الملخص
يبحث هذا المقال في مدى اعتبار آلة العود اليمنية، رمزًا للهوية الموسيقية الوطنية، والطريقة التي تُمثل بها هذه الآلة التي اختفت تقريبًا من المشهد الموسيقي. ويقدم الجزء الأول نبذة تاريخية عن هذه الآلة، ويبين أن أصل القنبوس والغناء الصنعاني ما زال محل جدل حاد بين اليمنيين. أما الجزء الثاني، فيتناول استعمال هذه الآلة، وكيفية تصورها من قبل الفاعلين في المشهد الموسيقي اليمني المعاصر. ونشرح فيه، من خلال مقابلات مع موسيقيين شباب، أن المشكلة تبدو أقل ارتباطًا بالأذواق الموسيقية وأكثر ارتباطًا بالأسباب التاريخية والاجتماعية. ويبين الجزء الأخير الدور الرمزي للآلة في الخيال الجمعي بوصفها علامة مميزة للهوية.
المقدمة
يواجه "الغناء الصنعاني" والعود المحلي القنبوس (شكل 1) الذي عادةً ما يرافق هذا النوع الراقي من الموسيقى اليمنية خطر التهميش، بل وحتى الاندثار التام، مثلما هو الحال بالنسبة لعدد من أنواع التراث الموسيقي في جميع أنحاء العالم،
ومن المناسب الترحيب بحقيقة أن اليونسكو قد أعلنت مؤخراً وبفضل جهود العالم الفرنسي في علم موسيقى الشعوب جان لامبير، أن الغناء الصنعاني "تحفة من التراث الشفهي واللامادي للبشرية". وفي أعقاب هذا القرار في عام 2003م، تم إطلاق مشروع اليونسكو للحفاظ على هذا النوع الموسيقي واستمراريته، وهو مشروع تموله اليابان.
وعلى الرغم من ذلك، لا بد من الاعتراف بأن عدد العازفين – الممثلين الحقيقيين للذاكرة الحية لهذا التقليد الموسيقي - أصبح اليوم محدودًا جدا. إذ بلغ معظمهم سن الشيخوخة. فضلا عن ذلك، فإن معارفهم - التي لم يتم تدوينها كتابيًا – لا تشكل اهتمامًا ملحوظًا لدى جيل الشباب من الموسيقيين اليمنيين، وبالتالي نادرًا ما يتم تناقلها.
إلا أن التواصل مع هؤلاء العازفين المتمرسين يكتسي قيمة أساسية في نظر أي باحث مهتم بالتراث الموسيقي اليمني بشكل مباشر أو غير مباشر. وبصفتهم المصادر الرئيسية لمعلوماتي البحثية، سيتم الاستشهاد بانتظام بشهادات حسن العجمي ويحيى النونو، لا سيما فيما يتعلق بجذور آلة عود القنبوس وهويتها، لموضوع هذا المقال الذي أردت إفراده بالدراسة نظرًا إلى الادعاءات المتناقضة المتعلقة بأصل هذه الآلة، وجوانب الهوية فيها. وستتمثل مقاربتي هنا في تحديد إلى أي مدى لا يزال القنبوس يشكل علامة بارزة لهوية الموسيقى الصنعانية واليمنية بشكل صحيح، حتى لو كانت وهمية إلى حد كبير، أو على العكس من ذلك، أنه لم يعد يمثل في نظر غالبية اليمنيين أكثر من بقايا حقبة ماضية لم يكن اختفاؤها سوى نتيجة لتطور تاريخي لا مفر منه.
وفيما يتعلق بمنهجية البحث، أود أيضًا توضيح أن معظم بياناتي تم جمعها خلال مقابلات غير رسمية مع موسيقيين أو يمنيين على علاقة وثيقة بعالم الموسيقى. ونظرًا إلى منصبي الحالي ضمن مشروع اليونسكو لحفظ الغناء الصنعاني، وكذلك الروابط الوثيقة للصداقة التي ربطتني بمعظم المصادر، فليس من المستغرب أن أضفي على مقالي طابعاً شخصياً. كما أن اللجوء، قدر الإمكان، إلى الشهادات المباشرة هو ما يفسر اختياري لقائمة مراجع محدودة نسبيًا.
عود القنبوس والغناء الصنعاني
في اليمن، يعد القنبوس جزءًا لا يتجزأ من أنواع الموسيقي الرفيعة، إذ ارتبط بشكل وثيق بالعاصمة، وهذا هو سبب تسميته بـ "الغناء الصنعاني". إلا أن هذا المصطلح لا يلقى إجماعًا. فهناك بعض منتقديه الذين يفضلون تسميته بـ "الموشح اليمني"، نسبةً إلى نوع الشعر المغنى فيه. وهم يزعمون أن عدد من الموسيقيين مارسوا هذا التراث الموسيقي دون أن يكونوا من أصل صنعاء أو قد عاشوا فيها. وفضلا عن ذلك، قد تكون الأصول القديمة لهذا اللون الموسيقي موجودة في مناطق أخرى من اليمن، وهي مسألة أثارت جدلاً واسعا بين مثقفي البلاد، وسوف يتم التعريج على هذا، ومع ذلك أيًا كان المصطلح الذي يطلق عليه هذا النوع، إلا أنه يبدو مرتبط بشكل جوهري ومنذ ما لا يقل عن ثلاثة قرون ونصف بالمناطق الوسطى والشمالية من البلاد، ولاسيما المدن. لذلك يمكن الحديث عن تقليد موسيقي علمي وحضاري. علما أن التراث الشعري المؤدَّى في الغناء هو أيضًا يمني محلي، ويُرجّح أنه إرث من الموشح الأندلسي الذي وصل إلى اليمن عبر مصر خلال حكم سلاطين الرسوليين (القرنان الثالث عشر والخامس عشر الميلادي)، الذين كانت مدينتا تعز وزبيد عاصمتيهم الرئيستين . ولم يصبح هذا الشعر حقًا صنعانيًا إلا في القرن السابع عشر الميلادي، عندما استعادت صنعاء مكانتها بوصفها عاصمة تحت حكم أسرة القاسميين الزيديين. ومع ذلك، من الصعب تقييم قدم الغناء الصنعاني بوصفه لون موسيقي، لأن ظهور هذا اللون الشعري لا يعني بالضرورة الظهور المتزامن للموسيقى التي لا تزال ترافقه حتى اليوم.
عود القنبوس طرب أم طُربي؟ مسألة مصطلحات
إذا كان استعمال مصطلح "قنبوس" غير مقبول على نطاق واسع في صنعاء، فهناك على العكس إجماع عام ينسب هذه التسمية إلى المناطق الجنوبية، ولاسيما عدن، ولحج، والمنطقة الشرقية، وحضرموت. ومن خلال مقابلاتي تحققتُ أن اليمنيين من الجنوب يعرفون هذه الآلة باسم "قنبوس" فقط، في حين يفضل بعض سكان صنعاء والمناطق الوسطى والشمالية مصطلحات أخرى نحو (طرب صنعاني، طُربي، عود صنعاني ...). كما يُعرف "القنبوس" في الحجاز باسم "قبوس"، وفي عُمان باسم "قبّوس". ومن المرجح أن المصطلح ذو أصل تركي، وسأعود إلى هذا بالتفصيل لاحقًا.
شكل 1. طُربي يمني قديم، صانع مجهول.
تصوير سمير مقراني، 2006
أما كلمة "طَرَب" فهي في اللغة العربية تشير إلى النشوة الموسيقية، أي الانغماس في حالة من الانفعال الناتج عن الاستماع إلى الموسيقى؛ وهي ذات دلالات إيجابية أو سلبية، ويعتمد ذلك عمومًا على رأي الشخص الذي تتم مقابلته. وعلى حد علمي، فإن المصادر العربية لا تستعملها عادةً للإشارة إلى آلة موسيقية؛ وفي صنعاء، يُشير مصطلح "طرب" بشكل أكثر تحديداً إلى الآلة الموسيقية التي تُحدث هذه "النشوة الموسيقية"، وهي العود اليمني الصغير، وتحديدا (القنبوس). وقد أُتيحت لي الفرصة للتحدث في هذا الشأن مع أحد أكثر عازفي هذه الآلة موهبةً، الذي أعده أيضاً أستاذي ودليلي الرئيس في تعلم التقاليد الموسيقية الصنعانية المتطلبة، حسن عوني العجمي. بصفته وارثاً لإرث موسيقي عائلي قديم، عن طريق جده وأبيه، فضلا عن أنه تتلمذ على يد اثنين من المعلمين البارزين في الستينيات، فهو بلا شك أحد آخر ممثلي الغناء الصنعاني التقليدي "الأصيل"، وفقاً لرأي الخبراء اليمنيين والأجانب على حد سواء. وهو يمتلك قنبوساً قديماً جداً، ورثه عن جده، الذي يدعي أنه يرجع إلى سعد عبد الله، الموسيقار الصنعاني البارز في القرن التاسع عشر، والمعروف جيداً بين المختصين، الذي يُعد حلقة أساسية في سلسلة نقل الغناء الصنعاني التقليدي.
ويرفض حسن العجمي استعمال مصطلح "قنبوس"، مدّعياً أنه "كلمة ذات أصل هندي، تُستعمل لوصف آلة موسيقية هندية تشبه في شكلها (العود الصنعاني) ولكن لها 15 وتراً" . لقد سمعته مراراً يُسميها "العود الصغير"، بالمقارنة مع "العود الكبير"، العود الشرقي الذي ظهر في اليمن في بداية القرن الماضي عبر عدن (يُطلق عليه أيضاً الكبنج، وإن كان أقل تواترًا مما كان عليه في الماضي، وهو مصطلح يبدو ساخرًا بعض الشيء، ويُذكّر بالكمنجة، وهي آلة موسيقية وترية شائعة في المناطق العربية والإيرانية-التركية، ومنها جاءت تسمية الكمان الغربي).
وفضلا عن ذلك رفض حسن أيضاً مصطلح "طُربي"، إذ رأى أنه مبسطً للغاية. في الواقع، إذ هو تصغير لكلمة "طَرَب". وهو يؤكد أن السابقين، على غرار والده عوني العجمي أو صديقه الموسيقي الشهير أحمد السنيدار، كانوا يستعملون فقط مصطلحي "طَرَب" و"العود الصنعاني". ومع ذلك، فإن بعض المتخصصين الآخرين في المجال الموسيقي والمحافظين على التقليد "الكلاسيكي" للغناء الصنعاني، الذين كان لي شرف مصاحبتهم، لا يترددون في استعمال هذا الوصف. وهذا هو حال الموسيقي يحيى النونو - الذي على العكس يبدو متعلقاً بهذه الكلمة التي ترمز إلى عصر مضى ومأسوف عليه - وكذلك صديقي صانع العود فؤاد القعطري.
وبحسب الرأي المتفق عليه عموماً، يؤكد حسن العجمي أن هذا المصطلح (قنبوس أو طرب صنعاني) كان يُستعمل لتسمية العود الصنعاني في المدة التي حظر فيها الإمام يحيى حميد الدين الموسيقى (1904-1948)، وذلك للسماح للموسيقيين بالإشارة إلى الطرب دون أن يفهم ممثلو السلطة أنه يتعلق بآلة موسيقية. ويضيف حسن أن الموسيقيين كانوا يستعملون أيضاً مصطلحات سرّية أخرى مثل "ملعقة" و"كتاب" و"بلبل". وبحسب وصفه، لم يكن لهذا المصطلح سوى معنى في سياق محدد، وفي مدة محدودة.
أصول عود القنبوس
في صنعاء، يثير أصل القنبوس، على اختلاف التسميات التي قد يطلق عليه، عدداً من الفرضيات غير المؤكدة، التي تستند إلى عالم الأساطير والخرافات في بعض الأحيان. ووفقًا لغالبية المصادر الصنعانية التي قابلتها، فإن القنبوس له تاريخ أقدم بكثير من إسلام اليمن، وقد كان مستعملاً بالفعل خلال المدة الحميرية أو حتى السبئية. ويؤكد حسن العجمي أنه لاحظ شكل هذه الآلة على نقوش حجرية تصور موسيقيين من تلك الحقبة البعيدة. وقد تم نشر تلك النقوش في صحيفة الثورة اليمنية في ديسمبر 2005 م، أثناء إقامتي في صنعاء لعمل أبحاثي عن الموسيقى. وعلى الرغم من أنني ناقشت هذه المسألة مع حسن بوضوح، أعترف أنني لم أكن مقتنعًا بوجود القنبوس على تلك النقوش عند مشاهدة الصور المنشورة في الصحيفة. ومن الأرجح أنها آلة وترية من نوع العود، كما هو الحال في بعض النقوش المسمارية القديمة أو المعاصرة من بلاد النهرين. فضلا عن أنه لا يوجد أي نص باللغة السبئية أو الحميرية يؤكد وجود القنبوس بوصفه آلة موسيقية. إذ إن أول نص باللغة العربية يمكن عده دليلاً ملموسًا على وجود العود الصغير الذي يرجع إلى القرن الثاني عشر، وأشار إلى آلة تسمى المزهر، وهي تعد "نوع من الطنبور" و"مصنوعة من قبل أهل اليمن" (Farmer 2002 : 829) .
أما النص الثاني الأكثر حداثة (القرن الثالث عشر) فهو مأخوذ من مجموعة من المخطوطات من العصر الرسولي، وقد قام المؤرخ اليمني محمد جازم بشرحه ونشره وبترجمته، وهو: "إن كان بطن العود مدهونًا، الغراء رطلين. رق اخضر نصف طاق..." (جازم 2003: 38-39). في حين أنه من المغري أن نرى تلميحاً مباشراً إلى العود، إلا أن النص العربي يستعمل كلمة "عود" للدلالة على هذه الآلة الوترية. فما هو المعنى الدقيق لهذا المصطلح إذن؟ ألا ينبغي عده مصطلحًا عامًا للآلات المنتمية إلى عائلة العود، بما في ذلك القنبوس؟ في هذه الحالة، سنتفق مع رأي عدد من المؤرخين العرب الذين يصفون الآلات الموسيقية المختلفة بالعود. ووفقًا لما ذكره فارمر، فإن وجود آلة شبيهة بالقنبوس لدى العرب منذ القدم يبدو محتملا، إذ يقول إن "العرب في العصر الجاهلي كان لديهم بعض أشكال العود، تُسمى المزهر والقِران والمِعْزَف. وتبدو أنها كانت متماثلة مع آلة البربات (barbat) الوترية الفارسية، ولكن مع صناديق جلدية ".
وفي موضع آخر من المقال نفسه كتب المؤرخ الإسكتلندي: "يُذكر أن العود كان معروفًا في بلاد فارس في عهد الساسانيين تحت حكم شابور الأول، الذي يُعتقد أنه اخترعه. ومع ذلك، من الأرجح أن هذه الآلة كانت البربات ، وأن التلميح هو بالأحرى إشارة إلى تحسينات ربما تكون استبدال جسم خشبي بآخر مصنوع من الجلد "(Farmer 1967 : 43) . هذه الآراء تتوافق مع ما ذكره محمود قطاط، الذي تحدث عن الكران قائلاً: "...وفقًا لبعض المصادر، تأتي التسمية من حقيقة أن هذه الآلة تُوضع على الصدر أثناء العزف؛ وصندوق الكران أيضًا قطعة من خشب منحوت ولكنه مُغطى بجلد ويمتد منه مقبض. والصندوق والمقبض صُنعا من قطعة واحدة. وكان له، وفقًا لمحمد الحبيب، ثلاث أو أربع أوتار. وكان معروفًا لدى العرب قبل القرن الخامس، واشتق منه مصطلح " الكرينة" (المغني الذي يعزف على الكران). ويُذكر غالبًا في أشعار العصر الجاهلي، لاسيما في أشعار لبيد وامرؤ القيس الذين وصفا الكران وصفاته في مصاحبة الأغاني". (Guettat 2000 : 41) .
وثمة أدلة تشير إلى أن أول ذكر لآلة القنبوس يعود إلى القرن السابع عشر الميلادي، وفي ذلك الوقت كانت صنعاء قد استعادت مكانتها عاصمة لليمن. و"تشير الروايات الشفوية إلى أن الشاعر يحيى عمر (المولود حوالي 1655 م)، من منطقة يافع الذي أقام مدة طويلة في الهند، كان عازف قنبوس (Lambert 2001 : 9)" .
وتجدر الإشارة إلى أنه في ذلك الوقت كانت الآلة معروفة ومنتشرة أيضًا بالمسمى نفسه في عدة مناطق من شبه الجزيرة العربية، مثل القبوس في الحجاز والقبّوس في عمان. ومن المعلوم أن أتراك آسيا الوسطى لديهم آلة يسمونها القُبُز أو القوبوز منذ زمن طويل جداً، وأتراك الأناضول يعدونها سلفاً لعائلة آلات الباغلاما (bağlama ) أو السَّاز (saz). كما أن القوبوز، وهنا تتمثل خصوصيته، جسم منحوت من قطعة واحدة من الخشب، ولوح الصوت الخاص به مثل القنبوس، مصنوع من الجلد وليس من الخشب. وفضلا عن ذلك، فإن شكل بعض هذه الآلات التركية يشبه إلى حد كبير شكل العود اليمني الذي يحمل الاسم نفسه، وجسمه يتخذ شكل الكمثرى. وبالنظر إلى العود اليمني، فإن عنق القوبوز لا يحتوي على أي ملمس . وأخيراً، يبدو أن أنواعاً معينة من القوبوز كانت تسمح للموسيقي بالعزف أثناء ركوب الخيل، نظراً إلى لتقاليد الملحمية العظيمة والمكانة المهيمنة التي كان يحتلها الحصان بين الشعوب التركية المغولية. فضلا عن أن شكل القنبوس، على عكس شكل العود، يسمح للعازف بالعزف عليه واقفًا أثناء الرقص، مع وضع الصرفة - النتوء الخشبي الصغير في أسفل جسم القبوس - على ثنية الكوع.
ومن المرجح أن يكون الأتراك العثمانيون أثناء احتلالهم الأول لليمن (من 1547 إلى 1629 عندما كانت صنعاء عاصمة اليمن العثماني)، قد لاحظوا التشابه الملحوظ بين القوبوز التركي والعود اليمني القديم، فأطلقوا على هذا الأخير التسمية نفسها (القوبوز)، التي تحورت إلى القنبوس باللغة العربية. ومع ذلك، يبقى من المحتمل أن الآلة التركية كان لها تأثير مباشر على تطور شكل القنبوس اليمني.
ومهما كانت نتيجة الجدل حول أصل الآلة، يبدو لي أنه في ضوء هذه العناصر التاريخية القليلة، ليس من قبيل المبالغة، بل التأكيد على أن وجود العود اليمني الصغير، بشكل مشابه تماما لما هو عليه اليوم، ويعود تاريخه إلى قرون عدة، بل إلى ألفية أو ألفيتين. وبالتالي، ليس من المستغرب ملاحظة مدى التزام اليمنيين الذين يحتفظون بعلاقتهم المباشرة إلى حد ما بهذه الآلة الموسيقية، والدفاع عن أصلها اليمني مهما كان الثمن. ويذهب كبار الموسيقيين، وجميعهم من سكان العاصمة، مثل حسن العجمي أو يحيى النونو، إلى حد الإصرار على الأصل الصنعاني تحديدًا للآلة بقدر ما يصرون على أصل مدونة الأغاني التي تُرافقها.
وعلى الرغم من هذه الادعاءات " لوسط صنعاء" المبدئية، لا يمكن إنكار أن هذه الآلة كانت معروفة ومستعملة في معظم مناطق اليمن (الهضبة الشمالية، الوسط، يافع، عدن، حضرموت...) وشبه الجزيرة العربية (عمان، الحجاز)، لكن استعمالها تلاشى تدريجياً في تلك المناطق. إلا أنها في اليمن ولاسيما صنعاء لم تُستَبدَل هذه الآلة بالعود إلا مؤخراً جداً، أي ابتداءً من ستينيات القرن الماضي، حيث كان العود حينها شبه مجهول، أو على الأقل غير مستعمل على نطاق واسع . أما فيما يتعلق بجنوب البلاد، فقد بدأ العود الشرقي الكبير يهيمن على الساحة الموسيقية ابتداءً من عشرينيات أو ثلاثينيات القرن الماضي، في ظل تأثير مصري كبير وعراقي إلى حد ما، ربما بسبب موقع مدينة عدن والمناطق الساحلية الجنوبية المفتوحة على الخارج. ومن المُرجَّح أنه استُعمل هناك في وقت أبكر، وإن كان ذلك في نطاق محدود. ومن المثير للاهتمام أن كبار الأساتذة "القدماء" الذين يستشهد بهم الأساتذة الحاليون، كانوا قد لجأوا تقريباً إلى عدن خلال حكم الإمام يحيى حميد الدين (1904-1948). إذ إن هذا الأخير قد حظر الموسيقى في صنعاء والمناطق الأخرى الخاضعة لسيطرته، نظراً لتقشفه الأخلاقي والديني. وهكذا استضافت مدينة عدن تحت الإدارة البريطانية أبرز ممثلي الغناء الصنعاني (علي أبو بكر بن شراحيل، محمد الماس وابنه إبراهيم، صالح العنتري، والفنان الأساس حسن العجمي وغيرهم)، إذ ازدهر هذا اللون من نهاية العشرينيات إلى الخمسينيات. وهذا ما أتاح لنا اليوم الحصول على تسجيلات أصلية "للقدماء" على أسطوانات الجرامافون عبر شركات تسجيل بريطانية-عدنية. وقد يرى بعضهم في ذلك حجة إضافية لتأكيد "يمنية" الغناء الصنعاني، وعد هذا النوع الراقي الحضري لتراث البلاد بأكملها وليس للعاصمة صنعاء وحدها، مفضلين مصطلح "الموشح اليمني" على "الغناء الصنعاني". وبالمنطق نفسه، يعدون القنبوس أيضاً آلة خاصة بثقافة وطنية لا تتبع منطقة محدودة بصنعاء وضواحيها.
شكل: 2. عودان يمنيان (في المنتصف)، محاطان بآلات موسيقية من شرق أفريقيا تُسمى "قبوسي"
الصورة: بواسطة بيير ديإيروفيل، 2005
وفضلا عن ذلك، فإن هذه الآلة انتشرت في مناطق بعيدة مثل شرق أفريقيا (كينيا، تنزانيا، جزر القمر، مدغشقر) وجنوب شرق آسيا (إندونيسيا، ماليزيا وغيرها) عن طريق تجار من حضرموت منذ نهاية القرن السادس عشر (الشكل 2)، مما يميل أيضًا إلى إثبات هيمنة العود اليمني على الثقافة الموسيقية لهذه المنطقة الشرقية الكبيرة، على الأقل حتى منتصف القرن الماضي. وبالاعتماد على هذه البيانات التاريخية، فقد شكل القنبوس، حتى مدة قريبة جدًا، الآلة الوترية المثلى في جميع أنحاء اليمن، وليس فقط في صنعاء والمناطق الشمالية.
ويتضح أن العود القديم يندرج في جدل يستدعي العواطف، والرهان فيه هو الهوية. لكن ما هو واقع استعمال الآلة في الموسيقى المعاصرة؟، وقبل ذلك، ما هي النظرة إلى آلة القنبوس غير المألوفة في الموسيقى في الأوساط الموسيقية المعاصرة؟
استعمال عود القنبوس على المشهد الموسيقي اليمني المعاصر واستيعابها
من خلال ما تم ذكره سابقا أرى أنه ينبغي الاعتراف بأن العود اليمني القديم، القنبوس، لم يعد يُستعمل إلا من قبل عدد قليل من الموسيقيين في مرافقة الغناء الصنعاني. من بينهم، الوحيد الذي لا يزال قادرًا على ممارسة هذا الفن بشكل كامل هو حسن العجمي، في حين أن الآخرين لا يملكون للأسف السن أو الصحة التي تمكنهم من العزف والغناء بالحماس والدقة التي كانت لديهم قبل بضع سنوات. ومع ذلك، لا يزال الغناء الصنعاني مستمرًا وُيستمع إليه في العاصمة وفي معظم مناطق البلاد من قبل اليمنيين من الأعمار والطبقات الاجتماعية جميعها. ولكن، من ناحية الآلة فقد حل العود محل القنبوس، ومن ناحية أخرى لم يعد الموسيقيون الشباب يتلقون التدريب التقليدي في هذا المجال، أي أنهم لم يعودوا ينمون موهبتهم الموسيقية من خلال تعليم أستاذ أو أكثر، واكتفوا بإعادة إنتاج مقاطع مسجلة على أشرطة أو أقراص مدمجة (تجدر الإشارة إلى أنه لا توجد في اليمن حتى الآن مدرسة موسيقية رسمية؛ إذ لا قيمة اجتماعية للموسيقى ولا للموسيقيين) . وهذا يؤدي إلى تغير كبير في أسلوب الغناء والعزف، وتبسيط جذري مقارنة بما يسميه الأساتذة "الغناء الصنعاني الأصيل". باختصار، إنها بالنسبة لي ظاهرة من شأنها تبسيط لون يُعد حتى الآن الأكثر تعقيدًا من بين الألوان الموسيقية في البلاد. ربما يمكن رؤية هذا على أنه علامة على الانفتاح الاجتماعي، ولكن هذا التطور يؤدي إلى تدهور التراث على المستوى الموسيقي.
وتكشف التعليقات التي جمعتها من الموسيقيين اليمنيين الشباب، الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و40 عامًا، عن مجموعة واسعة من الآراء حول كيفية النظر إلى آلة القنبوس. إذ يجهل بعضهم وجود هذه الآلة الموسيقية أو لم يسمعوا بها من قبل، إلا أن نسبتهم ضئيلة بالمقارنة مع الذين يعرفونها، إذ الغالبية يؤكدون أنهم قد سمعوا تسجيلات قديمة لهذه الآلة للعازف القاسم الأخفش، أو لعازفي عدن القدماء، لكن لم يسبق لهم سماعها أو رؤيتها في أداءٍ حيٍ. وهذا واقع معظم من ولدوا بعد عام 1980م، وغالبهم من هواة الموسيقى، ولا ينتمون لأسر متخصصة بها. ومنهم من أبدى حماسًا شديدًا عندما سمعوا مقطوعة غنيتُها على العود القديم، كالفنان سمير الهمداني الذي عبّر بإعجاب: "هذه الآلة رائعة، لم أكن أعلم أنها تُصدر صوتًا بهذا الجمال! فعلى الرغم من سماعي لبعض المقطوعات القديمة التي عُزفت على آلة القنبوس، ولكن لم يبدو لي صوتها بهذا الثراء! بصراحة، أنا أفضلها على آلة العود". وبادرَ بعدها بسؤالي عن إمكانية الحصول على آلة القنبوس وسعرها. وكانت ردود فعل عدد من الموسيقيين الشباب الآخرين، ممن ينتمون للفئة نفسها، مشابهة لما أبداه سمير من إعجاب عند اكتشافهم لهذه الآلة القديمة.
وثمة رأي آخر في هذه المسألة، إنه رأي الشاب فؤاد العنسي. إذ على الرغم أنه لا ينتمي إلى فئة الموسيقيين إلا أنه يعيش في عالم الموسيقى يوميًا ومنذ سنوات عدة كونه مالكًا "لأحد الاستريوهات" في الحي الشعبي القديم "القاع" في وسط صنعاء. ومن المثير للاهتمام بالنسبة لشخص من جيله الذي يبلغ من العمر 25 أو 26 عامًا ، أنه لا يحلف إلا بـ ″القدماء″ أي بالدرجة الأولى بمعلمي الغناء في صنعاء الذين سُجلوا في عدن بين الثلاثينيات والخمسينيات من القرن الماضي، ومن ثم فإن فؤاد على وعي طبيعي بأهمية دور ألة القنبوس في الفن الكلاسيكي ويقدر نبل الآلة القديمة وبساطتها التي لا يعرفها إلا عن طريق التسجيلات، ولكن بعد الاستماع إلى القرص المدمج الذي سجله حسن العجمي في باريس عام 2001م، ونظرًا إلى جودة أداء الأستاذ، وجودة التسجيل أفاد فؤاد أنه أدرك حقًا جمال العود اليمني الصغير ورقيه، ومدى ملاءمته التامة لتراث الغناء الصنعاني، ويتضح من ردة فعله الأثر الفعال لجودة التسجيل في تقدير الآلة من قبل غير المتخصصين.
وكان صديقي علي الأنسي وهو موسيقي هاو ممتاز وابن أخ المطرب الشعبي البارز بالاسم نفسه الذي توفي في منتصف الثمانينيات يبادر دائمًا بأخذ قنبوسي كلما زارني (الشكل 3)، إذ إنه بتميزه بمعرفة القوية بالغناء الصنعاني، وكونه قد نشأ في الوسط الموسيقي الذي كان والده فيه عازفًا ممتازًا على الصحن النحاسي التقليدي فهو بالطبع محب للمعلمين القدماء ولموسيقى عمه. كما أنه اكتسب مع الوقت رؤية شخصية ونقدية للموسيقى، وطور أيضًا أسلوبًا موسيقيًا خاصًا به في العود والغناء يختلف تمامًا عن التقليد الموسيقي ولكن لم يمنعه كل ذلك من تقدير صوت القنبوس والسعي إلى إدراجه في ألحانه الخاصة.
شكل: 3. العازف الهاوي علي عبد الرحمن الأنسي
الصورة: بواسطة سمير مقراني، 2006
وتُعدّ هذه التعليقات ذات أهمية بالغة، أولاً لأنها تُظهر أن شابًا مغنيًا وعازفًا على العود قادر على تقدير آلة تتميز بطبقة صوتية مختلفة تمامًا عن العود الكبير في الشرق الذي اعتاد عليه الذي لا يسمح تركيبها بمثل هذا العزف "المذهل" والإيقاعي. كما أن ردّ فعل سمير يوضح أيضًا المشكلة الشائكة المتمثلة في ضعف جودة التسجيلات القديمة للطُربي التي لا تسلّط الضوء على طبقته الصوتية الرقيقة والخافتة. والأدق من ذلك، وهذه المشكلة التقنية مسؤولة جزئيًا في رأيي عن انخفاض تقدير تقليد الغناء الصنعاني الأصيل بين الشباب وإهماله.
إن القضية الرئيسة المهمة التي يبدو أن عددا من الموسيقيين من الجيل الجديد ليسوا على وعي بها هي التأثير الذي ربما يكون حاسمًا لعزف عود القنبوس على طريقة عزف العود اليوم. في الواقع، يبدو من المهم التساؤل عما إذا لم تكن مرافقة الأغنية الصنعانية على هذه الآلة المحددة هي التي قد أتاحت، أو على الأقل عززت، منذ مدة طويلة، ظهور أسلوب يمني متميز. وأفكر بشكل خاص في الخصائص اللحنية لهذا التقليد الموسيقي التي تختلف كثيرًا عما يمكن أن تقدمه تقاليد الموسيقى العربية في مناطق أخرى مثل: (مصر، سوريا ولبنان، المغرب، السودان، إلخ). وعند الاستماع إلى بعض المقتطفات أو المقطوعات الموسيقية، حتى وإن كانت قصيرة جدًا، فإن المستمع المتمرس نوعًا ما على الموسيقى العربية يمكنه على الفور التعرف على الطابع "اليمني" للمقطوعة. وهذا يرجع إلى استعمال تقنيات نمطية محددة، وهي في رأيي إرث مباشر لتقنيات العزف على عود القنبوس التي تميز تراث العود اليمني بوضوح عن التقاليد العربية الأخرى. وأفكر على وجه الخصوص في تقنية اليد اليمنى المعروفة باسم "السَلْسْ"، التي شرحها جان لامبير على النحو التالي: "وهي كلمة تصف أسلوبًا خاصًا في نقر (قرص) الوترين الرئيسيين في الوقت نفسه تقريبًا، وهما "الأوسط" و"الحازق". ويتم عزف الخط اللحني أساسًا على الوتر الأوسط، مدعومًا بدوسة سريعة وكثيفة على الوتر "الحازق" فارغًا مما ينتج نغمات من نوع (دو2) تملأ فجوة بين النغمات الرئيسية. " (Lambert 1997 : 93).
مكانة عود القنبوس في المخيلة الجماعية
من اللافت للنظر أن عدداً من المؤلفات الحديثة حول الموسيقى اليمنية تحمل رسمًا توضيحيًا لآلة القنبوس على الغلاف، مثل كتاب "من الموسيقى اليمنية، قراءة موسيقية" لعبد القادر قائد الصادر في عام 2004م، وكتاب "من تاريخ الأغنية في لحج وعدن وأبين" لمحمد بن ناصر العولقي الصادر في عام 2005م. كما اكتشفتُ خلال إحدى زياراتي لأستوديو الجزيرة في صنعاء أن غلاف إحدى كاسيتات المغني السعودي من أصل يمني محمد عبده مكون من رسم لعازف يعزف على عود القنبوس وهذا أمر مثير للاهتمام إذا علمنا لون الموسيقى التي يمارسها هذا المغني: إنه لون يوصف غالبًا في اليمن بـ "الخليجي" وهي عبارة عن موسيقى احتفالية أوركسترالية تستعمل آلات التراث العربي كالعود والكمان والقانون والإيقاعات إلى جانب آلات العزف الموسيقية بأنواعها المختلفة. والأهم من ذلك، وهذا أمر لافت للنظر، أن أغاني هذا التقليد الخليجي غالباً ما تكون مستمدة من مقطوعات يمنية الأصل، مأخوذة من التراث الصنعاني أو اليافعي أو الحضرمي. ومع ذلك، لم يعد العود اليمني مستعملاً في أي وقت، ويبدو أنه لا يستعمل إلا ذريعة لتأكيد الهوية اليمنية للفنان التي لا يزال ينظر إليها في معظم دول الخليج على أنها علامة على المكانة في الأمور الموسيقية.
وفي يوليو 2006م، خلال مهرجان أقيم في المركز الثقافي اليمني حول موضوع الدان (وهو نوع من الشعر المغنى المصحوب بالإيقاع، ونادراً ما يكون مصحوباً بآلات لحنية ومختص بحضرموت ومناطق أخرى في شمال شرق البلاد)، استعملت فرقة من محافظة شبوة آلة القنبوس خلال أدائها. ولكن على عكس الاستعمال التقليدي لهذه الآلة، وهو مرافقة المغني المنفرد الذي يعزف على الآلة بنفسه، فقد طغت الأصوات والإيقاعات والعود والكمان على العود اليمني الصغير. وبالتالي كانت فائدته الموسيقية قد عفا عليها الزمن تمامًا. ولكن على الرغم من ذلك، أصرت الفرقة المعنية على استعماله، ويمكننا الافتراض أن استعمال القنبوس لم يكن له أي غرض آخر سوى التأكيد على حقيقة أن الفرقة تنتمي إلى تراث ثقافي يمني بامتياز. وهذا أمر أكثر إثارة للاهتمام بالنظر إلى أن التراث الموسيقي لمنطقة شبوة ليس معروفًا باستعمال العود بشكل خاص.
وأخيراً، يبدو لي أن حالة صانع العود فؤاد القعطري (الشكل 4) كشفت عن جانب مهم. فعلى حد علمي، هو آخر من احترف صناعة آلات القنبوس، على الرغم من وجود عدد من الحرفيين الذين يصنعون العود في اليمن اليوم. وبالتالي فإن القعطري، مثل آخر الفنانين الكبار الذين لا زالوا يعزفون على العود اليمني القديم، وهو أيضًا بطريقته الخاصة حافظ للتقاليد، على الرغم من أن توجهه المهني هو إلى حد كبير نتيجة للجهود التي بذلها جان لامبير لإحياء الغناء التراثي الصنعاني منذ أوائل التسعينيات. والمثير للاهتمام أن كبار فناني الغناء التراثي الصنعاني متفقون على جودة آلات القعطري، على الرغم أنه لا يكاد يكون معروفاً خارج الأوساط المتخصصة، أو عند الموسيقيين التقليديين أو الباحثين الأجانب. لكن النقطة التي تهمنا هنا هي أن فؤاد القعطري دُعي مع وفد يمني صغير للمشاركة في مؤتمر دولي عن العود العربي في مسقط، عاصمة سلطنة عمان، من أجل تقديم أعماله وعرض بعض آلات القنبوس التي أبدع فيها. لكن، وكما ذكرت سابقاً، فإن العود اليمني كان يستعمل في عمان، على الأقل حتى مدة معينة، دون أن يرتبط بأي تراث موسيقي محدد كما هو الحال في اليمن ولاسيما في صنعاء. وبالتالي، فإن الاهتمام الذي أبداه المنظمون للندوة بالآلة يعكس، في رأيي، التقدير العالي للموسيقى اليمنية في البلدان المجاورة، إذ يعد القنبوس مرجعا أساسا لتراث معروف بأنه أصل لألوان موسيقية متعددة في الخليج .
شكل: 4. صانع القنبوس فؤاد القعطري
الصورة: بواسطة سمير مقراني، 2006
أليست هذه الأمثلة دليلاً على أن هذه الآلة الموقرة، على الرغم من سقوطها في الإهمال منذ بضع سنوات، لا تزال تترك بصماتها في وعي الناس؟ وبدون المبالغة في أهمية هذه الظاهرة، ألا يجب أن نحللها كدليل على الحضور الحي لآلة القنبوس في الخيال الجمعي اليمني، على الأقل على مستوى الوسط الموسيقي؟
الخاتمة
يتضح من الحجج المقدمة أعلاه أن اليمنيين على وعي تام بثراء تراثهم الموسيقي، إذ يُعَد الغناء الصنعاني أو الموشح اليمني أحد أرقى ألوانه وأقدمها. وإذا لم يعد الشباب اليمني على وجه الخصوص واعياً بالصلة الوطيدة التي تربط آلة القنبوس بالغناء الصنعاني، إلا أنه لا يزال محط اعتبار وقيمة لدى ممثلي الأوساط الفنية والفكرية الذين ولدوا قبل عام 1980م. ولذلك، لا يبدو من المبالغ فيه اعتبار القنبوس مرجعاً رمزياً قوياً للهوية الموسيقية اليمنية، وتحديداً لبعدها الراقي. وهذه النظرة ليست محلية فحسب، بل تنتشر أيضاً بين الموسيقيين وعشاق الموسيقى في البلدان المجاورة، إذ تتضح سمعة اليمن المميزة في دول الخليج بوصفها مركزاً لتراث موسيقي عريق ورفيع. ويبدو أن التحدي الحقيقي اليوم هو إيجاد طريقة لتحرير عود القنبوس من دوره الرمزي، والبحت عن كيفية إحياء استعماله، من أجل ضمان استمراريته وكذلك استمرارية الكنز الموسيقي الثمين الذي يرافقه. وإذا أُتيحت الفرصة للموسيقيين وعشاق الموسيقى من الجيل الجديد لسماع القنبوس وهو يُعزف على أيدي كبار الفنانين (مثل حسن)، فإنني أعتقد أن ممارسته ستنشأ من جديد في كامل بهائها، وهذا ما تشهد عليه ردود فعل معظم المتحدثين المذكورين آنفاً. ولتحقيق ذلك، من الضروري أن تقوم الدولة اليمنية بنشر تسجيلات فناني الماضي عبر الإذاعة والتلفزيون. ولكن على الشباب الذين قد يهتمون بهذه "النهضة" أيضاً أن يتمكنوا من الوصول إلى تسجيلات الفنانين الحاليين، ولاسيما حسن العجمي، الذي على الرغم من انتمائه لتراث السابقين، إلا أنه قد أسهم بشكل كبير في تطوير تقنية عزف العود اليمني بفضل موهبته الإبداعية الفريدة. ويتطلب ذلك بالطبع أن يتجاوز الفنان الحرج الاجتماعي لـ "العيب" الذي ما زال هذا الموسيقي المنحدر من أصل اجتماعي نبيل يخضع له. وعندئذٍ فقط، سيتمكن عود القنبوس من التخلص من دوره الحالي مجرد رمز للهوية الوطنية، ليعود إلى كونه الآلة الأهم في تراث موسيقي متطلب وذي فلسفة جمالية عالية التعقيد.
المراجع
أ- منشورات باللغات الأوروبية
FARMER Henry George, 1967, A History of Arabian Music to the Thirteenth Century. London : Luzac.
GUETTAT Mahmoud, 2000, La Musique arabo-andalouse, l’empreinte du Maghreb. Paris/Montréal : Editions Fleurs sociales/Editions al-Ouns.
HILARIAN Larry Francis, 2002, « The Gambus (lutes) of the Malay World-Its Origins and Significance in Zapin Music ». Presentation of paper in A Symposium in Memory of John Blacking : 12-14 July. Perth : University of Western Australia.
LAMBERT Jean, 1995, « Le magyal et le mafraj : rite social et poétique de l’espace », in Paul Bonnenfant (coord.) : Sana'a, Architecture domestique et société. Paris : CNRS Editions :155-163.
LAMBERT Jean, 1997, La Médecine de l’âme. Nanterre : Société d’ethnologie.
LAMBERT Jean, 2001, « Vol de mélodies ou mécanisme d’emprunt ? Vers une histoire des contacts musicaux entre le Yémen et le Golfe ». Chroniques yéménites 9 : 38-47.
منشورات باللغة العربية
غانم، محمد عبده، 1987، شعر الغناء الصنعاني. بيروت: دار العودة.
العولقي، محمد بن ناصر، 2005، من تاريخ الأغنية في لحج وعدن وأبين. صنعاء: مكتبة الدراسات الفكرية والنقدية.
جازم، محمد عبد الوكيل، 2003، نور المعارف. صنعاء: المركز الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية في صنعاء.
قائد، عبد القادر، 2004، عن الغناء اليمني. صنعاء: وزارة الثقافة.
قائمة اعمال الفنانين
2001
اليمن، الغناء الصنعاني، حسن العجمي وأحمد عشيش. كتيب لجان لامبير باريس معهد العالم العربي 1 قرص مدمج هارمونيا مندي 321029.
اليمن، الساعة السليمانية، محمد الحارثي. كتيب لجان لامبير باريس معهد العالم العربي 1 قرص مدمج هارمونيا مندي 321032 (إعادة إصدار محمد الحارثي الغناء والعود اليمني 1997).
اليمن، الغناء الصنعاني، يحيى النونو. كتيب لجان لامبير باريس بيت الثقافات العالمية 1 قرص مدمج إنيديت دبليو 260099.
2003
اليمن، الغناء الصنعاني، حسن العجمي. كتيب لجان لامبير باريس أوكورا راديو فرنسا 1 قرص مدمج سي 560173.
اليمن، الغناء العدني، محمد مرشد ناجي، خليل محمد خليل. كتيب لجان لامبير باريس معهد العالم العربي 1 قرص مدمج هارمونيا مندي 321047.
2006
اليمن، محمد إسماعيل الخميسي. كتيب لجان لامبير باريس أوكورا راديو فرنسا 1 قرص مدمج سي 560176.
يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.