تشهد اليمن أزمة اقتصادية حادة منذ اندلاع الصراع في عام 2014، مما أدى إلى تدهور كبير في الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للسكان، وانهيار العملة الوطنية، وارتفاع أسعار السلع الأساسية، وتراجع الخدمات العامة.
من بين الأزمات التي عصفت بالبلاد، يواجه الموظفون الحكوميون انقطاعًا مستمرًا في رواتبهم منذ نقل البنك المركزي من صنعاء إلى عدن في سبتمبر/أيلول 2016، مما هدد استقرار حياتهم اليومية وزاد من تدهور أوضاعهم المعيشية.
خلفية الأزمة
تعود أزمة انقطاع الرواتب في اليمن إلى مجموعة من الأسباب المعقدة والمتداخلة التي تشمل العوامل السياسية والاقتصادية والأمنية. ويُعتبر قرار الحكومة المعترف بها دوليًا بنقل البنك المركزي إلى عدن أحد أهم أسباب الأزمة، إذ أدى بدوره إلى انقسام المؤسسات المالية والنقدية بين طرفي الصراع (الحكومة المعترف بها دوليًا وجماعة أنصار الله "الحوثيين")، مما أثر بشكل مباشر على إدارة المال العام والإيرادات، وبالتالي العجز عن دفع الرواتب.
كما أن الحرب المستمرة أدَّت إلى تدمير البنية التحتية الاقتصادية في اليمن، بما في ذلك القطاعات الرئيسية مثل النفط والغاز التي كانت تشكل مصادر أساسية لإيرادات الدولة، مما أدى إلى تقليص الإيرادات العامة وعدم القدرة على تأمين الرواتب بشكل منتظم.
وقد واجهت الحكومة صعوبة نتيجة لتدهور الاحتياطات النقدية من العملة الأجنبية فعجزت عن تغطية النفقات العامة، بما في ذلك الرواتب. كما أن الانهيار الكبير للريال اليمني مقابل العملات الأجنبية بسبب عدم الاستقرار أدى إلى زيادة تكلفة السلع والخدمات، مما أثر على قدرة الحكومة على دفع الرواتب.
بالإضافة إلى ذلك، فإن سوء إدارة الأطراف المتنازعة للموارد العامة وعدم تخصيصها لدفع الرواتب كان سببًا رئيسيًا في أزمة انقطاع الرواتب. ففي مناطق سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين)، تُستخدم الإيرادات الضريبية والجمارك لأغراض أخرى غير دفع الرواتب، بينما تعاني الحكومة المعترف بها دوليًا من فقدان السيطرة على بعض المناطق الغنية بالموارد.
الأثر على الحياة اليومية
يمتد تأثير انقطاع الرواتب في اليمن ليشمل جميع جوانب الحياة المعيشية للموظفين وأسرهم، باعتبار الراتب المصدر الرئيسي للدخل لملايين اليمنيين. هذا يزيد من حدة الأوضاع الإنسانية الصعبة في البلاد، حيث تفقد الأسر قدرتها على تلبية احتياجاتها الأساسية مثل الغذاء والماء والكهرباء، وتضطر العديد من العائلات إلى تقليص استهلاكها أو الاعتماد على المساعدات من الأقارب والجيران.
كما أدى انقطاع الرواتب إلى ارتفاع نسبة الفقر بشكل كبير، وازدياد نسبة الأسر التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي، وعجز الموظفين عن شراء الأدوية أو دفع تكاليف العلاج، مما أدى إلى تدهور الحالة الصحية للعديد من الأسر، خاصة مع انتشار الأمراض المعدية وسوء التغذية. كما توقفت بعض المستشفيات العامة عن تقديم خدماتها بسبب عدم دفع رواتب العاملين.
وأدى كذلك إلى زيادة الضغوط النفسية على الموظفين وعائلاتهم، نتيجة القلق المستمر بشأن توفير المتطلبات الأساسية، مما أدى إلى ارتفاع معدلات الاكتئاب والضغوط النفسية، وهو ما يؤثر على الصحة النفسية والعلاقات الأسرية.
كما أثَّر انقطاع الرواتب بشكل كبير على قدرة الأسر على دفع تكاليف التعليم لأطفالهم، مما أدَّى إلى زيادة عدد الأطفال الذين انقطعوا عن الدراسة، وتأثير ذلك على مستقبل جيل كامل.
جهود الحلول والوساطة
عملت الأمم المتحدة والبنك الدولي وبعض الدول المانحة على تقديم مساعدات مالية وإنسانية للحكومة اليمنية بهدف دعم الميزانية العامة، لكن تم توجيه هذا الدعم لأغراض إنسانية ولم يُستخدم لدفع الرواتب. كما بُذلت جهود دبلوماسية دولية للضغط على الأطراف اليمنية لإعادة توحيد المؤسسات المالية لتسهيل صرف الرواتب، إلا أن عدم الثقة بين الأطراف ووجود خلافات سياسية كبيرة أعاق تنفيذ هذه المبادرات.
حاولت بعض الأطراف الدولية، بالتعاون مع الحكومة اليمنية، تعزيز قدرات اليمن على تصدير النفط والغاز كوسيلة لزيادة الإيرادات المالية اللازمة لصرف الرواتب، لكن هذه الجهود ما زالت تواجه صعوبات بسبب النزاع المستمر. كما تم اقتراح مبادرات لإدارة الموانئ ومطار الحديدة من قبل الأمم المتحدة بهدف استخدام الإيرادات لدفع الرواتب، لكن التوترات المستمرة وعدم الثقة أفشلا هذه المبادرات.
آراء المتضررين
"تزداد المعاناة يومًا بعد يوم منذ 2016 إلى الآن، بعت كل ما أملك من مجوهرات، وبعض الأثاث مثل أنابيب الغاز، واكتفينا بأسطوانة غاز واحدة فقط"، هكذا عبرت أستاذة في إحدى مدارس أمانة العاصمة. وأخرى قالت: "جعلني انقطاع الرواتب أعمل في أعمال أخرى، كبيع البخور والعطور، ومع ذلك ما زالت الظروف صعبة، وننتظر عودة الرواتب بفارغ الصبر".
فيما تحدث موظف حكومي آخر عن الأزمة قائلاً: "منذ انقطاع الرواتب، اضطررت لبيع مدخرات عديدة، وبعدها لم أستطع العيش في المدينة لأني لا أملك إيجار المنزل، وانتقلت بعدها للريف، واجهنا صعوبات عدة وما زلنا". وقال آخر: "الراتب هو أساس كل شيء، لا أستطيع شراء أي شيء بدون راتب، ولا القيام بمهامي تجاه أسرتي، الأمر الذي زاد من المشاكل بيني وبين عائلتي".
وعود متكررة
قدمت الحكومة اليمنية وعودًا عديدة بإعادة صرف الرواتب، كما قدمت الأمم المتحدة والدول المانحة وعودًا بدعم مالي أو مساعدات موجهة لتحسين الوضع المالي. وتضمنت محادثات السلام والاتفاقيات بين الأطراف المتنازعة في اليمن بنودًا تتعلق بصرف الرواتب، لكن كل هذه الوعود لم تُنفذ، وأصبح الراتب بالنسبة للموظف الحكومي في اليمن مجرد أمل بعيد المنال، وحلم صعب التحقيق.
إن الوعود المتكررة بإطلاق الرواتب تسببت في ضغط نفسي على العديد من الموظفين الحكوميين، حيث عبّر أحد الموظفين عن ذلك بقوله: "الحديث عن إعادة الرواتب، وعدم التنفيذ، أشد وطأة من انقطاع الراتب في الأساس. خيبة الأمل التي ترافق الوعود المتكررة تسببت لي بضغوطات نفسية كبيرة".
الحلول الممكنة
من المؤكد أن إعادة فتح قنوات التواصل بين الأطراف المتنازعة للتوصل إلى حلول لصرف الرواتب أمر يتطلب العمل عليه بشكل جاد، للوصول إلى حلول مشتركة تنقذ آلاف الأسر من خطر الجوع والتشرد والضغوط النفسية.
كما يدعو الموظفون الحكوميون إلى تدخل المجتمع الدولي بشكل فعال لضمان إعادة صرف الرواتب، ويناشدون الأطراف المتنازعة لوضع الخلافات السياسية جانبًا لحل هذه الأزمة.
يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.