناهضة لسلطة (هادي)، التي تعاظمت قوتها بدعم من دولة الإمارات التي جندت ما يزيد عن 90 ألف مقاتل، في إطار تشكيلات النخب العسكرية والأحزمة الأمنية التابعة للمجلس الانتقالي التي بسطت سيطرتها على حساب وجود وسيطرة حكومة (هادي) المعترف بها دوليًا، وصولًا إلى تكرار ما حدث في صنعاء في 21 سبتمبر/أيلول 2014، في ظل المناخ نفسه والمُقدمات نفسها، بتقويض وجود الحكومة المعترف بها دوليًّا، في عاصمتها المؤقتة عدن، في 24 أغسطس/ آب 2019، وتمكين إحلال تشكيلات المجلس الانتقالي، بديلًا لها، مرورًا بالحرب الطويلة في آل سالم، وإفشال اتفاق الرياض، مرورًا بإعلان تشكيلات حراس الجمهورية أو المقاومة الوطنية، التي يقودها طارق صالح، والمدعومة من الإمارات، وانتهاءً بالإطاحة بمحافظ شبوة القوي، محمد بن عديو، المدعوم من السعودية، في 26 ديسمبر/كانون الأول 2021، إذ تمكنت تشكيلات الانتقالي، من انتزاع محافظة شبوة، في 11 أغسطس/ آب 2022، بعملية مباغتة وخاطفة، بعد انتزاعها محافظة أبين، وفرضها واقعًا جديدًا في المحافظتين، أزاحت فيه كليًا سلطة القوات الحكومية المدعومة من السعودية، وأحلت التشكيلات الموالية للإمارات، بديلًا، مستغلةً التفاعلات التي خلقتها الحرب الأوكرانية الروسية.
إن فيما سبق من فقرات هذا التناول، هو عرض موجز لجانب من حقائق سجل أعداء قيم ثورتي سبتمبر وأكتوبر المجيدتين ومبادئهما وغاياتهما، ومن سيرة خونتها الكثيرين، وهو ما يجعل من أي ابتسار أو اختزال لهم في أسرة حاكمة واحدة، أو فئة واحدة، أو محطة واحدة، أو عنصر واحدة، مُجردة استنساخ عِلل الردة والخيانة والتقويض إلى أجيال جديدة، يُفترض بها النهوض بواجبات استكمال إنجاز أهداف ثورتي اليمن ومبادئهما وغاياتهما بنزاهة، واستقلالية، واستنارة، بمعزل عن السجالات السطحية، وعن عناوين وسائل الدعاية وصكوكها وتصنيفاتها وتعريفاتها، وعن استقطابات أعداء تلك المبادئ والقيم والغايات، المتمترسين خلف فوهات البنادق والمدافع على امتداد خطوط تماس الإحتراب والتقويض.
يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.