العدالة الانتقالية في اليمن وإمكانية تحقيقها

تحليل في ضوء الواقع الراهن

الخميس, 23 يناير / كانون الثاني 2025

نجلاء العزي

نجلاء العزي

مقدمة
تعد العدالة الانتقالية إحدى أهم الأدوات الحيوية لمعالجة آثار النزاعات الداخلية والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان الناتجة عن النزاعات والحروب. فهي تهدف إلى إعادة بناء الثقة بين فئات المجتمع عبر تعويض الضحايا، وجبر الضرر، وتحقيق المصالحة الوطنية إضافة إلى تصحيح الأضرار النفسية والاجتماعية الناجمة عن فترات طويلة من المعاناة والاضطهاد. كما تعتبر العدالة الانتقالية عنصرًا رئيسياً في مراحل الانتقال من الأنظمة القمعية إلى الديمقراطية، حيث توفر إطارًا للمساءلة والمحاسبة، وتجنب الانتقام، وإصلاح الأوضاع المنهارة مما يعزز من العدالة الشاملة في المجتمع.

وفي السياق اليمني، الذي يواجه نزاعًا مسلحاً مستمرًا منذ عام 2015، يصبح تطبيق العدالة الانتقالية تحديًا معقدًا بالنظر إلى الآثار المدمرة التي خلفها النزاع على النسيج اليمني. حيث فاقم النزاع المستمر الانقسامات الاجتماعية والسياسية، وأسهم في انهيار المؤسسات القضائية والرقابية، مما جعل حقوق المدنيين عرضة لانتهاكات مستمرة دون أي مساءلة حقيقية. ومن ثمّ، فإن غياب الاستقرار المؤسسي وغياب المحاسبة قد رسخ حالة من الظلم المستمر، وهو ما يضيف المزيد من الضغوط على عملية السلام في البلاد.

إن العدالة الانتقالية في اليمن تُمثل ضرورة لتقديم آليات فعّالة للمصالحة الاجتماعية، وإعادة بناء الثقة بين الأطراف المتنازعة، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات، فضلاً عن تعويض الضحايا، وجبر الأضرار، وإعادة بناء مؤسسات الدولة لاسيما الرقابية والقضائية. 

وعلى الرغم من هذه الأهمية، فإن استمرار النزاع السياسي والعسكري في البلاد، إلى جانب غياب توافق سياسي شامل، يشكلان عقبات كبيرة أمام تنفيذ هذه الآليات بشكل فعال، الأمر الذي يعقد عملية بناء السلام في اليمن، ويطيل أمد معاناة المواطنين الذين يفتقرون إلى العدالة الحقيقية والمساءلة.

في هذا المقال، سيتم تحليل إمكانية تطبيق العدالة الانتقالية في اليمن من خلال النظر في السياقات والتحديات، والفرص السياسية والاجتماعية والمؤسسية التي تجعل من هذه العملية قضية ملحة ومركبة.

العدالة الانتقالية 
يعرف الأمين العام للأمم المتحدة العدالة الانتقالية في تقريره المقدم إلى مجلس الأمن الدولي في العام 2004 بأنها " كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تِركة من تجاوزات الماضي الواسعة النطاق، بغية كفالة المسائلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة". 

ووفقاً للتقرير فإن العدالة الانتقالية تتضمن مجموعة من الآليات التي قد تتراوح بين القضائية وغير القضائية، مع إمكانية تباين درجة المشاركة الدولية أو حتى غيابها تمامًا. وتشمل هذه الآليات محاكمات الأفراد المسؤولين عن الانتهاكات، وتقديم التعويضات للضحايا، بالإضافة إلى جهود تقصي الحقائق حول التجاوزات. كما تشتمل على إصلاحات دستورية، وفحص السجلات الشخصية للكشف عن الانتهاكات السابقة. وقد يتم دمج هذه الأساليب معًا أو العمل على كل منها بشكل منفصل لتعزيز المساءلة وبناء الثقة بين جميع الأطراف المتأثرة.
وعرف المركز الدولي العدالة الانتقالية بأنها " استجابة للانتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان، وتهدف إلى تحقيق الاعتراف الواجب بما كابده الضحايا من انتهاكات، وتعزيز إمكانيات تحقيق السلام والمصالحة والديمقراطية". 

إن العدالة الانتقالية تشابه الرحلة الشاقة التي يتوجب أن تبدأ بالاعتراف بالماضي المؤلم، وكشف الحقائق المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان، وتنتهي بتجسيد وحدة وطنية قائمة على المصالحة وبناء مستقبل مشترك تسوده العدالة الاجتماعية. والوصول إلى هذه النهاية يتطلب المرور بكل مرحلة منه بجدية وعزم، مع التأكيد على أهمية المصداقية والإرادة والعدالة في كل خطوة على الطريق.

العدالة الإنتقالية ضمن السياق اليمني: 
مرَّ اليمن على مدار العقود الماضية بجولات عدة من النزاع المسلح الذي شمل مناطق الشمال والجنوب، وهو ما أسفر عن انتهاكات جسيمة بحق المدنيين. فقبل الوحدة اليمنية في 1990، كانت هناك نزاعات وصراعات مستمرة بين الأطراف السياسية والعسكرية في الشمال والجنوب. وبعد الوحدة، نشبت حرب صيف 1994 والتي سببت في المزيد من الانتهاكات والانقسامات الداخلية، وتلتها احتجاجات 2011 التي أطاحت بنظام الرئيس السابق/ علي عبدالله صالح، ومن ثم اشتعال جبهات القتال الداخلية وبدء الضربات الجوية للتحالف العربي منذ 26 مارس 2015م بعد سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين) على صنعاء وعدد من المحافظات الأخرى في سبتمبر 2014م. 

وضمن هذا السياق، تمثل العدالة الانتقالية أداة حاسمة للتصدي لآثار الانتهاكات المرتكبة أثناء النزاعات والحروب المتعددة التي شهدتها اليمن، ومنها الهجمات العسكرية العشوائية، والاعتقالات التعسفية، والتعذيب وغيرها من الانتهاكات التي تسببت بتدمير النسيج الاجتماعي وزيادة معاناة المدنيين. لذلك، تعد العدالة الانتقالية خطوة أساسية لتمهيد الطريق للعدالة والمصالحة الاجتماعية وإعادة بناء الثقة بين مختلف الأطراف اليمنية. كما أنها تمثل ضرورة لا غنى عنها في مرحلة ما بعد الحرب في اليمن، إذ أن الانتهاكات التي حدثت طوال سنوات النزاع مع التراكمات السابقة تركت ندوبًا موجعة وعميقة في المجتمع اليمني. ومن ثمّ، فإن تحقيق العدالة الانتقالية في اليمن يمكن أن يساهم بشكل كبير في تخفيف هذه الآلام، وإعادة بناء التماسك الاجتماعي.

مشروع قانون العدالة الانتقالية 20122014 -: خلافات وتعديلات سياسية
جاء مقترح قانون العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية في اليمن عقب احتجاجات عام 2011 التي أدت إلى الإطاحة بنظام الرئيس السابق/ علي عبدالله صالح. وهي المرة الأولى في تاريخ اليمن الذي يشهد فيها نقاشاً علنياً حول العدالة الإنتقالية. 

وفي ضوء هذه الأحداث، تم إعداد مسودة لمشروع قانون العدالة الإنتقالية من قبل وزارة الشئون القانونية، بهدف معالجة قضايا الماضي، والحد من الانتهاكات المرتكبة أثناء فترات الصراع السياسي في اليمن ضمن مساعي بناء المصالحة الوطنية وتحقيق العدالة الانتقالية.

بدأت وزارة الشئون القانونية في إعداد مسودة مشروع قانون العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية في فبراير 2012. ولكن المشروع قوبل بمعارضة من قبل أطراف العملية السياسية بسبب الخلافات حول آليات العدالة الانتقالية والفترة الزمنية التي يغطيها. وفشل التوافق داخل الحكومة بشأن المشروع، وتم إحالة المسودة إلى رئيس الجمهورية في يونيو 2012. حيث أُجريت تعديلات على المسودة من قِبل رئيس الجمهورية وتم تقديمها إلى مجلس النواب في يناير 2013.

وتضمن مشروع القانون آليات العدالة الانتقالية مثل: الكشف عن الحقيقة، التعويض، جبر الضرر، والإصلاح المؤسسي، إلا أنه أسقط بعض الآليات الأساسية الأخرى، مثل الدعاوى الجنائية والكشف عن الحقيقة في النسخة المعدلة. وفيما يتعلق بالفترة الزمنية، كان هناك خلاف حول نطاق التغطية الزمنية للقانون. إذ أكد مشروع القانون الأول على صراعات ما بعد عام 1990، في حين اقتصرت النسخة المعدلة على الفترة من 2011 حتى 2012.

من الملاحظ، أن التعديلات التي أُدخلت على المشروع كانت مدفوعة بمصالح سياسية للحفاظ على التاريخ السياسي لكل طرف، مما أدى إلى استبعاد فترات زمنية أساسية مرتبطة بالانتهاكات السابقة. وفي مؤتمر الحوار الوطني في 2013، تم التوصل إلى توافق جزئي حول العدالة الانتقالية، بما في ذلك تعيين البرامج الرئيسية لتحقيق العدالة ورفض استبعاد آلية المساءلة الجنائية، مما انعكس في توافق أطراف الحوار على ضرورة رد الاعتبار لجميع ضحايا الصراعات السياسية.

وعلى الرغم من الجهود المبذولة لإنشاء إطار قانوني للعدالة الانتقالية في اليمن بعد أحداث 2011، إلا أن هذه الجهود لم تثمر بسبب الأحداث السياسية اللاحقة. فقد أسفرت الأحداث المتلاحقة واندلاع النزاع المسلح المستمر منذ 2015 إلى تفاقم الانتهاكات والانقسامات السياسية الحادة، مما أعاق مساعي المصالحة الوطنية وتحقيق العدالة الانتقالية في اليمن.

العدالة الإنتقالية في اليمن – تحديات متباينة.  
تواجه جهود تنفيذ العدالة الانتقالية في اليمن تحديات متعددة ومختلفة. فعلى الرغم من مرور تسع سنوات على اندلاع النزاع الحالي، والأزمة الإنسانية الكارثية التي صنفتها الأمم المتحدة كواحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العصر الحديث، فإن عملية السلام لم تتمكن من تحقيق تقدم ملموس. إذ أن الحرب أفرزت عدداً من القوى المسلحة المتنافسة ذات الأيديولوجيات المتناقضة والمدعومة بمصالح أجنبية وأجندات خارجية. وعلى الرغم من الهدنة الهشة التي رعتها الأمم المتحدة والمفاوضات الصورية، فإن قضايا المساءلة وحقوق الضحايا ما تزال غائبة عن المفاوضات السياسية، ممّا يعقد مسار العدالة الانتقالية ويسهم في تعميق الأزمة الإنسانية المستمرة. 
ويمكن إيجاز التحديات التي تواجه تطبيق العدالة الإنتقالية في اليمن ضمن الآتي: 

الانقسام السياسي والنزاع المستمر
أحد أكبر التحديات الذي يواجه العدالة الانتقالية في اليمن هو الانقسام السياسي العميق الذي يعصف بالبلاد ومايرافقه من توجهات فكرية وعقائدية ومناطقية. فمنذ اندلاع النزاع المسلح في 2015، تقسم اليمن إلى مناطق سيطرة مختلفة بين الحكومة المعترف بها دوليًا، والمجلس الانتقالي الجنوبي، وجماعة أنصار الله-الحوثيين-، مع قوى مختلفة أخرى تسيطر على الأرض تحت رداء الحكومة المعترف بها مثل (التجمع اليمني للإصلاح، المقاومة الوطنية)، وكل طرف من هذه الأطراف لديه أيدولوجيته ورؤيته الخاصة حول العدالة والمصالحة، مما يجعل من الصعب تحقيق توافق حول آليات العدالة الانتقالية.

وفضلاً عن ذلك، ما يزال النزاع في البلاد مستمراً حتى يومنا هذا، إذ لم يحدث أي توافق من قبل الأطراف المتنازعة حول عمليات السلام والاستقرار مما يفاقم من صعوبة تنفيذ أي نوع من العدالة الانتقالية. فالحرب المستمرة تعني أن المساءلة القانونية ستكون محفوفة بالتحديات، مما يجعل محاكمة متسببي الإنتهاكات الإنسانية أمرًا بالغ الصعوبة بالنظر للبيئة غير المستقرة. كما أن الأطراف المتنازعة قد تسعى لتجنب المساءلة من خلال حماية قادتها العسكريين أو السياسيين من المحاكمة، مما يؤدي إلى إضعاف فكرة العدالة الشاملة.

ضعف النظام القضائي واستقلاليته
تعد محكمة العدالة الانتقالية أحد الأعمدة الرئيسية لأي عملية عدالة في المرحلة الانتقالية. وفي اليمن، يعاني النظام القضائي ومؤسساته من ضعف كبير، وتدهور شديد في أنظمته وممارساته بسبب سنوات من الفوضى السياسية والفساد المستشري. وقبل اندلاع الحرب، كانت هناك تحديات كبيرة تتعلق باستقلالية القضاء ونزاهته، إذ كان يتعرض للتأثيرات السياسية والقبلية. ومع وجود نظام قضائي بهذا الشكل، تصبح محاكمة الجناة أو حتى تنفيذ عمليات العدالة الانتقالية شبه مستحيلة، وحتى مع وجود إرادة سياسية لإجراء العدالة الانتقالية، لا يمكن تنفيذها بشكل فعال دون وجود آلية قضائية مستقلة تستطيع ضمان المحاسبة والمساواة أمام القانون. فاليمن يحتاج إلى نظام قضائي قوي قادر على مسائلة مرتكبي الانتهاكات ومحاكمتهم وفرض العدالة والمصالحة الوطنية. 

فقدان الثقة والانقسام الاجتماعي. 
على الصعيد الاجتماعي، يُعد فقدان الثقة بين فئات المجتمع المختلفة من أبرز التحديات التي قد تعيق العدالة الانتقالية. إذ عملت الحرب على تعزيز الانقسامات بين المجتمعات المحلية في اليمن، ليس فقط على المستوى السياسي ولكن أيضًا على المستوى الاجتماعي.

فمثلاً، تعززت العنصرية المناطقية حيث يتم التمييز ضد بعض المناطق ومواطنيها، وهو ما أدى إلى تزايد الفجوات بين المدنيين، إضافة إلى الانقسامات الفكرية والعقائدية التي أثرت على النظرة والقبول تجاه الآخر. وصارت هذه الانقسامات تُترجم إلى صراعات في التعاملات اليومية بين المدنيين وهو ما يفاقم الشعور بالظلم والقهر. فضلاً عن أن هناك مناطق تعرضت لإهمال في التنمية ومشاريعها وقصور الدعم من قبل الحكومة.  

إن العدالة الانتقالية تتطلب بناء الثقة بين الأطراف المتنازعة، وهو أمر قد يبدو مستحيلاً في ظل الانقسام الاجتماعي العميق الحالي. علاوة على ذلك، تعاني العديد من الفئات الضعيفة مثل النساء والأطفال والمهمشين والأقليات من التهميش والتمييز وهو ما قد يؤدي إلى ضعف مشاركتهم وتمثيلهم في العملية الانتقالية.

الفساد كعائق رئيسي أمام العدالة الانتقالية. 
من أبرز التحديات التي تواجه تطبيق العدالة الانتقالية في اليمن انتشار الفساد في معظم مؤسسات الدولة، بما في ذلك الأجهزة القضائية ومؤسساتها. يشكل الفساد عقبة رئيسية أمام أي جهود لتحقيق العدالة، فهو يسهم في غياب الشفافية والمساءلة في الإجراءات القانونية ويطيل أمد المعاناة التي يعاني منها المجتمع اليمني. ففي حين تكون الهيئات المسؤولة عن التحقيقات والمحاكمات فاسدة، تصبح فرص محاكمة الجناة وتحقيق العدالة أمرًا مستبعدًا. وهذا الأمر يعمق الأزمة الإنسانية والاقتصادية، إذ تبقى حقوق الضحايا بلا تعويض أو محاسبة، مما يجعل عملية العدالة الانتقالية غير قابلة للتطبيق في ظل هذا الواقع المتردي.

العدالة الانتقالية مابين الجنائية والتصالحية: 
تتسم العدالة الانتقالية في اليمن بتحد مهم يتمثل في كيفية تحقيق التوازن بين جانبيها الجنائي والتصالحي. فالنموذج الجنائي يركز على المساءلة والمحاسبة الجنائية بوصفها آلية أساسية للعدالة، ولابد أن يشمل مبدأ عدم الإفلات من العقاب. وفي المقابل، يسعى النموذج التصالحي إلى تعزيز التوافق الاجتماعي والسياسي لتحقيق السلام والاستقرار.

وعلى مر تاريخ اليمن، واجهت البلاد العديد من الصراعات السياسية والعسكرية التي أسفرت عن انتهاكات جسيمة، وعلى الأغلب تم التعامل معها من خلال النموذج التصالحي الذي تضمن العفو الشامل والتجاوز وتخفيف العقوبات أملاً في تحقيق التصالح الاجتماعي وتشجيع التسامح والسلم الاجتماعي.

لكن لابد من الإشارة إلى أن تكرار عمليات العفو والتجاوز قد تؤدي إلى إحباط الضحايا، وتفاقم مشاعر الظلم لديهم، إذ يبدو أن العدالة لا تتحقق بشكل كامل. كما أن هذا النقص في المحاسبة والمساءلة قد يعزز من دورة العنف ويجعل من الصعب بناء مجتمع مستقر وسالم، إذ إن غياب العقوبات المناسبة وغياب الإقرار بما تم ارتكابه من إنتهاكات يمكن أن يعيد تأجيج الانقسامات ويعيد خلق الظروف التي قد تؤدي إلى صراعات جديدة في المستقبل.

ولذلك، فإن ضرورة إيجاد توازن بين المساءلة الجنائية والتصالح الاجتماعي مهمة للغاية، إذ أن الأخذ بالمحاسبة الجنائية بشكل مفرط قد يعقد مسار السلام الدائم. وفي الوقت نفسه، من الضروري الاعتراف بالانتهاكات السابقة وتوثيقها لتصحيح الوضع، وجبر الضرر، والمضي قدماً في المصالحة الوطنية لتحقيق السلام والسلم الاجتماعي.

الفرص المتاحة: هل العدالة الانتقالية ممكنة؟
على الرغم من التحديات والتعقيدات العديدة التي يواجهها اليمن بسبب النزاع المسلح المستمر والتراكمات التاريخية، إلا أن فرص تطبيق العدالة الانتقالية تبقى مأمولة. وتمثل هذه الفرص أفقًا حيويًا على الرغم من الوضع الصعب، إذ يمكن للمبادرات المحلية والإقليمية والدولية أن تسهم بشكل كبير في إحداث تغيير إيجابي على المشهد اليمني.

فمبادرات السلام التي يقترحها المجتمع الدولي، بما في ذلك الأمم المتحدة، قد تمثل فرصة حقيقية للضغط على الأطراف السياسية المتنازعة للتوصل إلى تسوية سلام سياسية تشمل آليات العدالة الانتقالية. كما أن هناك دعمًا دوليًا كبيرًا من المنظمات والجهات الناشطة الدولية التي تسعى إلى تقديم المشورة الفنية والمالية لتنفيذ برامج العدالة الانتقالية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تسهم مشاريع إعادة بناء الثقة المحلية والمبادرات المجتمعية في تعزيز التوافق بين الأطراف المختلفة، مما يفتح المجال لتحقيق تسوية تاريخية شاملة تتضمن الاعتراف بالانتهاكات السابقة، والمصالحة بين الأطراف المتنازعة. ومن المهم أيضاً أن تستند العدالة الانتقالية في اليمن إلى رؤية شاملة تشمل الفئات المجتمعية جميعها بلا استثناء أو تهميش.
لكن، وقبل كل ذلك من الضروري أن يكون هناك إرادة سياسية حقيقية من أطراف النزاع جميعاً، واستقلالية قضائية، وضمانات لعدم الإفلات من العقاب، ليتم تفعيل هذه الفرص بشكل فعّال. فمن خلال تجميع هذه العناصر بشكل فاعل يمكن أن تكون العدالة الانتقالية عملية قابلة للتنفيذ وللاستدامة. 

دروس من التجارب المقارنة: كيف يمكن لليمن الاستفادة؟
على المستوى العالمي، ثمة تجارب عدة يمكن أن يستفيد منها اليمن في تحقيق العدالة الانتقالية. فعلى سبيل المثال، في جنوب أفريقيا، كانت هناك لجنة الحقيقة والمصالحة التي لعبت دورًا رئيسيًا في معالجة آثار نظام الفصل العنصري. فمع الوضع المعقد في اليمن، يتطلب تطبيق العدالة الانتقالية مزيجًا من التجارب الدولية مع خصوصية الوضع اليمني. 

إن تطبيق العدالة الانتقالية في اليمن يجب أن يكون مصممًا بطريقة تتماشى مع خصوصيات المجتمع اليمني، ومراعاة الأبعاد الثقافية والاجتماعية والدينية التي تؤثر في آليات المعالجة والمصالحة. وقد تكون الأداة الأكثر فاعلية في هذا السياق هي أدوات الحقيقة والمصالحة وآلياتها، التي يمكنها أن تلعب دورًا حيويًا في فتح المجال للتعبير عن معاناة الضحايا وتوثيق الانتهاكات.

ختاماً... إن العدالة الانتقالية ليست نوعًا خاصًا من العدالة، بل هي إحدى الأدوات التي تستخدم لملائمة المفاهيم العدلية مع مايتناسب مع المجتمعات التي تمر بمرحلة تحول بعد فترة من معاناة انتهاكات حقوق الإنسان سواءاً أكانت هذه التحولات تحدث بشكل مفاجئ أو تمتد على مدى فترات زمنية طويلة. وبذلك فإن العدالة الانتقالية تسعى لتكييف النظام القانوني بما يتماشى مع هذه التحولات لضمان محاسبة الانتهاكات وإعادة بناء الثقة في المجتمع.

وتظل العدالة الانتقالية في اليمن مسارًا معقدًا، لكنه يمثل خطوة أساسية نحو استعادة الاستقرار وبناء السلام المستدام، فعلى الرغم من التحديات والعقبات بدءاً من الانقسام السياسي، وضعف النظام القضائي، والفساد والانقسام الاجتماعي وغيرها، فإن الفرص تظل ممكنة وقائمة إذا توفرت الإرادة السياسية، والآليات القضائية المستقلة، وتضافر الجهود المحلية والإقليمية والدولية. 

إن التوازن بين المحاسبة الجنائية والمصالحة الاجتماعية، وضمان حقوق الضحايا، يتطلب التفاعل بين أطراف النزاع المختلفة لتقديم حل شامل يسهم في تعزيز الوحدة الوطنية، وجبر الضرر، وتحقيق العدالة للجميع.
وفي هذا السياق، يمكن لليمن الاستلهام والاستفادة من تجارب دولية مع مراعاة الخصوصية للطبيعة الاجتماعية والثقافية اليمنية، التي تضمن تمثيل جميع الأطياف الاجتماعية في عملية المصالحة.

content

يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.