في طفولتنا، كانت هناك لعبة بسيطة تُلعب عبر الأوراق. نختار عشوائيًا أدوار الحاكم، والضحية، والجلاد، ونبدأ بتقمص الشخصيات. يصدر الحاكم أوامره، فتخضع الضحية، وينفذ الجلاد دون رحمة. كانت مجرد لعبة، لكنها تحمل في طياتها درسًا مرعبًا عن طبيعة السلطة والعنف.
في تلك اللعبة، كان من الممكن أن يتغير الدور في أي لحظة. الضحية قد يصبح جلادًا، والجلاد قد يصير حاكمًا. ربما لم نكن ندرك وقتها أننا نُعيد تمثيل دورة إنسانية أزلية، حيث تتحول السلطة إلى أداة قهر، والقهر إلى دافع للانتقام.
اليوم، ونحن نشهد دورة العنف في اليمن، يبدو وكأننا نعيش تلك اللعبة، لكن دون أوراق، ودون نهاية واضحة.
من الممكن أن يتحول الضحايا إلى سجانين أو معذبِين في ظروف معينة، وهو أمر تم توثيقه في علم النفس، وتكرر في التاريخ، والأدب. ويُعرف هذا التحول بـ "دورة العنف"، إذ يصبح الضحايا السابقون جزءًا من الأنظمة أو الأنماط نفسها التي قهرتهم.
تحول الضحايا إلى جلادين ليست قاعدة عامة، لكنه احتمال وارد ومخيف في ظروف معينة. يكشف هذا التحول عن التعقيد النفسي للإنسان، إذ يمكن للمعاناة أن تصنع التعاطف أو القسوة. وفي نهاية المطاف، يبقى هذا التحول درسًا قويًا حول ضرورة كسر دورة العنف، وإعادة بناء الهويات بطريقة تُشجع على التسامح والعدالة بدلًا من الانتقام والقمع.
سألت أحد الناجين يوما ما إن أعادته الأقدار إلى زنزانته حاملا في يده أدوات التعذيب نفسها، وسجانه السابق يركع أمامه ذليلا، هل سيعيد ما فعله تماما أم سيتجنب ذلك؟
فأجاب: ... بل أكثر.
كيف يشعر السجان؟
كيف يشعر هذا الشخص الذي يحتجز أرواح الآخرين في قبضته؟
هل يعيش في سلام مع نفسه؟
هل يبتكر لنفسه صندوقًا من الأعذار ويؤمن بها؟
سنحاول فيما يلي سبر أغوار علم النفس عن شعور الشخص الذي يتسبب بالأذى للآخرين.
السجّان بين السلطة والخوف
السجّان ليس مجرد منفذ للأوامر، إنه أيضًا إنسان له مشاعر وتصورات خاصة تجاه أفعاله، حتى لو بدا متجردًا من العاطفة. ففي علم النفس، يُنظر إلى السجان غالبًا على أنه عالق في معضلة أخلاقية معقدة، تتراوح بين الرغبة في ممارسة السلطة والخوف من العواقب.
التأثير النفسي للسلطة: يوضح علم النفس أن السلطة المطلقة قد تغيّر الإنسان وتدفعه إلى سلوكيات لم يكن يتخيلها من قبل. ففي تجربة ستانفورد الشهيرة، عندما مُنح المشاركون دور السجّان، تصاعدت تصرفاتهم العدوانية تجاه "السجناء"، حتى وإن كانوا يعلمون أن الأمر مجرد محاكاة. وهذا يدل على أن الشعور بالسيطرة يمكن أن يؤدي إلى فقدان التعاطف.
الخوف من العقاب أو الانتقام: قد يعيش السجّان في خوف دائم من ردة فعل ضحيته، سواء أثناء الأسر أم بعد إطلاق سراحها. هذا الخوف قد يدفعه إلى مزيد من العنف، محاولة لإثبات هيمنته أو لتأمين نفسه.
شعور التعذيب تجاه الآخرين
يترك التعذيب، بوصفه فعلاً يتجاوز حدود الإنسانية، أثرًا عميقًا، ليس فقط على الضحية بل أيضًا على الجلاد. ويوضح علم النفس أن الشخص الذي يقوم بالتعذيب قد يمر بتجارب نفسية متناقضة، وهي كالآتي:
• التجرد من الإنسانية: أحد أبرز الأساليب النفسية التي يستخدمها السجّان لتبرير أفعاله هو تجريد الضحية من إنسانيتها. فعندما يرى السجّان الضحية بكونها شيئا، وليس شخصاً، يصبح من الأسهل عليه ارتكاب الأفعال العنيفة.
• الصراع الأخلاقي: على الرغم من ذلك، قد يعاني السجان من صراع داخلي عميق. وفقًا لنظرية التنافر المعرفي، فإن الأفراد يشعرون بعدم ارتياح عندما تتعارض أفعالهم مع قيمهم الداخلية. وهذا قد يؤدي إلى إنكار الذات، أو إلى إعادة صياغة القيم لتبرير الأفعال.
• الإدمان على القوة: يجد بعض السجانين في التعذيب وسيلة لتعزيز شعورهم بالقوة والسيطرة. لكن هذا الشعور يبقى مؤقتاً، وقد يتركهم أكثر هشاشة على المدى الطويل.
دورة العنف في اليمن: تاريخ يتكرر بأقنعة جديدة
حين ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بقصص التعذيب العنيفة في السجون السورية تداول اليمنيون تساؤلات وقصص عما يحدث في السجون اليمنية.
أسئلة مليئة بالخوف والقلق من الأهالي، ومن ضحايا ناجين. فمنذ زمن طويل، واليمن يعيش بين فكي الظلم والصراع. والتاريخ يُعيد نفسه بأشكال مختلفة، إذ يتحول الضحايا إلى جلادين مع تغير الظروف، ويعيد الجلادون كتابة حكايتهم على أجساد من كانوا مثلهم بالأمس وعلى أرواحهم. هذا النمط التكراري ليس حكرًا على اليمن فقط، ولكنه جزء من ظاهرة إنسانية معقدة.
اليمن بين الماضي والحاضر
كانت اليمن وما زالت مسرحًا لتنازع القوى، داخليًا وخارجيًا. وقد شهدت العقود الأخيرة محطات مؤلمة من العنف والقمع. من الإمامة إلى الجمهورية، ومن الثورة إلى الحروب الأهلية، والسؤال الذي يتكرر دائمًا: لماذا تتحول الثورات إلى أدوات قمع جديدة؟ وكيف يتحول الضحية إلى جلاد يفرض الظلم نفسه الذي حاربه؟
تناول الأدب هذه الإشكالية في روايات عدة، وتكررت هذه اللعبة (جلاد – ضحية جلاد) في أكثر من عمل أدبي. ففي رواية 1984 لجورج أورويل، يُظهر لنا الكاتب كيف يمكن للقهر أن يزرع بذور الاستبداد في النفوس، حتى تصبح الثورة نفسها نظامًا قمعيًا جديدًا. هذا الواقع يشبه ما يحدث الآن في اليمن، إذ يحمل "أنصار الله" راية الضحية السابقة، في حين يمارسون دور الجلاد بكل أدواته.
علم النفس الاجتماعي يوضح أن القمع لا يختفي، بل يعيد تشكيل نفسه داخل الجماعات. فعندما يعيش الفرد تجربة الظلم لمدة طويلة، فإن الكراهية والخوف قد يتحولان إلى أدوات يستخدمها ضد الآخرين. هذا ما يسمى بـ "العدوى الثقافية للعنف"، إذ تنتقل أنماط القهر من جيل إلى جيل.
ضحايا اليمن (الجلادون الجدد)
في اليمن، يتزايد أعداد الضحايا الذين قد يحملون بذور الانتقام، الأمر الذي يُنذر بجولة أخرى من الصراع. فإذا لم تُكسر دورة العنف عبر العدالة الانتقالية والمصالحة الحقيقية، فإن الجلادين الجدد سيولدون من رحم الألم الحالي.
فعلى اليمنيين أن يتعلموا من التاريخ، فإبقاء الجراح مفتوحة لن يؤدي إلا إلى مزيد من النزيف. فلا يمكن للسلام أن يبدأ إلا عندما تُكسر دائرة القمع والانتقام، ويُعاد بناء المجتمع على أسس التسامح والعدالة.
يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.