ينتظر غالبية اليمنيين سلامًا ناجزًا ونهائيًا بآفاق مستدامة، لكن القليل من سكان هذا البلد العريق يتأملون بهدوء في البواعث والعوامل الطبيعية التي جعلت اليمن بلدًا متجدد النزاعات.
الحرب والسلام في اليمن ليست فكرة طارئة دخلت بشكل اعتراضي على خط وتأريخ بلدٍ حافل بالاستقرار، بل ارتبطت هذه الثنائية بتاريخ اليمن ورافقته عبر العصور. الحصيلة الأولية لمحطات النزاع في اليمن ستقودنا إلى نتيجة مهولة؛ حيث لا يكاد هذا البلد يخرج من نزاع إلا ليدخل بعد استراحة بسيطة في نزاع جديد.
يتشابه اليمنيون في ملامحهم وسماتهم الشخصية ويتشاركون العذابات نفسها، لكن تضاريس الأرض التي يعيشون فوقها ليست متماثلة؛ فلا الجبال واحدة ولا الصحاري والسهول واحدة، غير أن أمورًا حتمية تنمو وتتشكل رغم كل مشاهد البؤس.
تتركز الكثافة السكانية في معظمها في رؤوس الجبال أو على ضفاف الأودية والسهول، كما هو الحال في حضرموت شرقًا أو في تهامة غربًا، مع تزايد النزوح بشكل كبير من الجبال نحو الحواضر الجديدة ومدن السهول حديثة النمو والتوسع.
الجبال اليمنية في تاريخها الزراعي والإنتاجي محدودة المحاصيل، وتختلف البيئات الجبلية من جبل لآخر. فهناك الهضاب ذات القيعان الفسيحة مثل: قاع السحول، قاع جهران، قاع صنعاء، قاع البون في عمران، وقاع صعدة. هذه القيعان خصبة للزراعة ولم تشهد تاريخيًا حالات نزوح وانتقالات بحثًا عن العيش والأرزاق، لكنها اليوم تشهد حالة عمرانية مهولة رغم الحرب ضمن سياق التطور الطبيعي لحركة العصر واستحقاقاته.
تنحسر الحقول الزراعية داخل تلك الأحواض لصالح المدن؛ فعمران مثلًا من أكثر المدن تمددًا داخل هذا القاع الذي يطوقها كالقوس من جهاتها الثلاث: الشرق، الشمال، والجنوب. ومثلها مدينة صعدة التي ظلت حبيسة جدران الطين إلى قبل سنوات، لكنها تتسع اليوم بعشرات الكيلومترات. وليست ذمار أو معبر أو إب أو يريم أو رداع أو ضوران متباعدة مكانيًا، حيث تزحف المدن باطراد مع موجات نزوح يومية من الأرياف إلى المدن.
ما هو خارج هذه الأحواض الزراعية قديمًا، الحضرية حاليًا، هو جبال متفاوتة الانحدارات، يعتمد فيها الناس على المدن أو الهجرة الخارجية (المغتربين) لتغطية نفقات الحياة اليومية، حيث لم تعد الزراعة البدائية كافية لتدبير شؤون ومتطلبات الأسرة.
تشير هذه المتغيرات في البيئات الجبلية إلى عدة أمور من شأنها أن تساهم بشكل كبير في رسوخ دعائم السلام، لكن سيبقى كل هذا التطور الاجتماعي والديموغرافي والعمراني رهن دولة ضامنة لكل هذا الاندماج المهول بين المدينة والأرياف.
لم تنشأ في تهامة (غرب اليمن) مدن كبيرة ضمن حالة وعي حضرية وعمرانية رغم وجودها بالقرب من شواطئ البحر. ربما مدينة واحدة من مدن البحر الأحمر اليمني هي التي حاولت أن تصمد وتتسع ضمن حالة عمرانية حديثة ومتطورة منذ أواخر القرن التاسع، لكنها لم تتنفس بشكل أفضل وتنمو في عقود الجمهورية.
ورغم أن مدنًا أخرى أقدم من الحديدة عمرًا على الساحل الغربي مثل: المخا، اللحية، الخوخة، وميدي، إلا أنها لم تتطور وتتسع بفعل عوامل عديدة، في مقدمتها الحروب التي عصفت بها على عقود (ولاسيما النصف الأخير من القرن التاسع عشر والعقود الثلاثة الأولى من القرن الفائت).
لقد ضربت الحروب والنزاعات التي شهدتها الجهات الغربية من اليمن حالة النمو والازدهار التي عاشتها مدن وأسواق السهل التهامي خلال قرن ونصف بفضل فورة تجارة البن (القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر). وتعرضت مدن تهامة مثل: باجل، زبيد، بيت الفقيه، اللحية، الزهرة، الزيدية، الجراحي، المنصورية، المخا، القطيع، الضحي، حرض، وميدي لدمار مهول أدى إلى نزوح السكان نحو الأرياف وهجرة رؤوس الأموال إلى خارج البلاد.
تشهد هذه المدن والتجمعات الحضرية في العقدين الأخيرين حالة اتساع كبيرة رغم الحرب، حيث الهجرة الكثيفة من الأرياف الجبلية إلى السهول متواصلة، كما أن تهامة ببيئتها المسالمة وامتدادها الرحب وقربها من الأودية والميناء تمثل اليوم مقصدًا لكثير من رؤوس الأموال القادمين من الجبال أو من بلاد المهجر للاستثمار في مجال العقار والزراعة وتشييد المصانع. غير أن الحرب الحالية كادت أن تودي بكل هذه الظواهر الجديدة المرتبطة بحركة التجارة والعمل. الوضع نفسه في الشرق يقترب من الحالة القائمة في تهامة (غرب اليمن). تشهد مدينة كعتق حالة اتساع مهولة في مجال العمران وكثافة الهجرة المحلية إليها ضمن توافد ينحدر من معظم مناطق اليمن. وشهدت عتق، وهي عاصمة محافظة شبوة النفطية، هذا الاتساع والتمدد العمراني منذ فترة ما بعد الوحدة بفعل أمور كثيرة، أهمها: النفط والغاز، وعودة كثير من رؤوس الأموال المقيمة في دول الخليج العربي من أبناء شبوة وبيحان للاستثمار داخل بيئاتهم التي نزحوا منها في حقبة ما قبل الوحدة.
وإذا كانت المكلا قد توسعت عمرانيًا وسكانيًا كمدينة وميناء مهم على بحر العرب، فإن مدن الوادي الحضرمي تسابق الزمن نفسه في مشاهد لافتة: سيئون، تريم، القطن، العبر، دوعن، وغيرها. هذه الظواهر هي ذاتها في المهرة (أقصى الشرق) بمختلف مدنها ومنافذها البرية والساحلية ضمن السياق نفسه الذي ينسحب على مأرب مع اختلاف العوامل والظروف.
هذه المعطيات الجديدة يمكن أن تشير إلى عدة أمور باتجاه المستقبل؛ أولها الحاجة الشديدة للسلام ضمن توفر الاعتراف الكامل بدولة شاملة الوظائف. كما أن حالة التشكل الحضري في سياق عجلة سريعة التطور يرتب أعباء ضخمة على أي حكومات مستقبلية، من أولوياتها رسم استراتيجيات مواكبة لكل هذه الظواهر الجديدة، تنظم وتخطط وترسم سياقات قانونية لعمليات العمران والبيئة، يكون في أولوياتها التخطيط لمدن آمنة بعيدة عن مجاري السيول ومستعدة لتحديات التغيرات المناخية التي تشكل إحدى أكبر وأخطر المعضلات.
لقد أدت حركة وسباق العمران والبناء في معظم المدن اليمنية مؤخرًا إلى كوارث وخسائر ضخمة في الأرواح والممتلكات والثروة الزراعية والحيوانية بفعل عشوائية البناء وغياب التخطيط المنهجي والاستراتيجي السليم لتوسع المدن في نطاق آمن، حيث غرقت أحياء جديدة في مناطق: الكدن، الضحي، المراوعة، بيت الفقيه، زبيد، الزيدية، وغيرها. وتسببت هذه الاستحداثات في تحولات في طرق السيول واتجاهاتها، الأمر الذي كاد أن يغرق وديان رئيسية كبيرة مثل: سهام وسردد، ومدنًا كبيرة كالحديدة ووادي زبيد ومدينته التاريخية.
يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.