في ظرف أيام قليلة، أنجزت قوات المُعارضة السورية وبجاهزية عالية، وخلفها تركيا، مهمة إطلاق رصاصة الرحمة الأخيرة على نظام الأسد الاستبدادي، لتطوي زهاء خمسة عقود من الطغيان والفساد وسوء الإدارة والقمع والتطييف، إذ اقتنصت قوات المعارضة السورية لحظة نادرة من حالة تقاطع مصالح فاعلين إقليميين ودوليين عدة، في ظل حياد أمريكي (مرحلة انتقالية بين إدارتين متنافستين) وحياد غربي عام، وحالة من عدم اليقين تهيمن على النظام الدولي، وحالة التخلي الاضطراري الإيراني والروسي، ونومة أهل الكهف للأغلب الأعم من الأنظمة العربية.
يمكننا التأكيد الآن، وعقب ساعات من سقوط نظام الأسد، أن المتغير في القرار والمزاج الذي طرأ إزاء الوضع في سوريا، الذي كان قد شهد جموداً كلياً لسنوات، يستند إلى جاهزية عملياتية وبنيوية واستراتيجية وشعبية سورية، بمساندة تُركية كاملة، في ظل حالة تقاطع متطلبات الأمن القومي السوري، والأمن القومي التركي، بالتوازي مع انصراف الداعم الدولي (روسيا)، والداعم الإقليمي (إيران) إلى أولويات أهم على قائمة المواجهات الوجودية مع أكثر من تهديد على آخر خطوط التماس على أكثر من جبهة من جبهات الأمن القومي، وبتتبع المواقف الدولية، يتضح أن عملية إسقاط نظام الأسد كانت مُباغتة ومفاجئة للأغلب الأعم من الفاعلين الدوليين..
أسئلة المستقبل السوري
من الطبيعي الآن أن تكون كل العيون مفتوحة على المشهد السوري، وأن تتدفق التساؤلات والمواقف التي تعبر عن مخاوف قطاع عريض من مُحبي سوريا، المُناهضين لنظام الطغيان والفساد والجريمة البائد، والمناهضين لحكم جماعات العنف الإيدلوجية غير الوطنية، بشأن حكم البديل المنتصر، الذي تسلم للتو سوريا الدولة، والمجتمع والفُرص التي تستند إلى تجارب حية مع المجموعات والتشكيلات المُسلحة التي ورثت راية ثورات الربيع العربية، وقدمت نماذج تستنسخ ممارسات الأنظمة المستبدة، وطغيانها، وفسادها، وسوء إدارتها، وطائفيتها وعصبياتها.
ولا أحد يستطيع تقديم إجابات قاطعة على تلك التساؤلات والمواقف والمخاوف المشروعة سوى القوات التي أنجزت مهمة إسقاط نظام الأسد بقيادة النسخة الأحدث من الجنرال (أحمد الشرع) الذي عُرف طيلة السنوات بـ(أبو محمد الجولاني)، الذي تخلى عن كنيته وإيدلوجيته (ربما)، إذ يقدم منذُ بدء هذه العملية باسمه الحقيقي لأول مرة خطاباً رصيناً مُتحرراً من كل سمات خطاب (الجولاني) في أكثر من نسخة سابقة ظهر بها في أدوار قتالية عدة في إطار تشكيلات مُتطرفة على امتداد ما يقارب عقد ونصف من النشاط العسكري، وهي أدوار وأنشطة حملت اسمه وكنيته إلى قوائم الإرهاب وتابوهاته الرسمية والشعبية.
إن المأمول الآن أن يكون خطاب النسخة الحالية من الجنرال (أحمد الشرع)، خطاباً مُطمئناً مُعبراً عن قطاعات عريضة من السوريات والسوريين من مختلف ألوان الطيف السياسي والفكري والاجتماعي السوري، وليس خطاب فصيل أو تشكيل إيدلوجي، ناتجاً عن مُراجعة ذاتية مُتماسكة عميقة وراسخة، وعن تحول جذري واستراتيجي في تصورات الرجل وغاياته، وليس تكتيكياً لحظياً وعارضاً ووظيفياً تفرضه المرحلة ومتطلباتها.
إن قرارات (الشرع) في ليلة سقوط النظام والخاصة بالتعامل مع الحالة في دمشق، مثل قرار استمرار الحكومة الحالية في تسيير الأعمال، ومنع إطلاق النار، وحماية المرافق والمؤسسات العامة، تشير إلى إمكانية وجود هيئة سورية مؤسسية من ذوي الخبرة والمعرفة والاختصاص، تمثل مُختلف ألوان الطيف السوري يستند عليها قائد العملية الأهم في تاريخ سوريا في خطابه وخطواته وقراراته، وهذا الاحتمال هو أرشد من إحالة حصافة خطاب (الشرع) وقراراته إلى محض تحول فكري عند الرجل، وإذا ما كان مرد تلك الحصافة إلى العاملين معاً، فإن ذلك كفيل بطمأنة قطاع عريض من محبي سوريا الثورة والحرية من السوريين وغير السوريين
أمام السوريات والسوريين اليوم فرصة تاريخية لبناء دولة مدنية حديثة، دولة المواطنة المتساوية، والتعددية السياسية، والديموقراطية، وسيادة القانون، وحرية الصحافة، وحرية التعبير، وحرية المعتقد والتفكير والضمير، والعدل واستقلال القضاء، وحرية المجتمع المدني، وبناء آليات حيازة شرعية ومشروعية السلطات، والعدالة الانتقالية، والمصالحة الوطنية، ومكافحة الفساد، وغسيل الأموال، ودعم الإرهاب، والإثراء غير المشروع.
إن ملامح الدولة السورية المنشودة سترتسم من أول لحظات سقوط نظام الأسد، وسوريا الآن على مفترق طرق، إما إلى طريق دولة مدنية حديثة، وهو ما تستحقه سوريا وشعبها الحبيب، أو لا قدر الله إلى اتجاه مُضاد كُلياً، لا نجاة منه ومن فخاخه إلا بيقظة ضمائر صناع القرار وعقولهم، الذين يديرون دفة سوريا في هذه اللحظة الانتقالية بالغة الخطورة.
سوريا وفلسطين وإسرائيل والإقليم
بالنظر إلى السياق الإقليمي المُعقد بعناصر لا حصر لها، ولا أول لها ولا آخر، فالثابت أن تحرك قوات المعارضة السورية تجاه المناطق الخاضعة لنظام الأسد، كان مُباغتاً وصادماً لإسرائيل أيضاً، بوصفه فاعلا وحيدا احتكر إعادة رسم خرائط الإقليم، على امتداد السنوات الماضية، طبقاً لمتطلبات أمنها القومي، وبمعزل عن دعمها أو موافقتها أو علمها، والرابط الوحيد بين تطورات المشهد السوري، وبين غزوات إسرائيل في غير مسرح عملياته في المنطقة، أن عملية إسقاط نظام الأسد خُططت وأُنجزت في ظل المناخ الذي يبدو أنه قد تشكل في الأسابيع الأخيرة على هامش العملية الإسرائيلية التي هدفت إلى تقويض بُنى قيادة حزب الله اللبناني وهياكله وقُمرته، والعمليات التي استهدفت بالتوازي العمق الإيراني في سلسلة من العمليات الإسرائيلية النوعية التي هدفت إلى مُعاقبة إيران وردع أنشطتها الإقليمية الداعمة للتشكيلات المُسلحة المُعادية لإسرائيل في أكثر من دولة من دول المنطقة.
لذلك، فإن المقولات المُجازفة التي ذهبت إلى وصم الإنجاز السوري وتصنيفه على محور عنوانه (إسرائيل والنظام الغربي الداعم لها)، وأن سوريا انتقلت من مساندة الشعب الفلسطيني إلى الضفة المعادية له والمساندة لإسرائيل، لا تستند إلى أساس من الصحة حتى الآن، فثم سياق كامل، تكشف جُل عناصره زيف تلك المقولات التي صدرتها وسائل الدعاية بسذاجة، أولها أن نظام الأسد، الساقط للتو، لم يحاول تقديم أي دليل أو قرينة على أي مساندة من أي نوع، وبأي مستوى، لقضية الشعب الفلسطيني، سواءً على مدى عقود من عُمره، أم على امتداد زهاء أربعة عشر شهرًا من العملية العسكرية الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني.
يجازف كثيرون بتصنيف نظام الأسد بوصفه منتمياً إلى ما يُسمى (محور المقاومة)، سواء من قبل المنتمين فعلياً إلى هذا المحور، أم من قبل خصومهم، فنظام الأسد، يُمثل عملياً أردأ نسخ التطبيع مع إسرائيل، فهو تطبيع مع إذعان وخضوع، لا مثيل له في حالة كل أنظمة المنطقة، المُطبعة وغير المُطبعة، وهو لا يُصنف في الأدبيات الإسرائيلية جهة مُعادية، سواء خلال ما مر من عقود من تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، أم على امتداد ما مر من شهور التصعيد الإسرائيلي الإقليمي الواسع الذي أعقب هجمات الفصائل الفلسطينية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، أو حتى في احتمال مُستقبلي عارض..
وللتحقق من ذلك، يمكننا التدقيق في مضامين السردية الإسرائيلية، إذ لم يكن إسقاط نظام الأسد يوماً هدفاً بالنسبة لحكومة اليمين الإسرائيلية المتطرفة، أو لأيٍ من الحكومات الإسرائيلية المُتعاقبة، فهو بالنسبة لإسرائيل نُسخة مُدجنة لنظام محسوب على محور الممانعة، يبتلع المئات من الضفادع الإسرائيلية متمثلة بسلسلة طويلة من هجماتها التي تطال منذ سنوات عُمق المجال السوري، دون أن يرد بطلقة واحدة على المقاتلات الجوية والأرضية الإسرائيلية التي تستبيح بصفة شبه يومية كامل الأجواء السورية، كما تستبيح براً أراضي الجولان السورية
إن أقصى ما فعله نظام الأسد جل عمر حكمه لسوريا بالحديد والنار، من أدوار في المجال الإقليمي، خارج حدوده، أنه نذر بُنى النظام وهياكله لدور كلب حراسة ممرات الدعم الدافئة بين إيران وحزب الله، وليس لدعم الحزب في مواجهته مع إسرائيل، بل في إطار ما توفره الأسواق السوداء من امتيازات وخدمات مدفوعة، فقد نذر نظام الأسد المجال السوري وجعله سوقا سوداء للممنوعات، يقع السلاح والكبتاجون وغسيل الأموال على رأس قائمتها الطويلة.
ولإدراك حقيقة ما قدمه نظام الأسد، الذي كان يستحوذ على مقدرات الدولة السورية زهاء خمسة عقود، لمساندة الشعب الفلسطيني، يمكن استدعاء ما قدمته جماعة أنصار الله (الحوثيين) من موقعها أقصى جنوب الجزيرة العربية، من خلال عملياتها ضد الملاحة الإسرائيلية عبر مياه البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن، التي فرضت حصاراً خانقاً دفع بميناء إيلات الإسرائيلي إلى إعلان الإفلاس، وإلى ما قدمه حزب الله اللبناني، والتشكيل المُسلح الذي بادر إلى شن سلسلة من الهجمات ضد المستوطنات والمواقع على امتداد الخاصرة الإسرائيلية الشمالية، الذي شكل إسناداً رئيساً للشعب الفلسطيني، وأسهم في تشتيت جزء وازن من قوة الكلب الإسرائيلي المسعور الحربية وإنهاكه، فضلا عن أن تلك الهجمات التي شُنت من ثكنات حزب الله في الجزء الجنوبي من لبنان أدت إلى نزوح عشرات الآلاف من المستوطنين الإسرائيليين من سكان المستوطنات شمال إسرائيل، اللذين شكلوا بدورهم ضغطاً اقتصاديًا وسياسياً وديموجرافياً على حكومة اليمين الإسرائيلي المُتطرف، مما دفع بالآلة الإسرائيلية إلى شن سلسلة من الضربات النوعية ضد بُنى الحزب وهياكله وقياداته، وقد فشلت في وقف هجمات الحزب أو حتى في الحد منها ومن فاعليتها، إذ تمخض جبل الاستثمار الإسرائيلي في عمليات استهداف حزب الله عن فأر لم يحقق، ولو جزئياً وعد إعادة السكان إلى مستوطناتهم شمال إسرائيل.
إن الرابط الواضح بين الحرب الإقليمية التي تخوضها إسرائيل في فلسطين ولبنان وإيران، أن نظام الأسد اختار التموضع على هامشها، وأن سقوطه عرضي وثانوي، إذ من المُرجح أن مرد الحياد الأمريكي والغربي والإسرائيلي من عملية إعدام نظام الأسد، يتمثل في التعويل على أن تؤدي سيطرة قوات الثورة على كامل سوريا إلى قطع شريان الإمدادات الرئيس بين إيران وحزب الله، أملاً في أن يُقرب ذلك مجلس الحرب الإسرائيلي من وعوده مستحيلة التحقق، وعلى رأسها تغيير المعادلة الأمنية والعسكرية في المنطقة للأبد، التي يتفرع منها وعد إنهاء القوة العسكرية لحزب الله، وتسليم مناطق سيطرة الحزب إلى الجيش اللبناني (الضعيف)، وتمكين حكومة غير معادية لإسرائيل من إخضاع النسخة الجديد من حزب الله المُعدل جينياً في مقصلة الآلة الحربية الإسرائيلية طبقاً لمتطلبات الأمن القومي الإسرائيلي الذي هو الشرط لتطبيع الكيان الإسرائيلي في المنطقة بالحديد والنار لعقود قادمة.
إن تتبع التفاعلات الإسرائيلية منذُ بدء تقدم قوات الثورة السورية باتجاه مناطق سيطرة النظام، تُفصح عن فزع كامل المنظومة العسكرية والسياسية الإسرائيلية من انهيار دفاعات النظام السوري، إذ عقد مجلس الحرب الإسرائيلي اجتماعات متواصلة لتقييم الوضع، وحين تصاعدت مؤشرات قرب سقوط نظام الأسد اتخذ قراراً بتحريك قوات عسكرية دفاعية وهجومية وتحريك منظومته الاستخباراتية، وأقر إبقاءها في حالة تأهب قصوى، ومع تقدم قوات الثورة وجه مجلس الحرب الإسرائيلي تهديدات شديدة اللهجة من أي تحرك لقوات هيئة تحرير الشام باتجاه الجولان، وبدأ بإجراء اتصالات مع قوات سوريا الجديدة، ولا يزال الوضع كذلك حتى اليوم.
إن اتخاذ موقف مُعادٍ من انتصار قوات الثورة السورية ضد نظام ديكتاتوري فاسد، مُجازفة غير مدروسة، تنطوي على موقف عدائي من الشعب السوري وخياراته لدولته المنشودة، مقابل مساندة حكم استبدادي غاشم سقط إلى غير رجعة، وهو موقف عدمي وتعصبي يُصدر من خلف متارس الصراع والاحتراب في المنطقة، واصطفافاتها الحادة، لا يستند إلى أي أساس أخلاقي وقيمي أو سياسي، واستنساخ ذلك الموقف، لرفعه في كل دولة من دول المنطقة، يفتقر إلى المسؤولية والحكمة.
وبالمثل، فإن من المُجازفة الذهاب إلى القول بأن المتغير في القرار والمزاج الدولي الذي رفع الحماية الدولية عما تبقى من نظام الأسد يُمكن أن يُستنسخ في أي بلد آخر في المنطقة، إذ ما يزال محض أُمنيات مُرسلة لا تستند إلى أي أساس، وحتى الآن ليس من الواضح حدود هذا المُتغير في القرار والمزاج الدولي خارج حدود المجال السوري، بما في ذلك ارتداداته على أوضاع بلدان المنطقة، وعلى رأسها إيران والعراق واليمن، فضلاً عن المآل النهائي للوضع في لبنان وفلسطين.
إن الواجب الآن، عدم المجازفة بإحراق المراكب، والرهان على متغيرات مُحتملة في المزاج والقرار الدولي، فمثلما هناك عوامل كثيرة تشترك فيها عدد من بلدان المنطقة، هناك كثير من عوامل التباين والتعارض والخصوصية، والخيار الأرشد، بناء تسويات وطنية تاريخية، تضع أسس بناء دول وطنية مُستقرة تحتكم إلى عقد اجتماعي متوافق عليه، وتشريعات وطنية ضامنة للمواطنة المتساوية، وسيادة القانون، والتعددية، والتداول السلمي للسلطة، وحرية الصحافة، وحرية الرأي والتعبير والمعتقد.
يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.