الفِيّلة في الغرفة اليمنية

وقفة مع جُملة من عناصر المشكلة اليمنية المُتجاهلة

عبدالرشيد الفقيه

عبدالرشيد الفقيه

رئيس مركز خلاصات للأبحاث ودراسة السياسات

يُشير المثل الشائع (الفيل في الغرفة)، إلى وجود مشكلة حقيقية بحجم فيل في غرفة صغيرة، ولا أحد من المعنيين يريد التحدث عنه أو الإشارة إليه، بل يتواطأ (الإجماع المُصطنع) على الدوران حول الفيل، والحديث عن كل شاردة وواردة داخل الغرفة وخارجها، باستثناء الفيل، وهو عينه ما تفعله الأغلب الأعم من التناولات التي تُقارب الأزمة اليمنية منذُ سنوات، إذ تكثفت إشكالية الفيل في الغرفة اليمنية مؤخراً بصورة أكبر بالتزامن مع التصعيد في البحر الأحمر، وعلى امتداد شهور حرب غزة، إذ يتجنب كثيرون طرح الأسئلة الدقيقة تجاه فيلة الأزمة اليمنية كافة، دون مواربة، ودون اجتزاء أو انتقاء أو اختزال، إذ تُلقي استقطابات محاور الصراع الحادة بظلالها على مضامين الأغلب الأعم من التناولات التي عادةً ما تُركز على عنصر واحد من عناصر الأزمة في اليمن وتتجاهل بقية عناصرها.

ومنذُ بدء هجمات جماعة أنصار الله (الحوثيين) ضد سُفن الملاحة المُتجهة من وإلى إسرائيل عبر مياه البحر الأحمر التي تشنها الجماعة رداً على الحرب الإسرائيلية المروعة في قطاع غزة الفلسطيني، عمدت منظومة الدعاية التابعة للحزب الديموقراطي (الحاكم) في الولايات المتحدة الأمريكية إلى اختصار المشكلة اليمنية في عنصر واحد من عناصرها، مُتمثلاً بجماعة أنصار الله (الحوثيين)، بعد أن كانت المنظومة الضخمة نفسها قد اختصرت بالطريقة نفسها المشكلة اليمنية عينها على امتداد سنوات ولاية الرئيس دونالد ترامب الأولى (2017-2020) في عُنصر واحد مُتمثلاً بالسعودية وحاكمها الأمير محمد بن سلمان، قبل أن تدفع الحرب الأوكرانية الروسية الرئيس الديموقراطي (جو بايدن) إلى الوجهة المُعاكسة: الحج إلى العاصمة السعودية (الرياض) واللقاء بحاكمها الفِعلي، متراجعاً عن وعيده بجعل السعودية دولة منبوذة، لتذهب مع (بايدن) في الاتجاه نفسه للمنظومة الدعائية الأمريكية كُلها.

والثابت الآن، ليس بعد عام من الحملة الأمريكية في مياه البحر الأحمر ضد جماعة أنصار الله ومناطق سيطرتهم وحسب، بل بعد عقد كامل من النزاع في اليمن، ومن القفزات الأمريكية الارتجالية فيه، أن السردية المُجتزأة لن تساعد على مقاربة الوضع في اليمن بصورة موضوعية ودقيقة، ولن تساعد على فهمه، ولن تسهم في حله، فما لم تفعله المقاربات الانتقائية الموجهة من قبل الحزب الديموقراطي خلال ولاية ( أوباما)، وخلال ولاية (ترامب) الأولى، لن تفعله العقلية الانتقائية نفسها خلال ما تبقى من ولاية (بايدن)، وخلال كل سنوات ولاية (ترامب) الثانية.

إن في الغرفة اليمنية أكثر من فيل يتم تجاهل وجوده، وصرف الأنظار عنه، والتركيز على فيل واحد، مُتمثلاً بجماعة أنصار الله (الحوثيين)، المدعومة من إيران، وهي بالطبع إحدى المشكلات الرئيسة في اليمن، قبل هجمات الجماعة في البحر الأحمر، وأثناء شن تلك الهجمات، وحتى بعد توقف الهجمات، وخلال حرب غزة وبعد توقفها، لكن المؤكد أنها ليست المشكلة الرئيسة الوحيدة كما تقول سردية إدارة بايدن، ومنظومة الدعاية التابعة للحزب الديموقراطي، وشبكات الدعاية الحربية اليمنية المتحمسة مع مقولاتها.

إن أكبر فيلة الغرفة اليمنية، المُتجاهلة، تتمثل في حالة تضارب المصالح الحادة، بين المملكة العربية السعودية من جهة، وبين الإمارات العربية المتحدة من جهة ثانية، إذ تتبارى رؤيتان مُتضاربتان على المشهد اليمني، وهو ما كرس جُملة من التشوهات البنيوية في عموم الجغرافية اليمنية التي تسيطر عليها تشكيلات عدة مدعومة من السعودية والإمارات، وتشترك في الإعلان المناوئ لجماعة الحوثيين، إذ تواصل الإمارات محاولات انتزاع مساحات جديدة شرق اليمن، بعد أن تسللت إلى مساحات كانت في قلب مجال الأمن القومي السعودي، جنوب وشرق وغرب اليمن، وتفرض الإمارات قراراً صارماً باستمرار تحجيم حزب الإصلاح، الفرع اليمني لجماعة الإخوان المسلمين، المدعوم من السعودية.

وقد أفرز الصراع السعودي الإماراتي، خارطة مُشطرة لثلثي اليمن، تتقاسم السيطرة عليها تشكيلات مُتصارعة، كالمجلس الانتقالي الجنوبي، وتشكيلات حزب الإصلاح، والقوات السلفية، والقوات المُشتركة في الساحل الغربي، وعدد محدود من الوحدات العسكرية الحكومية، تلتقي شكلياً تحت مظلة مجلس القيادة الرئاسي والحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، في حين أن الواقع يُظهر تحفظ كل طرف بهياكل سلطته الخاصة، وفي تلك الخارطة المُشطرة، تتمثل إشكالية التنظيمات الإرهابية، التي تعيش رحلة إعادة بناء في فراغات شريط طويل بين أبين والبيضاء وشبوة ومأرب.

لقد فشلت الأطراف المحلية والإقليمية والدولية كافة المناوئة للحوثيين، على امتداد السنوات الماضية، عن تقديم نموذج لدولة القانون والمواطنة والحوكمة والإدارة الجيدة والتنمية والتحديث، وتقديم حد معقول من الخدمات الرئيسة في مساحة شاسعة من اليمن، وانشغلت عوضاً عن ذلك بالصراعات البينية، وتبديد الموارد والإثراء غير المشروع، وقمع المخالفين، وبناء الميليشيات، وتغذية حوامل اقتصاد الحرب.

وعلى الرغم من دعم السعودية لخطوة طي صفحة الرئيس هادي، وتشكيل مجلس رئاسي، يضم ممثلين للتشكيلات المختلفة، فإن واقع ثلثي الجغرافيا اليمنية ما تزال تحكمها مجموعةُ من الأطراف المُتنافرة، تتمثل في كتل غير مُتجانسة، متعددة الرؤوس، والولاءات، والمرجعيات، ضمن خارطةٍ مُشطَّرة تفتقر إلى أي روابط ذاتية بينها سوى رابط إرادة "التحالف"، تقف مناوئة لجماعة أنصار الله (الحوثيين)؛ بقيادة واحدة، ورؤية واحدة، تبسط سيطرتها على جُغرافيَّةٍ موحدة.

وفضلاً عن ذلك، تُهيمن على علاقات الأطراف المنضوية في إطار مجلس القيادة الرئاسي، جُملة من التباينات العميقة، الكُلية والرئيسة والفرعية، إلى حدَّ التصارع؛ وجُملة من التشوهات الهيكلية والبنيوية والعملياتية والنظرية للمسارات الأمنية والعسكرية والمالية والاقتصادية والسياسية والإدارية كافة، في جميع مستويات بُنى سلطة مجلس القيادة الرئاسي والحكومة المعترف بها دولياً، الذي أخفق في إحراز أي تقدم في عملية صهر التشكيلات الأمنية والعسكرية المُختلفة في إطار عمل مؤسسي متجانس وفاعل، في ظل وزارتي الدفاع والداخلية.

وعلى الرغم من مرور سنوات على تشكيله، فقد فشل مجلس القيادة الرئاسي في القيام بمسؤوليات تأمين الحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم لملايين السكان الخاضعين اسميًّا لسلطة مجلس القيادة الرئاسي والحكومة المعترف بها دولياً، كما فشل في تقديم أنموذج خلاَّق في السياسة والإدارة والقيادة، بوصفه أحد متطلبات حيازة قبول الناس بسلطته والتفافهم حوله، كونه أساساً لاكتساب شرعية ومشروعية تمثيلهم وتمثيل مصالحهم وتطلعاتهم.

في المقابل، على الرغم من سيطرتها الكاملة على ثلث مساحة اليمن الذي تتركز فيه ثلثي الكتلة السكانية، فقد فشلت جماعة أنصار الله (الحوثيين) في تقديم نموذج حُكم مُغاير لما يعايشه اليمنيون في المناطق الأخرى، إذ تتصاعد الجباية، وتغيب الخدمات العامة، ويتصاعد الفساد، وسوء الإدارة، والإثراء غير المشروع، وغسيل الأموال، وانتهاك حقوق الأفراد وحرياتهم، وغياب حُكم القانون، والتضييق على النساء، وأدلجة التعليم، وتجنيد الأطفال.

وبالنسبة لملايين اليمنيات واليمنيين، في المناطق اليمنية المختلفة، فما زالت تحكمهم تشكيلات مُسلحة، ترتكب الأطراف كافة فيها انتهاكات تمس حقوقهم الرئيسة، وتطحنهم الأزمات الاقتصادية، وانعدام الخدمات، والفساد المالي والإداري، وغياب حُكم القانون، وانعدام الأمن، واتساع رقعة الفقر، وارتفاع نسب البطالة، وما زالت الأطراف كافة تتورط في وقائع الاختفاء القسري، والاحتجاز التعسفي، والتعذيب وقمع الحريات، و إن بنسب متفاوتة.

إن وجود أطراف يمنية مُتعددة تتنافس على تقديم نموذج مُلبي لتطلعات ملايين اليمنيات واليمنيين، في دولة القانون والمواطنة المتساوية واحترام الحقوق والحريات العامة، وفي الحوكمة والإدارة الجيدة ومكافحة الفساد، فضلاً عن كونه احتياج آني مُلح، وحق أساس لعموم اليمنيات واليمنيين، فإنه التمهيد الأمثل لتسوية وطنية تاريخية، تُعيد اليمن إلى مسار البناء والتنمية، والتعايش والتنوع، عوضاً عن دويلات الاحتراب والتفتيت.

إننا في اليمن بحاجة ماسة إلى تقييم سلوك الأطراف كافة، بمعايير موحدة، تضع كل طرف أمام مسؤولياته بوصفه سلطة أمر واقع على ملايين اليمنيات واليمنيين الخاضعين لسلطته، ونحن في أمس الحاجة إلى عدم تجاهل أي فيل من الفيّلة التي تستوطن الغرفة اليمنية دون اجتزاء أو انتقاء طبقاً لتقلبات المزاج السياسي.

content

يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.