تمهيد
بعد قيام ثورتي سبتمبر/أيلول 1962 في شمال اليمن ضد الحكم الإمامي (الملكي)، وأكتوبر/تشرين 1963 في الجنوب ضد الاستعمار البريطاني، بدأت الخلافات داخل صفوف الثوار تبعاً للتباينات السياسية والأيديولوجية تارةً، والمناطقية تارة أخرى، ومن ثم تباينت الرؤى والمواقف حول التعاطي مع الواقع الذي أخذ يتشكل بعد انطلاق الثورة، وقبل أن يتحقق أول أهدافها، وهو القضاء على الاستبداد الإمامي والاستعمار الأجنبي، وقد نشبت صراعات دامية بين أطراف الثورة في الوقت الذي كانت الثورة نفسها لا تزال تخوض المواجهة المصيرية مع أعدائها، (الاستعمار في جنوب اليمن، والإمامة في الشمال).
هذه الخلافات وما صاحبها، أو نتج عنها من تباينات ومواجهات، شكّلت نواة الصراعات السياسية والحروب فيما بعد، حيث ظلت الانقسامات والانشقاقات داخل المكونات السياسية والاجتماعية للثورة تعيد إنتاج نفسها على شكل دورات من العنف والاقتتال، تبعاً لظروف وعوامل داخلية وخارجية.
وتركز هذه المقالة على الفترة (1962-1970) في حالة ثورة سبتمبر، والفترة 1963- 1969 في حالة ثورة أكتوبر، على اعتبار أن خلافات وتباينات الفترة المحددة، أعقبها نوع من الاستقرار في كلا الشطرين، لكن البذور ظلت كامنة داخل البنية السياسية والاجتماعية، وسرعان ما كانت تنشب الصراعات وتتكتّل أطرافها وتتشكل مواقفها تبعاً لمحفزات متصلة- بشكل أو بآخر- بما شهدته الثورة منذ لحظة الميلاد بتعقيداتها المختلفة.
ثورة سبتمبر 1962
قاد تنظيم "الضباط الأحرار" الذي يضم مجموعة من ضباط الوحدات العسكرية والأمنية اليمنية في صنعاء وتعز والحديدة، ثورة الـ26 من سبتمبر/أيلول (1962)، ضد حكم الإمامة في شمال اليمن، بيد أن الطريق نحو تحقيق أهداف الثورة لم يكن سالكاً، خاصة وأن فلول الحكم الإمامي بقيادة بيت "حميد الدين" أعلنوا المواجهة مع الثورة، مدعومين من قوى ودول إقليمية، وخاضوا حرباً استمرت 7 سنوات.
وأدت الحرب التي شنتها فلول الإمامة – خلال الأسابيع الأولى للثورة، إلى سقوط عدة مناطق في شرق وشمال اليمن، مما دفع قيادة الثورة لتوقيع اتفاقية الدفاع المشترك مع جمهورية مصر، خاصة بعدما تبين للثوار أن خصومهم يحصلون على دعم وسلاح وتسهيلات من بريطانيا التي تحتل الجزء الجنوبي من اليمن منذ العام 1839.
وبدأت مصر ترسل الدعم العسكري الذي شمل آليات وجنود، لتبدأ أولى خلافات قيادة الثورة حول الدعم المصري، ومع إدراك غالبية الثوار بأهميته في ظل الظروف الصعبة التي تواجه الثورة الوليدة، فإن بعضهم رأى أن ثمة إشكاليات تواجه الثورة مرتبطة بالتدخل المصري، خاصة وأن القيادات العسكرية المصرية في صنعاء كانت تعتمد بدرجة رئيسية على عبدالرحمن البيضاني، الذي عُيّن نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة- نائب رئيس الجمهورية، بالإضافة إلى تعيينه نائباً لرئيس الوزراء، ووزير الاقتصاد، وبعد أيام قليلة أضيفت له وزارة الخارجية، فضلاً عن سيطرته على الملفات الرئيسية العسكرية والأمنية والاقتصادية، بحكم علاقته بالقيادات المصرية في القاهرة وفي صنعاء، خاصة أنور السادات – مساعد الرئيس المصري جمال عبدالناصر، الذي كان المسؤول عن ملف اليمن، ومن هنا رأى بعض قيادات الثورة أن إسناد الملفات السيادية والحساسة لشخص البيضاني- دون سواه من أعضاء مجلس قيادة الثورة، وفي ظروف بالغة الحساسية لا يخدم الثورة وحكومتها، وعلى العكس سيؤدي إلى التأليب على الثورة في الداخل والخارج. وزاد من غضب الثوار تعيين البيضاني نائباً للقائد العام للقوات المسلحة، مع أنه مدني والمنصب عسكري، ورأت القيادات العسكرية في ذلك التعيين امتهاناً للقوات المسلحة. (مذكرات محسن العيني، ص52).
في لقاء مكاشفة بين المشير/ عبدالله السلال رئيس الجمهورية، وعضو مجلس قيادة الثورة القاضي عبدالرحمن الإرياني حول القرارات التي صدرت لصالح البيضاني قال السلال إن القيادات المصرية لا يعتمدون إلا أوامر البيضاني، وإن كل ما يهمنا هو سلامة الثورة، وأنا مستعد أن أتنازل عن القيادة للبيضاني إذا كان هذا مراد القاهرة. فرد عليه الإرياني: أنا وأنت نعلم أن البيضاني كان جاسوساً للإمام أحمد على الزبيري ونعمان، وعلى الطلاب اليمنيين في القاهرة. (مذكرات الرئيس الإرياني، ج2، ص32).
أصبح البيضاني، كواجهة للوجود المصري في اليمن، مثيراً للجدل داخل مجلس قيادة الثورة، بين من رأى أن تصرفاته وخطاباته – بما فيها تلك المتضمنة تهديدات بتصدير الثورة إلى الأراضي السعودية، تجلب العداء للثورة وتزيد من التأليب عليها، فيما كان آخرون يرون أن احتمال مساوئ البيضاني بالنسبة لهم أهون من ترك الثورة وحيدة بدون دعم، إذ تبين لهم، أهمية البيضاني لدى المصريين الذين يدعمون الثورة.
وكان كلما كشف أحد قيادات الثورة عن موقف ناقد للبيضاني أو بعض ممارسات الضباط المصرييين، أو توجس بعض قادة الثورة منه منافسة، فإن قرار الإبعاد في انتظاره، وكان أول ضحايا هذا الإجراء العقيد/ حمود الجائفي، وزير الدفاع، وهو القائد المخضرم سياسياً وعسكرياً وكان أبرز المرشحين لتولي قيادة الثورة لكنه اعتذر، وتوالت قرارات الإبعاد ضد عدد من قيادات الثورة بتحريض من البيضاني، فصدرت قرارات بإبعاد الأستاذ أحمد محمد نعمان، والشيخ محمد علي عثمان.
بعدما توارى نجم البيضاني عقب إبعاده، برزت الخلافات حول الموقف من القبائل وطرق استمالة الموالين لبيت حميد الدين من أبناء القبائل، وبرز فريقان يراهن الأول على المواجهة العسكرية، فيما يرى الفريق الثاني إمكانية كسبها والعمل على إقناعها للوقوف مع الثورة، وعدم الاكتفاء بالعمل العسكري وحده.
كما أن تياراً داخل الثورة أخذ يدعو لعدم استعداء السعودية التي تدعم فلول الملكيين في حربهم ضد الجمهورية، مؤثراً عدم التماهي مع الموقف المصري تجاه السعودية، حتى لا تصبح اليمن ساحة لتصفية الحسابات بين القوى الإقليمية والدولية، لذلك فإنه يرى أهمية التركيز على الوضع الداخلي، وعلى نجاح الثورة وتثبيت الجمهورية، فيما كان قادة آخرون يرون أن الوقوف مع مصر ضد السعودية واجب يمليه الانتماء القومي العربي في مواجهة الأمريكان وحلفائهم السعوديين. (مذكرات محسن العيني).
إلى ذلك نشبت خلافات كبيرة حول بعض القضايا، منها الإعدامات التي طالت المتهمين بالعمل مع حكم الإمامة، دون أن يسلم من تلك الإعدامات بعض الثوار الذين طالتهم اتهامات رفاقهم، وهو ما فاقم الخلافات ووسع فجوتها، ونتج عن تلك الخلافات إجراء عدة تغييرات حكومية خلال فترة وجيزة، كما شهدت الفترة ذاتها تغيير شكل قيادة الدولة من مجلس قيادة الثورة في البداية ثم مجلس تنفيذي وبعد ذلك مجلس جمهوري.
في العام 1966 زادت وتيرة الخلافات داخل الحكومة والمجلس الجمهوري، وصلت حد إعلان رئيس الوزراء اللواء حسن العمري استقالته من عضوية المجلس الجمهوري ورئاسة الوزراء، وبدا لبعض أعضاء المجلس والحكومة أن السلال يستغل الدعم المصري للتضييق عليهم فشرعوا في مواجهته والعمل على إزاحته، وحين باءت كل محاولات التوفيق بينهم بالفشل اضطر أغلب أعضاء الحكومة للسفر إلى القاهرة للسعي مع القيادة المصرية من أجل حل الخلافات التي أخذت تتوسع.
وما إن وصل الوزراء والمسؤولون القاهرة حتى باشرت السلطات المصرية اعتقالهم، واستمر الاعتقال نحو عام، مما زاد في التأليب ضد الرئيس السلال وداعميه المصريين، وبعد عودة المعتقلين إلى صنعاء باشروا الترتيب لإنهاء حكم السلال، وتمت الإطاحة به أثناء مغادرته البلاد في إحدى زياراته الخارجية، وذلك من خلال الحركة التي عُرفت بـ "حركة 5 نوفمبر" 1967، وآلت السلطة لمجلس جمهوري ترأسه القاضي عبدالرحمن الإرياني.
حدث هذا والحرب مع الملكيين لا تزال مستمرة، بل إن القوات الملكية استطاعت التقدم والسيطرة على عدد من المناطق، حتى وصلت إلى محاصرة العاصمة صنعاء، غير أن قوى الثورة والجمهورية تآزرت لمواجهة الخطر القادم، وساند الشعب في مختلف المحافظات القوات المسلحة والقيادات السياسية والعسكرية ليتحقق للثورة الانتصار بداية العام 1968، بإنهاء الحصار وانحسار قوى الإمامة.
لم تمر سوى ستة شهور حتى نشبت الخلافات بين مكونات الثورة من جديد، حيث انقسمت القوى والتيارات الفكرية والسياسية والعسكرية التي تآلفت في مواجهة فلول الإمامة بين طرفين رئيسيين، يقود الأول رئيس الوزراء القائد العام للقوات المسلحة اللواء العمري، ويقف في الطرف الثاني رئيس الأركان عبدالرقيب عبدالوهاب، وعدد من قادة الوحدات العسكرية المحسوبين على اليسار، وتركز الخلاف حول صلاحيات رئاسة الأركان التي أثيرت مع وصول دفعة جديدة من الأسلحة إلى ميناء الحديدة، لتنفجر المواجهات الدامية يومي 23 و 24 أغسطس/آب 1968.
انتهت المواجهات بسيطرة الطرف الأول، ليتعرض قادة الطرف الآخر للاعتقال والملاحقات فيما تمت تصفية بعضهم، وفي المقدمة رئيس الأركان، ومن هنا بات هذا الفريق ينظر إلى أن ثورة سبتمبر تعرضت للانتكاسة وتم الانقلاب عليها من خلال حركة 5 نوفمبر التي عارضها اليساريون، ومواجهات أغسطس، التي لاحقت رموزهم وقياداتهم في القوات المسلحة والشرطة وبقية مؤسسات الدولة.
في المجمل بات اليسار على رأس المعارضة السياسية للنظام الحاكم في شمال اليمن، سيما وأن أحداث أغسطس 1968 كان لها تداعيات واسعة لارتباطها بعوامل واعتبارات مناطقية ومذهبية داخل الصف الجمهوري نفسه، في الوقت الذي لا زالت قوات الإماميين تسعى للإجهاز على الثورة والنظام الجمهوري.
وزاد اتفاق المصالحة مع أتباع النظام الملكي في العام 1970، برعاية سعودية في توسيع هوة الخلافات، إذ رأى المعارضون وأغلبهم ينتمون للتيار اليساري أن عودة الإماميين وفقاً لاتفاق المصالحة أكملت ما بدأته حركة 5 نوفمبر من انقلاب على ثورة سبتمبر، والتفاف على أهدافها.
والخلاصة في هذا السياق أن أغلب الخلافات التي وصل بعضها للمواجهات المسلحة – كما هو حال مواجهات أغسطس 1968، صارت هي النواة التي تخلّقت منها بذور الصراعات الجديدة والمتلاحقة، تحت عناوين ولافتات مختلفة وفي فترات زمنية متقاربة حيناً ومتباعدة أحياناً أخرى.
ثورة أكتوبر 1963
تشكلت في جنوب اليمن عدة تنظيمات وأحزاب سياسية واتحادات ونقابات عمالية، أبرزها رابطة أبناء الجنوب عام 1951، والمؤتمر العمالي (1956)، وضم النقابات العمالية بعدن، وتبنى مواجهة الإجراءات التي قامت بها السلطات البريطانية الرامية لقمع حركة النقابات ونشاطها واحتجاجاتها المختلفة، وفرع حزب البعث الذي تأسس عام 1956، لكنه انحسر بعد انفصال سوريا عن الوحدة مع مصر سنة 1961، وفرع حركة القوميين العرب الذي تأسس عام 1959، وترأسه فيصل عبداللطيف الشعبي، والاتحاد الشعبي الديمقراطي الذي أسسه عبدالله باذيب عام 1961 وضم المنتمين للفكر الماركسي.
كانت الحركة الاحتجاجية ضد الاحتلال البريطاني في عدن قد تنامت بعد قيام ثورة يوليو المصرية سنة 1952، وبدأت القوى السياسية ونقابات العمل تقود العمل الجماهيري المعارض للاحتلال خلال خمسينيات القرن الماضي، وبعد نحو عام من قيام ثورة سبتمبر في الشمال ضد الحكم الإمامي، انطلقت ثورة أكتوبر/تشرين 1963 ضد الاحتلال البريطاني، وكان للجبهة القومية التي تشكلت من فرع حركة القوميين العرب وعدة تنظيمات تشاركها الهدف نفسه المتمثل في إنهاء الاحتلال الأجنبي لجنوب اليمن، النصيب الأبرز في الحضور والمشاركة، حيث تبنت ثورة أكتوبر، وشكلت لها ذراعاً عسكرياً في عدد من محافظات الجنوب، وتمكنت من إسقاط عدد من المناطق والسيطرة عليها.
في الوقت نفسه كانت توجد جبهة التحرير التي تحظى بدعم مصري، وكان لها انتشار ونفوذ لا يقل عن الجبهة القومية في بعض المناطق، وقد أخفقت كل محاولات توحيد الجبهتين في إطار جبهوي واحد، كما فشلت جهود التهدئة واحتواء التوتر بين الطرفين، وتصاعد الخلاف بينهما حتى بلغ ذروته في نشوب الحرب داخل أحياء عدن منتصف العام 1967، حسمتها الجبهة القومية لصالحها، وتمكنت بعدها من السيطرة على أغلب المناطق، وكانت النتيجة حصولها على السلطة وإجلاء الاحتلال، وتم إعلان الاستقلال وقيام جمهورية مستقلة في جنوب اليمن، بقيادة الجبهة القومية، بعد إجبار جبهة التحرير وغيرها من القوى على مغادرة البلاد. خاصة وأن سلطات الجبهة القومية الحاكمة الاستقلال اعتبرت جميع المكونات السياسية محظورة.
باتت الجبهة القومية تحكم سيطرتها على الدولة الجديدة، وكان قد تبلور داخلها تيار يساري بتوجهات ماركسية، أخذ يتطلع لتطبيق التجربة الاشتراكية وإقامة نظام سياسي على غرار الأنظمة الاشتراكية التابعة للمعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفيتي وحزبه الشيوعي الحاكم، لكن آمال اليسار كانت تصطدم بالتيار المناهض داخل الجبهة القومية، ويتزعمه رئيس الجمهورية قحطان الشعبي ورئيس الوزراء فيصل الشعبي، بالإضافة إلى قيادات بارزة في الجيش.
بدأت الخلافات بين الفريقين تنتقل من أروقة اللقاءات والاجتماعات الخاصة والمؤتمرات العامة إلى ساحات العمل والمؤسسات الحكومية، حيث عقدت الجبهة القومية مؤتمرها الرابع مطلع العام 1968، وهو أول مؤتمر لها بعد الاستقلال وسيطرتها على الحكم، وقد كشف المؤتمر عن سيطرة التيار اليساري (الثوري)، من خلال خروجه بقرارات شملت إعلانه "الإيمان بالاشتراكية العلمية، والمطالبة بالبدء في سلسلة تطهير جذري تبدأ بالجيش والشرطة، وأجهزة الدولة"، (نايف حواتمة: أزمة الثورة في الجنوب اليمني، ص97). غير أن التيار الآخر أعلن رفضه تلك الخطوات.
كانت الجولة الأولى من المواجهة قد أفضت لسيطرة الجيش على السلطة واعتقال أبرز قيادات اليسار وملاحقة عناصره، وذلك في مارس/أذار 1968، وظل التيار اليساري ينتظر الفرصة المناسبة للإجهاز على خصومه في الجبهة والدولة، وفي يونيو/حزيران 1969، واتته الفرصة حيث قام بالسيطرة المطلقة على كل مفاصل الدولة بما في ذلك القوات المسلحة والشرطة، مُطلقاً على تلك الأعمال "الحركة التصحيحية"، واشتملت على تصفية فيصل الشعبي وسجن رئيس الجمهورية قحطان الشعبي، حتى وافاه الأجل وهو في الحبس، كما تمت ملاحقة بقية الخصوم المدنيين والعسكريين.
بدأت الأوضاع تستقر للتيار اليساري الحاكم، لكنه بعد نحو عقدٍ من الزمن شهد انقساماً داخله بين فريقين يميل أحدهما لتطبيق التجربة الاشتراكية الصينية، ويسعى الآخر لتطبيق التجربة السوفيتية، وتمكن الفريق الثاني من الحسم والقضاء على خصومه، ولم تمر سنوات قليلة حتى انقسم الفريق المنتصر إلى فريقين يسعى كل منهما لإلحاق الهزيمة بخصمه. وهكذا تناسلت الخلافات من جديد، وتوالدت عنها صراعات جديدة.
خلاصة
ولدت ثورتا سبتمبر وأكتوبر في ظروف داخلية وخارجية بالغة التعقيد، وشاركت فيهما مختلف قوى الشعب شمالاً وجنوباً، غير أن الخلافات سرعان ما نشبت داخل صفوف الثوار، ولعلها سمة غالبة على الثورات العربية، ولم تكن ثورتا اليمنيين استثناء من ذلك، كما قال الرئيس العراقي الراحل عبدالكريم قاسم في حديث له مع السياسي والدبلوماسي اليمني محسن العيني، خلال زيارة العيني لبغداد عشية قيام ثورة سبتمبر.
كان قاسم وهو أحد أبرز قادة ثورة العراق التي قامت في يوليو 1958، ينصح اليمنيين حينها أن يوحدوا صفوفهم وألا يسمحوا للخلافات أن تفرق بينهم، مهما كانت الأسباب.
ما حدث بعدها أن اليمنيين لم يجدوا الوقت والظرف المناسب للإصغاء لنصائح الزعيم العراقي، الذي كان يشكو من الخلافات التي تحاصره هو الآخر، ولم تمض سوى خمسة أشهر حتى دفع منصبه وحياته ثمناً لتلك الخلافات، حيث قام خصومه البعثيون بالانقلاب عليه وإعدامه بعد محاكمة صورية استمرت دقائق فقط.
الثوار اليمنيون الذين ورثوا في الجنوب بقايا إدارة استعمارية في عدن، وإمارات وسلطنات ومشيخات موزعة على مختلف المحافظات، وفي الشمال تركة حكم ملكي يعتمد الإمامة منهجاً للحكم وممارسة السلطة بأشكال بدائية، جاؤوا من مختلف فئات الشعب، ومن مختلف التيارات الفكرية والسياسية التي كانت سائدة، ومن هذا التفاوت والاختلافات وُلدت الخلافات التي طبعت الثورة ومجرياتها فيما بعد، وصارت – الخلافات- السمة البارزة في صيرورة الأحداث والتطورات والتداعيات، كما كان لعلاقات الثوار بمحيط الثورة الخارجي دور واضح في قيادة الثورة وإدارة الدولة، وكان لتلك العلاقات أثرها في مجمل الأحداث وفي المقدمة الخلافات والصراعات التي نشبت بين مكونات الثورة وتكويناتها المختلفة.
وقد ألقت هذه الخلافات بذورها في تربة خصبة، سمحت باستمرار التباينات حتى وإن بدت كامنة في بعض الأوقات، لتبرز في مراحل زمنية لاحقة على شكل صراعات مسلحة ومواجهات دامية صارت هي السمة الأبرز في المشهد اليمني – شمالاً وجنوباً- منذ قيام ثورتي سبتمبر وأكتوبر قبل أكثر من نصف قرن.
يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.