انهيار أسعار الأراضي الزراعية في ريمة

من المنافسة على الشراء إلى الركود

الثلاثاء, 7 يناير / كانون الثاني 2025

فايز الضبيبي

فايز الضبيبي

شهدت مناطق عدة في محافظة ريمة، لاسيما المناطق الجبلية، انهيارًا ملحوظًا في أسعار الأراضي الزراعية منذ بداية القرن الحادي والعشرين. ففي الوقت الذي كانت فيه الأراضي الزراعية تباع بأسعار توازي أسعار الأراضي في المدن الرئيسة، مثل صنعاء والحديدة في السبعينات والثمانينات، كان المغتربون من أبناء ريمة حينها يتنافسون على شراء الأراضي الزراعية، ويقبلون على شرائها بأسعار باهضة. أما اليوم فقد أصبحت تلك الأراضي بائرة، ولا تدر عائدًا يوازي تكاليف زراعتها، فضلا عن بعضها قد أصبح مهجوراً، وانخفض سعرها انخفاضًا ملحوظًا.

ونقصد بالأراضي الزراعية في هذا السياق الحقول والمدرجات الزراعية التي تُزرع بأنواع مختلفة من الحبوب والمحاصيل، مثل القمح والشعير والذرة، فضلا عن القات والبُن اللذين يُعدان من المحاصيل الرئيسة في المنطقة. وتشمل هذه الأراضي مزارع الأعلاف، والأحطاب، والرعي، التي تستفيد من الأمطار الموسمية لتنمية النباتات الطبيعية فيها.
ومن الجدير بالذكر أن هذه الأراضي تشكل جزءًا رئيساً من اقتصاد المحافظة وحياة سكانها، إذ يعتمد كثيرون على الزراعة والرعي بوصفهما المصدر الرئيس للدخل ولتوفير الغذاء.

محمد: من قصة النجاح إلى الفشل الزراعي
"قضيت عشرين عامًا في المملكة العربية السعودية، كانت مليئة بالتحديات والفرص، ولكن على الرغم من النجاح الذي حققته هناك، كانت العودة إلى الأرض في مسقط رأسي في قرية المصبحي ببني الضبيبي والاستثمار في الأراضي الزراعية حلمًا لم أستطع مقاومته." بهذه الكلمات بدأ محمد الضبيبي حديثه عن مسيرة حياته التي بدأها مغتربًا في السعودية، ثم تنقل بين عدد من المدن هناك، وعمل في مهن مختلفة، واكتسب خبرات عدة، ثم عاد إلى بلاده محملًا بأحلام الاستثمار في الأراضي الزراعية في منطقته الجبلية.

في ثمانينات القرن الماضي، كانت الأراضي الزراعية في مناطق ريمة تُعد من أهم الممتلكات التي يفتخر بها أهل المنطقة. وكان شراء الأراضي يشكل مصدر فخر اجتماعي، وكان الناس يتنافسون على اقتنائها، ومع الطفرة الاقتصادية في السعودية، كانت العوائد المالية التي يجنيها المغتربون اليمنيون في المملكة توفر لهم القدرة على شراء عدد من الأراضي بأسعار مرتفعة.

قرر محمد الضبيبي، الذي قضى سنوات عدة في السعودية، وجمع خلالها أموالًا طائلة، استثمارها في شراء أراضٍ زراعية في منطقته، على الرغم من علمه بأن العوائد المالية من هذه الأراضي ستكون ضئيلة. إذ كان يعتقد أن الاستثمار في الأرض هو الخيار الأمثل. فقد "كان من العيب بيع الأرض مهما كانت الظروف، وكان من يكتسب المزيد من الأراضي يُعد "شاطراً" أي ذكياً، في حين يُعد من يبيع أرضه "مُدْبِراً" أي لا يحسن التصرف. ويشير الضبيبي إلى أن معظم الأراضي الزراعية في المنطقة كانت ملكًا لأسر قليلة ومعروفة ظلت تحتكر هذه الأموال، وتتوارثها فيما بينها لعقود، في حين كان بقية أبناء المجتمع يعملون أُجراء، أو بالأجر اليومي في تلك المزارع..

من الزراعة إلى الهجرة
مع مرور الوقت، بدأت الصورة تتغير. ففي التسعينات، وعلى الرغم من أن الضبيبي استطاع شراء أراضٍ زراعية في قريته بمبالغ ضخمة تجاوزت مليون ريال سعودي، فإنه سرعان ما اكتشف أن تلك الأراضي لم تُنتِج سوى القليل من الأعلاف التي لا تساوي قيمة تكاليف الزراعة.

واحدة من تلك الأراضي اشتراها الضبيبي بـ 250 ألف ريال سعودي، وقد كان حينها سعر الريال السعودي مقاربًا لسعر الريال اليمني. ولم تكن الأرض صالحة للزراعة، بل كانت عبارة عن أرض منحدرة تزرع الحشائش التي تنمو بفعل الأمطار الموسمية، وتنتج فقط حوالي 500 حزمة علف سنويًا، لا يتجاوز قيمتها وقتئذ خمسة آلاف ريال يمني. 

ويضيف الضبيبي، واليوم، "لم أتمكن من بيع هذه الأرض أو تأجيرها بأي ثمن، إذ هاجر عدد من أبناء المنطقة إلى المدن، ولم تعد هناك حاجة للأراضي الزراعية". كما أن قطاع القات، الذي كان من أهم المحاصيل الزراعية في المنطقة، أصبح غير مجدٍ بعد تراجع الإنتاج في ظل انعدام الأسواق لتسويق المحصول، وقلة الماء لري المحاصيل في فصل الشتاء. الجميع أصبح في بحث دائم عن فرص عمل في المدن، وأصبحت الأراضي الزراعية في المنطقة مجرد ذكرى لأوقات مضت.

الهروب إلى المدن
بعد سنوات من المحاولة واليأس في بني الضبيبي، قرر الضبيبي الانتقال إلى العاصمة صنعاء في التسعينات مع أسرته بحثًا عن مصدر دخل جديد. يقول محمد الضبيبي: "وجدت أن كل ما كنت أملكه من أراضٍ زراعية في بني الضبيبي لا يكفي لتغطية احتياجاتنا اليومية، فقررت أن أبحث عن فرصة عمل أخرى".

وفي صنعاء، فتح الضبيبي متجرًا لبيع الخضار، وأصبح يعمل فيه مع أولاده. وبفضل الله، استطاع جمع ما يكفي لشراء قطعة أرض صغيرة على أطراف المدينة، وقام ببناء منزل صغير لعائلته. ويشير الضبيبي إلى أن قيمة هذا المنزل اليوم في صنعاء تعادل أضعاف قيمة ما شراه من الأراضي الزراعية في منطقته، التي أصبحت مهجورة ولا قيمة لها.

وعي متأخر
"لو كنا قد فكرنا في شراء الأراضي في المدن بدلاً من العودة إلى الزراعة في القرى الجبلية، لكانت حياتنا مختلفة تمامًا اليوم"، يضيف الضبيبي. ففي حين كانت الأراضي في صنعاء تتزايد قيمتها عامًا بعد عام، وتصبح مصدر دخل ثابت من خلال التأجير أو البيع، بقيت الأراضي الزراعية في بني الضبيبي مهجورة، وأصبحت عبئًا لا يمكن التخلص منه.

إن التحولات الاقتصادية التي طرأت في المنطقة كانت حاسمة، إذ أصبح العقار في المدن اليمنية يشكل استثمارًا مربحًا، في حين أن الزراعة التقليدية في القرى لم تعد مجدية. يقول: "أدركت متأخرًا أنه كان عليّ التفكير بشكل مختلف، وأن الزراعة لم تكن هي الطريق الوحيد للاستثمار في هذه المنطقة."

ويؤكد الضبيبي أن منزله المكون من طابقين في القرية، الذي كان قد بناه أثناء غربته في السعودية، قد تهدم جزء منه بعد أن تركه وذهب إلى صنعاء، وأسكن فيه أحد أقاربه. ومؤخرًا، انتقل قريبه مع أسرته للسكن في صنعاء، وترك المنزل فارغًا، ولم يصمد خمس سنوات بعد هجرته، لتدمر الأمطار جزءًا منه.

التحولات الاقتصادية في مدة الطفرة الاقتصادية في السعودية:
في مدة الطفرة الاقتصادية التي شهدتها المملكة العربية السعودية خلال السبعينات والثمانينات، كان المغتربون اليمنيون من بين أكثر الفئات التي تأثرت بهذه التحولات التي أسهمت بدورها في إحداث تغيرات اقتصادية واجتماعية كبيرة في اليمن. وقد بدأ الأمر عندما فتحت المملكة أبوابها للعمالة الوافدة لتلبية احتياجات التنمية المتسارعة بفضل عائدات النفط. فوجد اليمنيون، بسبب القرب الجغرافي والروابط الثقافية، فرصًا ذهبية للعمل في القطاعات المختلفة داخل المملكة.

وتدفقت تحويلات المغتربين إلى اليمن بكميات كبيرة، وأصبحت شريان حياة للاقتصاد اليمني. وهذه الأموال لم تكن مصدر دعم للأسر في تلبية احتياجاتها اليومية من الغذاء والتعليم والصحة فقط، بل تجاوزت ذلك لتحدث نقلة نوعية في البنية التحتية المحلية. وبفضل هذه الأموال، شُيدت المنازل الحديثة، وظهرت شبكات طرق جديدة تربط المناطق الريفية بالمدن، مما أسهم في تحسين حركة التجارة والنقل.

وفي محافظة ريمة، أحدثت الطفرة الاقتصادية تحولًا جذريًا في حياة المغتربين من أبناء المنطقة، واستثمر هؤلاء عائدات غربتهم في شراء الأراضي الزراعية وبناء منازل فاخرة في مسقط رأسهم، متمسكين بجذورهم، ومؤمنين بالمثل الشعبي القائل "أرض في غير بلدك لا لك ولا لولدك ".

كسر الاحتكار
يعتقد أحمد الفقيه، الخبير في الشؤون الاجتماعية، أن توجه المغتربين في تلك الحقبة نحو شراء الأراضي الزراعية، وبناء المنازل في قراهم لم يكن مجرد استثمار اقتصادي فحسب، بل كان محاولة لكسر احتكار الأسر الأرستقراطية التي سيطرت لعقود على الأراضي الزراعية الخصبة في ريمة.

وكانت هذه الأسر تشكل طبقة اجتماعية نخبوية، وكانت تعيش في منازل مترفة، في حين كان غالبية أبناء المنطقة يعيشون في مساكن متواضعة، ويعملون أُجراء وعمال في أراضي تلك العائلات الكبيرة، ولكن مع ازدياد القوة الاقتصادية للمغتربين، تغيّرت موازين القوى، وأصبحوا ينافسون أصحاب الأراضي في الاستثمار بالزراعة والأراضي، لاسيما مع تزايد أعداد المغتربين الذين عادوا بفضل الطفرة الاقتصادية في السعودية.

مفارقة الأرض
يروي الحاج صالح علي، أحد أبناء الأسر الأرستقراطية في بني الضبيبي التي تمتلك مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، أنه في منتصف الثمانينات عرضت عليه قطعة أرض في صنعاء (جوار مستشفى الكويت) بسعر 150 ألف ريال يمني، لكنه رفض شراءها. ويوضح الحاج صالح قائلاً: "كان بإمكاني بيع قطعة أرض واحدة من أراضي والدي وشراء الأرض في صنعاء، لكننا كنا نتمسك بالأرض ونعدها مصدراً لثروتنا. كنا نعيش حياة مرفهة بفضل تلك الأراضي، نزرع ونأكل مما ننتجه."

اليوم، تغيرت الأحوال بشكل جذري. فالأرض التي عُرضت على الحاج صالح في صنعاء في الثمانينات، التي كانت تُقدر بـــ 150 ألف ريال يمني، أصبحت تُقدر الآن بـ 200 مليون ريال يمني. في حين أن الأراضي الزراعية التي يملكها في قريته لا تساوي نصف هذه القيمة، على الرغم من أنها تضم عشرات المزارع الواسعة في الوادي والجبل.

الوضع الزراعي في محافظة ريمة
تتمتع محافظة ريمة بتنوع زراعي غني، إذ تنتج عدداً من المحاصيل، مثل الذرة بأنواعها المختلفة: العدس، والفول، والبقوليات، والخضروات والفواكه. كما تنتج المحافظة محاصيل نقدية ذات قيمة عالية مثل البن. وعلى الرغم من وفرة المحاصيل في المنطقة، فإن الأراضي الزراعية في الوديان تتمتع بموارد مائية أفضل مقارنة بالمناطق الجبلية، مما جعل الأراضي في الوديان أغلى من تلك الموجودة في الجبال.

وتتمتع الوديان بالقدرة على الزراعة مرتين في السنة، وتعتمد الزراعة على مياه الأمطار الموسمية خلال فصل الصيف والخريف، في حين يتم الري خلال فصل الشتاء باستخدام المياه الجوفية من الآبار. أما في المناطق الجبلية، فإن الزراعة تعتمد بشكل رئيس على مياه الأمطار.

العوامل الرئيسة التي أدت إلى انهيار أسعار الأراضي الزراعية
إلى ما قبل عقدين، كانت الأراضي الزراعية في ريمة ذات قيمة عالية، بسبب إنتاجها الوفير والمحاصيل المتنوعة التي كانت تزرع فيها، مثل القات والبن. إلا أن الوضع تغير بشكل كبير مع تدهور الاقتصاد المحلي في اليمن، فضلا عن الأزمات السياسية والنزاعات المسلحة التي عصفت بالبلاد. هذا التدهور أدى إلى انخفاض قيمة الأراضي الزراعية بشكل كبير.

1-    أزمة الخليج الأولى
تسببت أزمة الخليج، التي نتجت عن موقف اليمن السياسي في تأييد العراق، في هجرة جماعية لليمنيين العاملين في دول الخليج. وتسببت العودة المفاجئة للمغتربين إلى اليمن في أزمة اقتصادية أدت إلى تدهور الوضع الاجتماعي والاقتصادي، لاسيما في محافظة ريمة، وتزامن ذلك مع ارتفاع الأسعار وزيادة البطالة، ما جعل استثمارات المغتربين في الأراضي الزراعية والمنازل الفاخرة غير مجدية.

2-    انعدام الخدمات الرئيسة
تعاني محافظة ريمة من غياب الخدمات الرئيسة التي تسهم في تطوير قطاع الزراعة. إذ لا توجد طرقات جيدة لربطها بالمناطق الأخرى، فضلا عن أن المياه الصالحة للزراعة أصبحت أكثر ندرة. هذه العوامل جعلت تكلفة الزراعة أعلى بكثير من العوائد المتوقعة منها. ووفقًا لتقرير للأوتشا في ديسمبر 2023، تعد محافظة ريمة واحدة من أفقر المحافظات في اليمن، إذ يعيش أكثر من 74% من السكان في حاجة ماسة إلى المساعدات الإنسانية.

3-    تأثير التغيرات المناخية
تأثرت محافظة ريمة بشكل كبير بالتغيرات المناخية، إذ أدى الجفاف الطويل إلى تدهور الأراضي الزراعية. وفضلا عن ذلك، تعرَّضت المنطقة إلى أمطار غزيرة وفجائية تسببت في حدوث فيضانات وجرف للمحاصيل الزراعية، مما ألحق خسائر فادحة بالمزارع. فعلى سبيل المثال، تسببت الأمطار الغزيرة في عام 2020 بخسائر تقدر بـ 37 مليار ريال يمني، إذ تم تدمير آلاف الأشجار والمزارع.

4-    الهجرة إلى المدن
بسبب الظروف الصعبة في الريف، بدأ عدد من أبناء ريمة في الهجرة إلى المدن الكبرى، مثل صنعاء والحديدة؛ بحثًا عن فرص عمل أفضل. هذه الهجرة المتزايدة أسهمت في تناقص سكان الريف، ومع غياب الخدمات الرئيسة في ريمة، أصبح من الصعب على المهاجرين العودة إلى مسقط رأسهم، مما أدى إلى تحول نمط الحياة في المناطق الريفية بشكل جذري.

5-    التناقض بين الأرياف والمدن الكبرى
يبرز التناقض الكبير بين محافظة ريمة بوصفها محافظة ريفية تفتقر إلى الخدمات الرئيسة، وبين المدن الكبرى التي تتمتع بتطورات اقتصادية وارتفاع في أسعار الأراضي. ففي حين شهدت الأراضي في ريمة انخفاضًا حادًا في قيمها بسبب العوامل الاقتصادية والبيئية، ارتفعت قيمة الأراضي في المدن الكبرى مع تزايد الطلب عليها من المهاجرين وأصحاب المشاريع. هذا التباين يعكس واقعًا اقتصاديًا واجتماعيًا صعبًا بين الريف والحضر في اليمن.

6-    التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية
أدى تدهور الأراضي الزراعية في ريمة إلى تغييرات اجتماعية واسعة النطاق. إذ كانت تلك الأراضي مصدر رزق لأجيال متعاقبة من المزارعين، ولكن مع تراجع إنتاجها، بدأت الأسر التي كانت تعتمد على الزراعة، التي هي الدخل الرئيس، تواجه مصاعب اقتصادية جمة، إذ إن انخفاض الإنتاج الزراعي وارتفاع تكاليف الزراعة جعل عدداً من الأسر تواجه أزمات مالية. وفي ظل غياب البدائل المربحة، ساءت أوضاع هذه الأسر، وزادت معدلات الفقر والبطالة.

7-    التحولات في أسواق الأراضي
شهدت أسواق الأراضي في ريمة أيضًا تحولات كبيرة مع مرور الوقت. ففي أوقات ازدهار التحويلات المالية من المغتربين، ارتفعت أسعار الأراضي الزراعية بشكل كبير، ما دفع عدداً من أبناء المنطقة إلى شراء الأراضي بأثمان مرتفعة على أمل أن تجلب لهم هذه الأراضي عوائد مالية ضخمة. ولكن مع بداية تراجع القطاع الزراعي، ونقص الدعم الحكومي، وتغير أنماط الحياة، تدهورت الأسعار بشكل حاد.

واليوم، تُعد الأراضي الزراعية في ريمة غير مجدية اقتصاديًا، وأصبحت أسعارها لا تُذكر مقارنة بما كانت عليه في الثمانينات. على الرغم من أنها كانت في السابق تعد من مصادر الثروة للمجتمعات الريفية، أصبحت هذه الأراضي مهملة في الوقت الراهن، إذ تخلى عنها معظم المالكين الذين بدأوا يواجهون صعوبة في تأمين مداخيل من خلال الزراعة.

8-    الانكماش الزراعي وزيادة الهجرة
أسهم الانكماش الزراعي، فضلا عن التدهور الاقتصادي، في تسريع ظاهرة الهجرة من المناطق الريفية إلى المدن. فالمناطق الزراعية التي كانت مزدهرة في الماضي أصبحت غير قادرة على تلبية احتياجات السكان، مما دفعهم إلى البحث عن فرص جديدة في المدن. هذا التحول في السكان أدى إلى تفريغ القرى من السكان، وترك كثير من الأراضي الزراعية دون اهتمام أو استثمار.

والأسر التي كانت تعيش على عائدات الزراعة بدأت تهاجر تدريجيًا إلى المدن بحثًا عن فرص عمل أخرى، وبعضهم افتتح محلات تجارية، وبعضهم الآخر ذهب إلى العمل في قطاعات البناء أو الصناعة، لكن في النهاية، أصبح التحول إلى العمل في المدن أسلوب حياة لكثيرين. 

ومن جهة أخرى، أدت التغيرات المناخية إلى تراجع الإنتاجية الزراعية بشكل ملحوظ. فقد كانت الأمطار، التي تُعد المصدر الرئيس لري المحاصيل الزراعية في المناطق الجبلية، لا تأتي بانتظام كما كانت في السابق، مما أثر على الإنتاجية. ومع هذا التراجع، بدأت الأراضي التي كانت في السابق تعد صالحة للزراعة تتحول إلى أراضٍ جرداء، غير قادرة على إنتاج المحاصيل.

9-    الهجرة الداخلية والتأثير على المجتمع المحلي
كان للهجرة من المناطق الريفية إلى المدن تأثير مزدوج على المجتمع المحلي. فمن جهة، خففت من الضغط على الموارد الزراعية في القرى، إذ بدأت بعض الأراضي تُترك دون زراعة. لكن من جهة أخرى، كانت الهجرة تتسبب في تفكك الروابط الاجتماعية التي كانت سائدة في القرى، التي كانت تعتمد على التعاون بين الجيران والأقارب في الزراعة.

والمجتمع الذي كان يعتمد بشكل كبير على الزراعة والرعي وسيلة للعيش قد تأثر بشكل سلبي من الهجرة، إذ فقد عدداً من العادات والتقاليد الزراعية التي كانت تميز سكان الريف. وهذا التحول في بنية المجتمع أصبح يشكل تحديًا، وقد بدأ السكان يواجهون صعوبة في التكيف مع أنماط الحياة الحديثة.

التوصيات والتحليل المستقبلي
بالنظر إلى الوضع الحالي في محافظة ريمة والتحديات التي تواجه القطاع الزراعي، فإن هناك عدداً من الخيارات التي يمكن تبنيها لتحسين الوضع وتعزيز الاقتصاد المحلي، وهي كالآتي:

أولًا: يعد تحسين التقنيات الزراعية من الأولويات، إذ يجب أن يتوجه الدعم الحكومي والشركات الخاصة نحو تطوير تقنيات زراعية تسهم في توفير المياه، وتزيد من إنتاجية الأراضي. ومن خلال تطبيق أساليب الزراعة الموفرة للمياه، يمكن تحسين إنتاج المحاصيل وتخفيف الأعباء على المزارعين الذين يواجهون تحديات في الوصول إلى مصادر المياه.
ثانيًا: دعم الاستثمار في القطاع الزراعي. إذ يمكن أن يسهم توفير قروض ميسرة للمزارعين والمستثمرين في تحديث المعدات الزراعية وتوسيع المساحات المزروعة. وهذا النوع من الدعم يمكن أن يكون دافعًا إلى زيادة الإنتاجية، وتحقيق عوائد أفضل، ويشجع على دخول استثمارات جديدة تسهم في تعزيز الاقتصاد المحلي.

ثالثًا: التوسع في التعليم والتدريب الزراعي، بتوفير دورات تدريبية متخصصة للمزارعين حول أفضل الممارسات الزراعية، لتحسين الإنتاجية بشكل كبير. إذ إنه يسهم تعليم الفلاحين أساليب الزراعة الحديثة في زيادة كفاءتهم وتقليل الفاقد، ومن ثَمّ التالي تحسين العوائد المالية لهم.

رابعًا: تعزيز التعاون بين الحكومة ومنظمات المجتمع المدني من أجل رفع مستوى الوعي بأهمية الحفاظ على الأراضي الزراعية وتنميتها. ويمكن أن يتعاون الجانبان في تنفيذ حملات توعية، وبرامج دعم فني تستهدف المزارعين والمجتمعات المحلية، مما يسهم في حمايتهم من التدهور البيئي وزيادة الاستدامة الزراعية.

خامسًا: تنمية السياحة الزراعية بوصفها أداة لدعم الاقتصاد المحلي، من خلال استغلال الموارد الطبيعية في المناطق الريفية، إذ يمكن جذب السياح الذين يرغبون في تجربة الحياة الريفية والمشاركة في الأنشطة الزراعية. وهذا سيوفر مصدر دخل إضافي للسكان المحليين، ويسهم في تنشيط الاقتصاد المحلي بشكل غير تقليدي.

content

يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.