الرابحون والخاسرون في سوريا

تبييض صفحة تحرير الشام

الأحد, 29 ديسمبر / كانون الأول 2024

أحمد سنان

أحمد سنان

لنلقي نظرة على ردود الفعل حيال ما شهدته سوريا. فقد رأى الخبير في الجهاد في مركز أبحاث مجموعة الأزمات الدولية جيروم دريفون، إن المسلحين "استمدوا الإلهام من العقائد العسكرية الغربية"، إلا أن ذلك لم يسترع انتباه أحد بناء على تاريخ العلاقة الغربية بالمنطقة. وذكر دريفون إن "زعيم المجموعة ورئيسها العسكري أخبراه أنهم تطلعوا بشكل خاص إلى القوات المسلحة البريطانية، التي هي أصغر حجمًا وأكثر رشاقة"، وهذه بالطبع تشكل إشارة ضمنية على التورط البريطاني فيما حدث في سوريا.

ولكي تسير عملية تبييض أو لنقل تصفير العداد، يقول دريفون إن المقاتلين الآن بحاجة إلى أن "يكونوا متماسكين أيديولوجيًا، ومنسقين بشكل أفضل في ساحة المعركة". لكن من أين لهم أن يحققوا ذلك، وهل بالإمكان تحقيقه بعد رحيل الأسد؟ أم أن الأهداف الحقيقية لكل من تلك الجماعات ستعاود الظهور، وسيبدأ فصل من تصفية الحسابات البينية؟ أم أن الولايات المتحدة وإسرائيل وبريطانيا وفرنسا وألمانيا قد حددت الخطوط العريضة الأولية لهذه الجماعات حتى تصير كتلة تتحرك وفقا للحاجة؟

ويزعم الخبير أن (هيئة تحرير الشام) "محافظة على الميول الاستبدادية"، على الرغم من أنها تسعى " إلى إظهار التسامح علنًا مع الأقليات الدينية". في حين يزعم الكاتب الأمريكي حسن حسن (هل تكرر، أم هو هكذا)، في مقال له في "نيويورك تايمز" إن وراء "نجاح هيئة تحرير الشام" في السيطرة على حلب وإدلب هو تحولها عبر الزمن من "أكثر الحركات الجهادية العنيفة" إلى "قوة قومية"، وهذه كما نرى سابقة عكسية في تحليل الأحداث، فلم يحدث ان تحولت الحركات المتطرفة أو العنيفة كما يسميها إلى القومية؛ لأنها عادة تقف على النقيض من القومية. 

كما يشير الكاتب إلى أن الهيئة "حاولت إظهار اعتدالها من خلال تبني ممارسات إسلامية أقل قسوة، وجذب التقنيين والمتخصصين، وقد أظهرت الجماعة انضباطاً أكبر من الجماعات القومية الأخرى، إذ حثت مقاتليها على احترام المسيحيين والأقليات الأخرى، وعقدت لقاءات مع قادة دينيين لضمان حمايتهم. كما لعبت دوراً حيوياً في محاربة داعش والقضاء على بقايا القاعدة في سوريا. وهنا نرى كيف يخلط بكل فجاجة بين الاسلام والحركة، فيجعلهما شيئا واحدا، وكأن تلك القسوة التي أظهرتها تلك الجماعات جزءاً أصيلاً من الدين الاسلامي.

وفي تناقض ظاهر يقول الكاتب إن التحول الطارئ "ليس أقل خطوة، بل يجعلها أكثر تعقيداً ويصعب القضاء عليها"؛ لأنها في كل حال ستعمل على تثبيت وضعها وسياستها ومنهجها عبر "الترهيب، والاغتيال، وقتل النشطاء المدنيين". وخلص الكاتب إلى أن تهديد "هيئة تحرير الشام"  ليس هو التهديد "الذي حاربته الولايات المتحدة الأمريكية تحت ما يعرف بــ "حربها على الإرهاب"، بسبب أنها "أعادت تشكيل نفسها لتكون حركات وطنية تركز على قضايا محلية، لا للبقاء فقط، بل للازدهار في المشهد الجيوسياسي الجديد"، مستشهدا بتصريح لزعيم الهيئة أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع مؤخرا): إن "سوريا لن تكون قاعدة للهجمات الجهادية ضد الغرب"، ويؤكد أن الحركة قدمت نفسها "شريكاً موثوقاً لتركيا"، وهكذا تبرز كيفية تحول مفهوم الإرهاب إلى مقولة فضفاضة تستخدم وقت الحاجة ووقت المصلحة، وهو مفهوم غير مثبت ويمكن استخدامه من قبل الجميع حسب الزمان والمكان. فمن جهاد عالمي الهدف إلى جهاد داجن للاستخدام المحلي أو حتى الإقليمي وقت الضرورة أو الطلب؛ لأن أهداف هذه الجماعات "لم تعد تتعلق بالجهاد العالمي بل بالهيمنة الإقليمية، وهي استراتيجية تجعل من الصعب إزاحتها"، مشيراً إلى أنها "حقيقة جديدة" ويجب على صنّاع السياسات في الغرب التعامل معها، أي تركها ما دامت المصالح الغربية في مأمن منها.

ويصنف كبير الباحثين في مؤسسة "نيو أميركا"، دوغلاس أوليفانت، هذه الفصائل على أنها "أذرع تابعة لأنقرة، لاسيما في ظل التسليح الذي يمتلكونه بشكل غير معهود". مشيرا أن الإجابة عن التساؤلات المتعلقة بتسليح هذه الفصائل لا تبتعد عن "تركيا، التي لها علاقات طويلة الأمد معها، ناهيك عن استفادتهم المباشرة من هذا الأمر". وجزم أن ما حدث لا يخرج عن نطاق "رغبة أنقرة في توسيع نطاق السيطرة في الأراضي السورية"، مؤكدا أن هذه التطورات "ليست مفاجأة".

وعليه لم يكن المفكر السياسي المصري مصطفى الفقي مجانبا للصواب عندما قال إن ما حدث في سوريا كان متوقعا، ويجري ضمن فوضى كاملة ومجازر واسعة في الشرق الأوسط عموما الذي يغلي بالأحداث والصراعات. وعليه فإنه "لا ينبغي الفصل بين ما يجري في غزة، وما جرى في لبنان، وما يجري في سوريا، كلها جزء من منظومة واحدة تستهدف تطويع الدول العربية في المنطقة لسياسة الولايات المتحدة وحلفائها بشكل حاد وقوي".

ووفقا لتحليل الفقي، فإنه لا يمكن النظر إلى ما يحدث بوصفه أحداثا عادية، بل هو جزء من مخطط خطير جدا دخلت فيه تركيا مع الولايات المتحدة وإسرائيل مع طرف غير مرئي، فضلا عن التجاوزات البينة لقوى إقليمية على الأرض في سوريا لاسيما التنظيمات الإرهابية القديمة مثل "داعش" وغيره.

فما يجري هو العمل على تغيير الأوضاع في المنطقة لكي تصبح أكثر ملائمة للمد الإسرائيلي، وإهدار مكانة الشعوب العربية. وهو ينظر إلى ما يجري على أنه خطر داهم يواجه الجميع، وأنه يسير حسب ترتيب معين "غزة وفلسطين، ثم لبنان، ثم الاتجاه إلى سوريا والمرور على العراق، ولا نعرف ماذا سيفعلون باليمن في المستقبل".

ويذهب بعضهم، في العراق مثلا، للترويج للرعب الإسرائيلي بوصفه قدرا مقدورا لا يمكن رده ولا حتى بالدعاء، وعلى الجميع انتظار مصائرهم، ففي العراق مثلا يقول العميد عدنان الكناني: "إن إسرائيل بدأت فعلا بخطوات جمع المعلومات الاستخباراتية، وتتابع تحركات تلك الفصائل داخل العراق، عبر مسيّرات استطلاعية، وعن طريق الأقمار الصناعية، والخلايا النائمة لها في العراق"، وأنه لا مأمن للعراق؛ "لأن استمرار هجمات الفصائل تمنح إسرائيل فرصة جيدة لتصفية حساباتها مع هذه الفصائل المسلحة، ومع بقية خصومها في المنطقة". 

وقال الخبير الأمني جبار ياور، لموقع "الحرة" إنه على الرغم من الصعوبات الجغرافية بين إسرائيل والعراق، وعدم وجود حدود مشتركة بينهما، يمنعهما استخدام القوات البرية، فإن السيناريو الأكثر توقعا برأيه هو قيام إسرائيل بشن غارات جوية لضرب مواقع هذه الفصائل".
أما في اليمن فكان رد فعل الأطراف المتنازعة مثيرا من جهة أنه يحمل من المفارقات والتناقضات التي تظهر عمق الأزمة السياسية الذاتية، وضبابية الرؤية، وعدم القدرة على تصويب التوجهات السياسية والفكرية نحو خلق مضمون وطني منفصل عن الرغبات الخارجية الرامية إلى توظيف الوضع اليمني في تحقيق أجندات جيوسياسية واقتصادية منفصلة عن مصالح اليمن، أو لنقل اليمنيين أو سموها ما شئتم.

ونشر (مأرب برس) خبرا منحازا إلى تركيا، تحت عنوان "تصريحات خطيرة لأردوغان"، ناقلا عنه القول: ''حاولنا مع الأسد، لكنه لم يتجاوب، ودمشق الهدف القادم للمعارضة المسلحة''، والتصريح المنقول يشير بكل وضوح إلى اليد التركية التي تحرك الأحداث، فضلا عن الأيادي الأخرى التي لم تعد خفية الآن، بل إن (مأرب برس) إخوته رأوا أن ما يجري في سوريا يقربهم من صنعاء أكثر من أي وقت، فذهبوا إلى القول إن " انتصارات ثوار سوريا تكسر ظهر عبد الملك الحوثي، طبعا هذا كلام منطقي بالنسبة لهذه المواقع؛ لأنه يعكس مدى التحالف بين هيئة تحرير الشام بفصائلها مع الطرف الذي تمثله هذه المواقع، وبالتالي لا يمكن العتب. لكن من المشكوك فيه أن يكون ما حدث في سوريا لصالح أي طرف يمني، ولا يوجد يقين بذلك لدى أي منها. 

لكن الأكثر غرابة بالنسبة لليمن أن الأطراف التي تخوض حربا ضروسا مع جماعات مشابهة، أو قريبة من الميلشيات السورية سارعت إلى التهليل والتكبير على غرار خصومها، فلم تعد تصفها بأنها جماعات إرهابية، بل تستخدم التعبير الغربي الجديد (قوات المعارضة السورية المسلحة)، وأكثر من ذلك أن أحد السياسيين المخضرمين الذي كان يصف تلك المعارضة بالجماعات الإرهابية أصبح الآن يطلق عليها (ثوار سوريا) و(الثورة السورية)، ويكاد علي ناصر محمد الرئيس الجنوبي الأسبق أن يكون الوحيد الذي استخدم التصنيف المتعارف عليه سابقا عند تحليله للوضع في سوريا. 

وقد استعرض موقع "دوتشيفيله" ردود أفعال بعض الدول العربية والغربية وبياناتها. وكانت البيانات الصادرة عن الدول العربية تعكس ذلك الوهن المزمن والمستحكم، القابل بكل ما يجري، وما التحذيرات الخجولة من الفوضى، والتعبير عن الدعم لوحدة الأراضي السورية وسلامتها وسيادتها إلا مجرد عبارات فارغة لا تحمل أي معنى. فقبل صدور تلك البيانات أعلن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتسي هاليفي يوم الأحد 8 ديسمبر 2024، أنه "بدءا من هذه الليلة يقاتل الجيش الإسرائيلي داخل سوريا". لم تقترن تلك البيانات بأي إرادة عربية تدل على أنها ستتصدى لأي تهديد لتلك الوحدة والسلامة والسيادة. ولاحقا ذكرت إذاعة الجيش الإسرائيلي أنّ إسرائيل "تهاجم كل ما يمكن أن يهدد إسرائيل في سورية". وأضافت أن ذلك يشمل "أي مادة استخباراتية يمكن أن يستخدمها أعداؤنا في المستقبل، وأي مستودع عسكري، وأي نظام دفاع جوي".

أما رد الفعل الألماني فقد وصف بالمراوحة بين الأمل والحذر، ورأى المستشار الألماني أولاف شولتس بأن سقوط (الأسد) "نبأ سار"، ودعا إلى "استعادة القانون والنظام سريعًا" مع ضمان حماية جميع الأقليات. وأكد أن النظام السابق تسبب في معاناة هائلة للشعب السوري، وتتمثل المفارقة في أن ألمانيا ومستشارها لا ترى أن الاحتلال يسبب المعاناة المضاعفة للشعب الفلسطيني، وهي تعمل ليل نهار لتزويده بكل أدوات الإبادة الممكنة. وهذا الموقف تتشاركه أغلب الدول الغربية بشكل أو بآخر.

وقال بيان وزارة الدفاع الأميركية بعد الهجمات الجوية الإسرائيلية على الأراضي السورية في اليوم نفسه الذي استولت فيها (هيئة تحرير الشام) على سوريا، أن الوزير أوستن " أكد على أهمية التشاور الوثيق بين الولايات المتحدة وإسرائيل بشأن الأحداث في سوريا". ولم تخرج البيانات الأوربية عن الطبيعة الاحتفالية بما حدث بسوريا.

ولعل أقوى بيان مؤسسي عربي حتى الآن هو الذي صدر عن الأزهر الشريف. فقد استنكر البيان وحذر من " انتهازية الصهاينة، واستغلالهم ما تمر به سوريا؛ للسطو على أرضها ومقدراتها، مؤكدًا أن هذا الكيان المحتل اعتاد على اغتصاب أراضي دول المنطقة، ونهب ثرواتها، وتسخير مواردها لخدمة مصالحه". وحذر السوريين من "مخطَّطات شديدة المكر؛ تراد لتقسيم بلادهم، وكسر شوكتهم، وإغراقهم في مستنقع الصراعات والحروب الأهليَّة، وأن يعلموا أن بعض القوى الشريرة لا تريد لسوريا أن تستقر وتزدهر؛ "فاحذروهم واحسبوا لهم ألف حساب، ولا تغفلوا لحظة عن سوريا وعن الوضع الحرج الذي يمر بها وبالمنطقة، واعلموا أن سوريا ذات تاريخ عريق وحضارة راسخة؛ فحافظوا على تاريخكم وحضارتكم". إن ما يميز هذا البيان أنه لم يوجه إلى الحكام العرب، ولكن إلى العالم العربي، وحذره من السرطان الصهيوني: " وطالب الأزهر العالم العربي والإسلامي باتخاذ مواقف جادة وسريعة، والضَّغط الدولي؛ من أجل وقف تمدد هذا السرطان وانتشار تهديده في الجسد العربي عضوًا تلو الآخر". ويتضرَّع الأزهر إلى المولى -عز وجل- أن يحفظ سوريا وأهلها، وأن يهيئ لها مَن يقودها ويرشدها إلى الاستقرار والتقدم والأمن والرخاء، وأن يقيها كلَّ مكروهٍ وسوءٍ.

إذن، من الرابح ومن الخاسر في سوريا؟
منذ بداية الثورة السورية تشكلت أزمة مركبة. أزمة الثورة، وأزمة النظام، وأزمة النظم العربية. وتتمثل أزمة الثورة السورية في أن بعض الدول العربية، ببواعث من عدائها للنظام السوري، والشكل الجمهوري للنظام ورغبتها في تأكيد فشل هذا الشكل من النظم في المنطقة العربية، سارعت إلى إغراق سوريا بالسلاح وبالجماعات المتطرفة من كل مكان حتى من الويغور، وحشدت استخباراتها للمشاركة في جهود إسقاط نظام البعث، بل إن بعضها قامت باستخدام قاعدة انجرليك التركية لضرب دمشق، إلا أن جماعات الإخوان المسلمين في المنطقة سارعت إلى إرسال عناصرها للجهاد في سوريا، ولعل إعلان محمد مرسي من ستاد القاهرة في 15 يونيو2013، قطع العلاقات الدبلوماسية مع سورية، وطرد السفير السوري، وسحب القائم بالأعمال المصري من دمشق!. ودعوته إلى إنشاء منطقة حظر جوي في سورية، شبيه بما فعله الغرب في العراق، كل ذلك شكل فورة الغضب الإخواني على النظام السوري، ولحقه غضب من نوع أخر من أنظمة عربية لها نظرة متباينة حيال الإخوان (لكنهم اجتمعوا في سوريا). 

هذا الوضع أوجد أزمة حقيقية للثورة في سوريا بتنازع الأهداف بين التغيير والإرهاب، بين الاحتياجات الوطنية والرغبات والمصالح الإقليمية والدولية. بمعنى أن الثورة السلمية قد أجهضت، وتحولت بالتالي إلى حرب أهلية اختلطت فيها الأهداف والمرامي. 

أما أزمة النظام فتتمثل في أن النظام العربي الجمهوري فقد جوهره الحقيقي وتحول إلى نظام ملكي عضوض لا فرق بينه وبين الملكية المطلقة الا بالتسمية؛ لأن استماتة الرئيس (الحاكم) وتشبثه بالسلطة مع حاشيته المفضلة يمنع النظام من التجدد ويؤدي إلى تكلسه، الأمر الذي يجعله في نهاية المطاف قابلا للسقوط عوضا عن الإصلاح. وهذا ما بينته الأنظمة في العراق وليبيا واليمن، فعلى الرغم أن إصلاحها كان ممكنا في وقت مبكر من استفحال أزمتها فإنها تمنعت عن ذلك فكان سقوطها مكلفا عليها، وعلى الشعوب والدول وامكاناتها وسيادتها.

  فضلا عن أن النظم العربية الملكية تعاني أزمتها الخاصة الناجمة عن تبعيتها المطلقة، وعن خصومتها للأنظمة الجمهورية التي تشكلت نتيجة الثورات التحررية العربية. مع العلم أن هذه الأنظمة نفسها تعاني أزمة الحريات، وانتقال السلطة في إطار العائلة الواحدة التي غالبا ما تنتقل بالانقلاب، وتظل الكويت هي الدولة الوحيدة التي تتداول فيها العائلة الحاكمة السلطة بسلاسة تحسد عليها. ونتيجة لهذه الظروف والتناقضات التي هيمنت على المشهد السوري تشكل محوران هما: محور النظام وحلفائه، ومحور معارضيه.

نجد في المحور الأول النظام السوري وروسيا وإيران والتنظيمات التي تواجه إسرائيل في فلسطين ولبنان (بصرف النظر عن محددات أهدافها وموجهاته). وهذا يمكن تصويره بالوعاء الذي اجتمعت فيه عدد من المتناقضات، وكل ما يجمعها هو بسط نفوذها من خلال المحافظة على النظام بكيفيته. وأما المحور الثاني الذي يشكل مثلثا قاعدته تركيا وضلعاه أمريكا وإسرائيل فقد التقت فيه المصالح التركية والأمريكية والإسرائيلية، وهي حتى الآن تبدو منسجمة بسبب وضوح الأهداف وكيفية تحقيقها.

والنتيجة أن محور النظام قد خسر للأسباب التي ذكرناها، في حين أن المحور المعارض للنظام قد ربح. فالولايات المتحدة على الرغم من أن شعارها هو مكافحة الإرهاب، لكن عملها اقتصر على الشرق السوري لماذا؟ لأن النفط السوري هناك، والنفط هو المحفز الذي يجعل ترامب يتراجع عن سحب القوات من سوريا عام 2018. أما تركيا التي كررت أنها لا تطمع في شبر واحد من الأراضي السورية فذاك منطقي جدا، فهي لا تريد شبرا ولكنها تريد أن تستولى على حلب كاملة لتضمها كما ضمت لواء الأسكندرون بالحيلة والاحتيال مع الفرنسيين. أما إسرائيل فلم تخفِ يوما أطماعها التوسعية، فبمجرد سقوط دمشق تحركت كما تحركت عند سقوط بغداد، وبادرت باحتلال جبال الشيخ، وقررت البدء بالتوسع الاستيطاني في الجولان، فضلا عن الغارات التي تشنها على الأراضي السورية لتدمير قدراتها الدفاعية تحت مبرر المخاوف من انتقال الأسلحة (إلى الجماعات الإرهابية)، التي هي تدعمها بالأساس. 

إن خسارة محور النظام تقتصر على أن أطرافه غير المتجانسة الأهداف كانت على دراية مسبقة أن أهدافها تحتمل النجاح والإخفاق، فإن تحققت فخير وبركة، وإن أخفق تحقيقها فهي محاولة ستكون جزءاً من التاريخ.

لكن الخاسر الأكبر هو الشعب السوري الذي أزهقت منه أرواح كثيرة، ودمرت بلاده في حرب ملغومة بكثير من الدسائس والصفقات الخفية. والدول الممولة كذلك خسرت كما خسرت في العراق، والآن الخسارة أكبر لأن أهميتها تتناقص بتناقص الدول المناهضة للعدو الصهيوني، وليس هناك ما يمنع توجه الأطماع نحوها لتقرر إسرائيل وحدها مصيرها، على الرغم أنهم ليسوا على عداوة معها كما صرحوا مرارا. لكن إسرائيل لا تعتقد ذلك. وتأكيدا لما قلت آنفا نقلت وسائل إعلام عن صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، قولها: إن "التحدي الأكبر الذي يواجه إسرائيل الآن هو إخراج دول المنطقة من المأزق من مصر والأردن إلى السعودية والبحرين والكويت والإمارات العربية المتحدة". وأكدت معاريف أن هذه الدول "المعتدلة" قد تعرضت جميعا لـ "صدمة المعركة"، بعد سقوط نظام الأسد، فمن ناحية، هم قلقون "من منهم سيكون التالي في الصف". وأضافت الصحيفة العبرية أنه من المرجح "أنهم لو انضموا إلى مهمة تدمير أصول الجيش السوري لكانوا في مكان يتمتع بمستقبل أمني أفضل".

والمشروع العربي التحرري هو أكبر الخاسرين على الاطلاق. فتدمير ثلاث دول من رباعي المواجهة يعد ضربة قاصمة، ولن يتوقف الأمر عند هذا الحد دون إكمال الاجهاز على الضلع الرابع- مصر. نعتقد أن دورها يقترب وفقا للمؤشرات الماثلة. 

هامش
   جاء هذا الخبر اليوم 16 ديسمبر2024، وأنا أراجع المادة قبل إرسالها للنشر.

content

يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.