الملخـــص:
تُعد الجرائم الماسة بالبيئة من الجرائم ذات الآثار الضارة على المجتمع أفرادًا وجماعات، وعلى الكائنات الحية وغير الحية، وما يميزها أن بعضها عابر للحدود والقارات والمحيطات، ونتيجتها متراخية، فقد تحدث في مكان وزمان معين وتكون نتيجتها في زمان ومكان آخر.
وتتعدد الأسباب المؤدية إلى الجرائم الماسة بالبيئة، منها ما هو عائد إلى العنصر البشري، ومنها ما هو ناتج عن العوامل الطبيعية، كالزلازل، والبراكين، والفيضانات، وغيرها، فضلا عن أن منها ما هو متعمد، ومنها غير متعمد ناتج عن إهمال وتقصير.
ونتيجة لازدياد الجرائم الماسة بالبيئة في عصرنا الراهن بشكل لافت للنظر، أصبحت قضية تشكل همًا وقلقًا لمن هم على كوكب الأرض، إذ تداعت معظم دول العالم للتصدي لها من خلال إصدار القوانين الوطنية لحماية البيئة من التلوث، فضلا عن عقد الندوات والمؤتمرات الدولية؛ للبحث عن أسبابها، ووضع الحلول والمعالجات؛ للحد من آثارها الضارة على المجتمع بأسره، وفي هذا الاتجاه قام المشرع اليمني بالتصدي لها، وذلك بعدد من النصوص القانونية الواردة في القانون رقم (12) لسنة 1994م بشأن الجرائم والعقوبات، فضلا عن إصدار قوانين خاصة لحماية البيئة من التلوث بشكل عام، وللبيئية البحرية بشكل خاص، كون الموقع الجغرافي لليمن على خطوط الملاحة الدولية تجعله أكثر عرضة للتلوث البيئي.
الكلمات المفتاحية:
البيئة، التلوث، المسؤولية الجنائية، العقوبة.
Abstract
The environmental crime is one of the crimes that has harmful effects on society, individuals and groups, and on living and non-living organisms. What distinguishes it is that some of it crosses borders, continents and oceans, and its results are slack. It may occur in a certain place and time, and its results are in another time and place.
The causes leading to the environmental crime are many, some of which are due to the human element, and some of which are the result of natural factors such as earthquakes, volcanoes, floods, etc., and some of which are intentional or unintentional, resulting from negligence and neglect.
As a result of the astonishing increase in the environmental crime in our current era, it has become an issue that constitutes a concern and anxiety for everyone on planet Earth, as most countries of the world have rushed to address it by issuing national laws to protect the environment from pollution, in addition to holding international seminars and conferences to search for its causes and develop solutions and treatments to reduce its harmful effects on society as a whole. In this direction, the Yemeni legislator has addressed it with a number of legal texts included in Law No. (12) of 1994 regarding crimes and penalties, in addition to issuing laws specific to protecting the environment from pollution in general and the marine environment in particular, since Yemen's geographical location on international shipping lines makes it more vulnerable to environmental pollution.
Keywords: Environment, pollution, criminal liability, punishment.
مقدمـــــة:
خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وجعله مستخلفًا في الأرض، ويسر له سبيل العيش الكريم وفقًا لنظام بيئي محكم ودقيق، إلا أن تدخلات الإنسان غير العقلانية في هذا النظام قد تسببت في اختلاله، ومن ثم ظهور التلوث البيئي الذي يعد من أهم المشكلات التي تؤرق المجتمعات والحكومات في العصر الحديث، لما له من آثار بالغة الخطورة على البيئة بما فيها من كائنات حية وغير حية، إذ أصبحت تعاني من سموم الأدخنة، والغازات، والمركبات السامة، والنفايات الخطرة، والضوضاء، والإشعاعات، وغيرها، الناتجة عن سباق المجتمعات المحموم نحو التطور والتقدم في المجالات الصناعية والزراعية وغيرها.
ويحدث التلوث البيئي غالبًا بسبب قيام الإنسان بشكل مباشر أو غير مباشر، إرادي أو غير إرادي بإدخال أي من المواد والعوامل الملوثة في عناصر البيئة الطبيعية الذي ينشأ بسببه أخطار تهدد صحة الإنسان، أو الحياة النباتية والحيوانية، أو أذى للموارد والنظم البيئية، أو تأثير على الاستخدامات المشروعة على البيئة، أو تتداخل بأي شكل في الاستمتاع بالحياة والاستفادة من الممتلكات.
لقد زاد حجم التلوث البيئي في السنوات الأخيرة، إذ نتجت عنه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أضرار بيئية لحقت بالإنسان، والكائنات الحية وغيرها، أدت إلى انتشار الأمراض، والأوبئة، وكثرت بسببها الوفيات، وارتفاع درجة حرارة الأرض، وندرة المياه، والتصحر، وتلوث المياه، والتربة وغيرها.
ولمواجهة الجرائم الواقعة على البيئة، كونها لا تمس شخصا، أو دولة بعينها، بل تمس العالم بأسره، قامت معظم دول العالم بسن نصوص قانونية، وعقدت ندوات، ومؤتمرات، ووقعت اتفاقيات دولية؛ لحماية البيئة من التلوث، ومنها اليمن الذي أصدر مجموعة من القوانين، بدءًا بالقانون الملغي رقم (8) لسنة 1984م بشأن إنشاء المجلس الوطني للبيئة في عدن، ومرورًا بنصوص خاصة بحماية البيئة من التلوث تضمنها القانون رقم (12) لسنة 1994م بشأن الجرائم والعقوبات، وانتهاءً بقوانين خاصة بحماية البيئة من التلوث، منها القانون رقم (26) لسنة 1995م بشأن حماية البيئة والقانون رقم (16) لسنة 2004م بشأن حماية البيئة البحرية من التلوث، فضلا عن لوائح تنفيذية، وقد تطرقت هذه القوانين إلى عقوبات وتدابير وقائية لحماية البيئة بشكل عام، والبيئة البحرية من التلوث على وجه الخصوص.
أهمية البحث
تتمثل أهمية هذا البحث في كون الجرائم الماسة بالبيئة تعد من أخطر الجرائم على الاطلاق في العصر الحديث، كونها لا تمس شخصاً، أو بلداً بعينه، بل تهدد البشرية كلها، فضلا عن الكائنات الحية وغير الحية التي تعيش على سطح كوكب الأرض.
ويهدف البحث إلى التعريف بالجرائم الماسة بالبيئة، ومصادرها، والأركان التي تقوم عليها، والمسؤولية الجنائية المترتبة على مرتكبها سواء أكان شخصا طبيعيًا، أم معنويًا، فضلا عن الطرق القانونية التي اتخذها المشرع لمنع حدوثها أو للحد منها.
أسباب اختيار البحث:
لقد دفعني إلى اختيار هذا البحث مجموعة من الأسباب أهمها:
1. ازدياد الجرائم الماسة بالبيئة بشكل لافت للنظر، وانتشار كثير من الأمراض والأوبئة التي لم تكن معروفة من قبل، ولاسيما في المناطق المتاخمة للمصانع، وللشركات النفطية، وأنابيب نقل النفط الخام، فضلا عن عدم وجود معالجات ناجعة للحد من آثارها.
2. ندرة البحوث والدراسات القانونية اليمنية التي تتناول الجرائم الماسة بالبيئة.
3. نشر التوعية القانونية، والتحذير من خطورة الجرائم الماسة بالبيئة على الفرد والمجتمع.
إشكالية البحث
تعد الجرائم الماسة بالبيئة من الجرائم الخطرة التي تهدد العالم بأسره، فهي جريمة عابرة للحدود والقارات تحصد مئات الأشخاص من البشر سنويًا، فضلا عن الكائنات الحية وغير الحية على سطح كوكب الأرض، وأمام وضع كهذا تتجلى الإشكالية الآتية: هل تصدى المشرع اليمني للجرائم الماسة بالبيئة بنصوص قانونية زاجرة ورادعة لمنع الجريمة أو للحد منها؟ فإذا كانت الإجابة بالإيجاب فإن التساؤل يتجلى مجددًا! لماذا ما تزال الجرائم الماسة بالبيئة مستمرة على أشدها على الرغم من وجود العقوبات الجنائية بشأنها؟ إذ انتشرت الأمراض المستعصية الدخيلة على المجتمع كالسرطانات وغيرها من الأمراض في المناطق المتاخمة للشركات النفطية، وأنابيب تصدر النفط الخام.
وعن الإشكالية الرئيسة تتفرع مجموعة من التساؤلات الفرعية أهمها:
- ما الجرائم الماسة بالبيئة، وما أركانها؟
- من المسؤول جنائيًا عنها، وما العقوبات الجنائية التي اتخذها المشرع تجاه مرتكبها؟
منهج البحث:
لمعالجة الإشكالية الرئيسة، والتساؤلات الفرعية تم الاعتماد على المنهج التحليلي الذي يتم من خلاله تحليل النصوص القانونية الواردة في القانون رقم (12) لسنة 1994م بشأن الجرائم والعقوبات، والقوانين الخاصة بحماية البيئة من التلوث، وبيان مواطن النقص والقصور التي اعترتها؛ بغية الوصول إلى المعنى الذي أراده المشرع لها، والخروج بعدد من النتائج والمقترحات التي نرى أنها جديرة بالطرح.
خطة البحث:
لكي تكتمل الفائدة المرجوة من هذا البحث، ويتسنى الإحاطة به من جميع جوانبه، قمت بتقسيمه على مقدمة ومبحثين وخاتمة على النحو الآتي:
المبحث الأول: ماهية الجرائم الماسة بالبيئة وبيان أركانها.
المطلب الأول: مفهوم الجرائم الماسة بالبيئة وأدلة مكافحتها.
المطلب الثاني: أنواع الجرائم الماسة بالبيئة وأركانها.
المبحث الثاني: المسؤولية الجنائية عن الجرائم الماسة بالبيئة وطرق مكافحتها.
المطلب الأول: المسؤولية الجنائية عن الجرائم الماسة بالبيئة.
المطلب الثاني: طرق مكافحة الجرائم الماسة بالبيئة.
الخاتمة:
- النتائج
- المقترحات
المبحث الأول
ماهية الجرائم الماسة بالبيئة
تعد الجرائم الماسة بالبيئة من المشكلات الواسعة الانتشار والخطيرة التي يعاني منها المجتمع ككل؛ كونها تصيب المحيط البيئي الذي يعيش فيه الإنسان والحيوان والنبات، إذ يتعرض الماء والهواء والتربة وغيرها من المخلوقات إلى ملوثات بيئية يصعب معالجتها، ومن ثم تتعرض حياة من هم على هذه الكون للخطر وذلك بفعل تدخلات الإنسان غير المشروعة.
إن الله تعالى خلق هذا الكون وجعل كل شيء فيه بقدر معلوم، فأي زيادة أو نقصان لما خُلق عليه الكون يؤدي حتمًا إلى تلوث البيئة، وإلى الإخلال بأنظمتها. وهذا المبحث انقسم على مطلبين، المطلب الأول: مفهوم التلوث البيئي، والمطلب الثاني: صور الجرائم الماسة بالبيئة وأركانها، وذلك على النحو الآتي:
المطلب الأول
مفهوم الجرائم الماسة بالبيئة وأدلة مكافحتها
يعود السبب في حدوث التلوث البيئي إلى تدخلات الإنسان غير العقلانية في الأنظمة البيئة؛ نظرًا لما يتمتع به من صفات تجعله الأكثر تأثيرًا في توازن الأنظمة البيئية، وهذا لا يعني إطلاقًا أن نترك الأنظمة البيئية بكرًا دون تدخل، بل على العكس فالتدخل العقلاني والمدروس يحفظ للبيئة توازنها الطبيعي (السرياني، 2006)، وفي هذا المطلب نتحدث عن تعريف التلوث البيئي وأدلة مكافحته في الفرعين الآتيين:
الفرع الأول: تعريف التلوث البيئي
التلوث البيئي جملة مركبة من كلمتين التلوث والبيئة، نعرف كلا منهما في اللغة والاصطلاح على النحو الآتي:
أولاً: التلوث في اللغة والاصطلاح
1. التلوث في اللغة
اللوث هو اللي والشر والجراحات، والتلوث هو التلطخ (ابن منظور، 1414)، ويقال لوث ثيابه بالطين أي لطخها، ولوث الماء أي كدره (الرازي، 1999)، ويتضح من هذه المعاني أن التلوث هو اختلاط الشيء بغيره فيعمل على تلطيخه وتكديره لاحتوائه على مواد ضارة.
2. التلوث في الاصطلاح
هو كل إفساد مباشر للخواص العضوية، أو الحرارية، أو البيولوجية، أو الإشعاعية لأي جزء من البيئة، فيكون مثلًا بتفريق نفايات أو مواد، أو إطلاقها، أو إيداعها من شأنها التأثير على الاستعمال المفيد (مرسي،1999).
وعرف المشرع اليمني التلوث " بأنه التغيير الذي يطرأ على الخواص الطبيعية أو الكيميائية أو الحيوية للمياه، ويؤدي إلى الحد من صلاحيتها لأي من الأغراض المخصصة لها" (المياه، 2002، 2).
ثانياً: البيئة في اللغة والاصطلاح
تعرف البيئة بعدد من التعريفات في اللغة والاصطلاح نذكرها على النحو الآتي:
1. البيئة في اللغة
البيئة في اللغة مأخوذة من الفعل بوأ أو تبوأ ومباءة، أي نزل وحل وأقام واتخذ منزلاً يأوي إليه (ابن منظور وأبادي، 2005)، والمباءة هي الموضع التي تبوأ إليه الإبل (الحموي، د ت)، أي المكان التي تأوي إليه.
وبوأته داراً أي اسكنته إياه (الحموي، د ت)، والبيئة بالكسر يطلق على المكان، حله وأقام فيه (أبادي، 2005)، ويتضح من هذه المعاني أن البيئة هي المكان الذي يتخذه الإنسان أو الحيوان منزلاً له.
2. البيئة في الاصطلاح
للبيئة في الاصطلاح عدد من التعريفات، وسنقتصر على التعريف في الاصطلاح الفقهي والقانوني وذلك على النحو الآتي:
أ. البيئة في الاصطلاح الفقهي
هي مجموعة من النظم الطبيعية والاجتماعية والثقافية التي يعيش فيها الإنسان والكائنات الحية التي يستمدون منها زادهم ويؤدون نشاطهم (الحلو، 1995)، بمعنى أنها المحيط المادي الذي يعيش فيه الإنسان بما يشمله من ماء وهواء وفضاء وتربة وكائنات حية، ومنشآت أقامها الإنسان لإشباع حاجاته (مرسي، 1999).
ب. البيئة في القانون
عرفها المشرع اليمني بأنها: "المحيط الحيوي الذي تتجلى فيه مظاهر الحياة بأشكالها المختلفة" (البيئة، 1995، 2).
ومن خلال ما سبق من تعريفات لغوية واصطلاحية للبيئة والتلوث يمكن تعريف التلوث البيئي بأنه: كل سلوك إيجابي أو سلبي، متعمد أو غير متعمد يصدر من شخص طبيعي أو معنوي يضر أو يحاول الإضرار بأحد عناصر البيئة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة (هلال، 2005).
الفرع الثاني: أدلة مكافحة الجرائم الماسة بالبيئة
التلوث البيئي خطره عظيم على كل من يسكن كوكب الأرض، فهو يعمل على اختلال التوازن الذي صنعه الله عندما خلق هذا الكون، والمتتبع لكتاب الله ، وسنة نبيه ، والاتفاقية الدولية يجد عدداً من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والنصوص القانونية التي تدعو إلى مكافحة التلوث البيئي، وتحذر من خطورته، وسنتحدث عن ذلك في جزئين، الأول عن مكافحة الجرائم الماسة بالبيئة في القرآن الكريم والسنة النبوية، وفي الثاني نتكلم عن مكافحة جريمة الجرائم الماسة بالبيئة في الاتفاقيات الدولية، وذلك على النحو الآتي:
أولاً: مكافحة الجرائم الماسة بالبيئة في القرآن الكريم والسنة النبوية
وردت عدد من الآيات القرآنية التي تدعو إلى مكافحة التلوث البيئي سنقتصر على أهمها:
- كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (البقرة، 60).
حث الله على حماية البيئة من التلوث، من خلال عدم مقابلة النعمة بالعصيان فيسلبها الله منا (ابن كثير والقرطبي، 1964)، إذ نهاهم عن الإفساد بقوله (ولا تعثوا)، أي لا تفسدوا ولا تتمادوا في إفسادكم للأرض (ابن عاشور، د. ت)، والتلوث البيئي أحد أوجه الفساد المنهي عنه.
- وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا (الأعراف، 56).
نهى الله تعالى بني البشر عن الإفساد في الأرض بعد أن أصلحها؛ لأنه إذا تم الإفساد أفسدوا مخلوقات كثيرة وأفسدوا أنفسهم (ابن عاشور، د ت).
ونستنتج من هذه الآية أن الله دعا إلى محاربة التلوث البيئي؛ لما له من مخاطر جمة على الإنسان وغيره من الحيوانات والنباتات والتربة والهواء والماء وغيرها من مكونات كوكب الأرض.
والإفساد لفظ عام يشمل كل عمل يؤدي إلى الإخلال بمكونات كوكب الأرض الذي خلقه الله وأحسن خلقه.
- ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ (الروم، 41)
أخبر الله تعالى أن سبب ظهور الفساد في البر والبحر بما أحدثه الإنسان في هذا الكون من مخالفات شرعية، ويكون فساد البر بفقدان مصالحه، وحدوث مضاره، مثل حبس الأقوات من الزروع والثمار والكلأ، وفي موت الحيوان المنتفع به، وفي انتقال الوحوش التي تُصاد جراء قسوة الأرض إلى أراضٍ أخرى، وفي حدوث الجوائح من جراد وحشرات وأمراض، وأما فساد البحر فيظهر في تعطيل منافعه من قلة الحيتان واللؤلؤ والمرجان التي هي أعظم مصدر تجاري لبلاد العرب، وكذلك نضوب مياه الأنهار وانحباس فيضانها الذي به يستقي الناس، فالله تعالى خلق العالم على نظام محكم ملائم صالح للناس فأحدث الإنسان فيه أعمالاً سيئة مفسدة، فكانت هذه الأعمال سبباً في حدوث الإفساد في البر والبحر(ابن عاشور، د ت).
أي أن التلوث البيئي هو نوع من الفساد الذي نهى الله عنه
كما وردت عدد من الأحاديث النبوية التي تدعو إلى المحافظة على البيئة وعدم الإفساد فيها نذكر أهمها:
- قال : (ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة) (البخاري، 1987، ص817).
يدل هذا الحديث على عمارة الأرض من خلال زراعتها، وأن كل من يأكل من هذه المزروعات سواء أكان إنساناً أم حيواناً فإن له الأجر والثواب عند الله سبحانه وتعالى.
فضلا عن أن زراعة الأرض والحث عليها تعمل على مكافحة جرائم التلوث البيئي والقضاء على التصحر، فزراعة الأرض تعطي الناظر متعة ولذة، وتزيد من استخراج الأكسجين المصدر الرئيس لتنفس الإنسان وتلطف الجو، فضلا عن أنها تعمل على تثبيت التربة ومنع الرمال المتحركة من الزحف تجاه العمران.
- قال : (وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن طريق الناس لك صدقة) (البخاري، 1989، ص 307).
يدل هذا الحديث على المحافظة على نظافة البيئة من الملوثات، سواء أكانت أشواكًا أم حجارة، أم مخلفات طعام وضعت في طريق المارة، فضلا عن دعوة الإسلام إلى المبادرة بإزالة تلك الملوثات لينال الإنسان الأجر والثواب من الله تعالى.
- قَال : (اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ) (أبو داود وآخرون).
نهى هذا الحديث عن التبرز ووضع مخلفات الإنسان في مجاري المياه أو في طريق الناس وظلهم؛ لما لهذا التصرف غير الأخلاقي من آثار ضارة على البيئة، فوضع الملوثات في موارد الناس وطرقهم وظلهم أمر مخالف للفطرة السليمة وللشريعة الإسلامية السمحة. ومن مفهوم المخالفة نرى أن الحديث دعا إلى المحافظة على البيئة وجعلها نقية سليمة من الملوثات.
- ثبت أَنَّ : مَرَّ بِسَعْدٍ، وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ: (مَا هَذَا السَّرَفُ» فَقَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ، قَالَ: «نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ) (ابن ماجة وأحمد، د ت).
يدل هذا الحديث على الدعوة إلى المحافظة على الموارد المائية، وعدم الإسراف في استخدامها إلا بقدر الحاجة، ولو كانت هذه الموارد متوفرة بشكل كبير. إذ إن الإسراف في استخدام المياه فوق الحد المطلوب يعمل على هدرها، ومن ثم نضوبها وندرتها؛ كون الماء أساس الحياة، فإذا وجد الماء وجدت الحياة والعكس صحيح.
وتحذير الإسلام من الإسراف في الماء لم يأت من فراغ؛ كون الإسراف يعمل على تحويها من مياه صالحة للشرب إلى مياه عادمة مضرة بالبيئة، ومن ثم تنتشر الأمراض والأوبئة، والروائح الكريهة التي تزكم الأنواف إذا لم يتم تصريفها وفق تقنيات علمية حديثة.
- قَالَ :: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ -أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ -شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ) (أبي داود ومسلم، د ت).
يدل هذا الحديث على الدعوة إلى إزالة الأذى عن طريق الناس. وكلمة أذى مصطلح عام يدخل تحته كل ما يؤذي الإنسان والحيوان والنبات، سواء أكان هذا الأذى نفايات أم قاذورات، أم أشواك، أم مخلفات طعام، أم مياه صرف صحي، أم غيرها من الملوثات البيئية.
وأخبر الحديث أن القيام بهذه الأعمال يعد من إيمان المرء بربه، وقيل إن طرح الأشواك في الطريق، أو الحجارة، أو الكناسة، أو المياه المفسدة للطرق، وكل ما يؤذي الناس تخشى العقوبة عليه في الدنيا والآخرة. (ابن بطال، 2003).
- عَنِ النَّبِيِّ : أنه قَالَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ» (البخاري ومسلم، د.ت).
يدل هذا الحديث على النهي عن التبول في المياه الراكدة ثم يغتسل منها؛ لأن التبول فيها يعمل على تلويثها ونجاستها، ومن ثم تستوطنها الحشرات، كالذباب والبعوض وغيرها التي بواسطتها تنتقل الأمراض من المياه الراكدة إلى الإنسان، وقد تستخدم المياه الملوثة في سقي النباتات أو الحيوانات ومن ثم تنتقل الملوثات إلى النباتات والحيوانات التي يتغذى عليها الإنسان فتنتقل الأمراض إليه.
ونلاحظ أن دلالة الحديث صريحة في المحافظة على البيئة من جرائم التلوث، وذلك من خلال النهي عن التبول أو إلقاء القاذورات في المياه التي هي المصدر الأساس لمياه الشرب.
- أَنَّ قَالَ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ» (أبي داود، د ت، ص 178)
يدل هذا الحديث على الدعوة إلى إحياء الأرض الموات التي لا مالك لها من خلال زراعتها وعمارتها، وأن كل من أحيا هذه الأرض فهي له؛ لأن الإحياء بالزراعة أو العمران يعمل على محاربة التصحر، وحجز الكثبان الرملية من الحركة، ومن ثم تتم المحافظة على البيئة وتنظيفها من الملوثات.
ثانيًا: مكافحة الجرائم الماسة بالبيئة في الاتفاقيات والبروتوكولات الدولية
تضمنت اتفاقية حظر استخدام تقنيات التغيير في البيئة لأغراض عسكرية أو لأي أغراض عدائية أخرى لعام 1976م، التي تعرف اختصارًا باتفاقية "الإنمود" (ENMOD)، فضلا عن البروتوكول الأول الإضافي لاتفاقيات جنيف الصادر عام 1977م، عددًا من النصوص القانونية التي تحمي البيئة من التلوث، والأضرار الناجمة عن النزاعات المسلحة بشكل صريح نتحدث عنهما في الآتي:
1. اتفاقية حظر استخدام تقنيات التغيير في البيئة لأغراض عسكرية أو لأي أغراض عدائية أخرى (ENMOD)
تطرقت المادة (1/1) من هذه الاتفاقية إلى حظر استخدام تقنيات علمية من أجل التغيير في البيئة لأغراض عسكرية أو لأي أغراض عدائية، إذ نصت على أن: " تتعهد كل دولة طرف في هذه الاتفاقية بعدم استخدام تقنيات التغيير في البيئة ذات الآثار الواسعة الانتشار أو الطويلة البقاء أو الشديدة؛ لأغراض عسكرية أو لأي أغراض عدائية أخرى بوصفها وسيلة لإلحاق الدمار أو الخسائر أو الأضرار بأي دولة طرف أخرى".
كما تطرقت المادة (1/2) من هذه الاتفاقية إلى تعهد كل دولة طرف في هذه الاتفاقية بألا تساعد أو تشجع أو تحض أي دولة أو مجموعة من الدول، أو أي منظمة دولية على الاضطلاع بأنشطة منافية لأحكام الفقرة (1) من هذه المادة.
ونستخلص من هذه الاتفاقية وتحديدًا المادة (1) أنها تهدف إلى حماية البيئة من التلوث عن طريق حظر استخدام وسائل العلم الحديث والتكنولوجيا في إحداث تغيرات ضارة بالبيئة لأغراض عسكرية (بشير وسبيطة، 2013) أو لأي أغراض عدائية أخرى، وذلك بالنظر إلى تعدد التقنيات المستخدمة في إحداث تغيرات في البيئة الطبيعية، مما يجعل البيئة وسيلة حربية في يد من يمتلك تلك التقنيات، ومن الأمثلة على التغيرات في البيئة لأغراض عسكرية أو عدائية تشتيت الغيوم، وإسقاط الأمطار، والثلوج، وتمزيق طبقة الأوزون، وتحوير المحيطات من خلال إحداث الأمواج العاتية، وتدمير الآبار النفطية في قاع المحيطات، وتحويل الكتل الأرضية من خلال تحفيز الزلازل وتفجير البراكين، وإحداث الانهيارات الثلجية، والانزلاقات الأرضية، وتدمير السدود، وتحويل مجاري المياه، وتدمير الصناعة النووي (إدريس، 2023) وغيرها.
ونتيجة لخطورة استخدام التغير في البيئة جاءت اتفاقية الإنمود لمنع استخدام الوسائل المدمرة والعدائية، إذ أولت البيئة حماية خاصة من التلوث، ومنعت استخدامها أداة حرب، أو لأي غرض عدائي آخر، وسمحت باستخدامها للأغراض السلمية التي تصب في مصلحة الإنسان، كالاستمطار الذي يهدف إلى استثارة السحب والغيوم لإنزال الأمطار المحملة بها، وتعديل ظروف الطقس السائد، وتحسين الأحوال الجوية وغيرها من الاستخدامات السلمية.
2. البروتوكول الأول الإضافي إلى اتفاقيات جنيف الأربع
نصت المادة (35) من البروتوكول الأول الإضافي إلى اتفاقيات جنيف الصادر سنة 1977م في فقرتها الثانية على أنه: "يحظر استخدام الأسلحة والقذائف والمواد ووسائل القتال التي من شأنها إحداث إصابات أو آلام لا مبرر لها"، كما تنص الفقرة الثالثة من هذه المادة على أنه "يحظر استخدام وسائل أو أساليب للقتال يقصد بها، أو قد يتوقع منها أن تلحق بالبيئة الطبيعية أضرارا بالغة واسعة الانتشار أو وطويلة الأمد".
نستخلص من المادة (35/2) أن المشرع الدولي قد فرض حماية خاصة للبيئة من التلوث عن طريق حظر استخدام الأسلحة الحربية المختلفة التي من شأنها إحداث إصابات أو آلام لا مبرر لها التي قد يكون منشؤها إضرار في الأصل بالبيئة الطبيعية أو الصناعية أو بغيرهما، (إدريس، 2023). أما المادة (35/3) فقد تطرقت إلى حماية البيئة من التلوث بشكل صريح إلا أنها اشترطت أن يقصد أو يتوقع من استخدام وسائل القتال وأساليبه إلى أن تلحق بالبيئة الطبيعية أضرار بالغة، واسعة الانتشار، طويلة الأمد، وإذا لم تلحق بالبيئة الطبيعية أضرار بالغة واسعة الانتشار أو طويلة الأمد مجتمعة فلا يلزم أن يوصف ذلك الفعل بالضرر البيئي.
أما المادة (55) فقد تطرقت إلى حماية البيئة من التلوث بشكل مباشر بغض النظر نوع السكان مدنين أم عسكريين حيث نصت في فقرتها الأولى بقولها: " تراعى أثناء القتال حماية البيئة الطبيعية من الأضرار البالغة واسعة الانتشار وطويلة الأمد. وتتضمن هذه الحماية حظر استخدام أساليب القتال أو وسائله التي بقصد بها أو يتوقع منها أن تسبب مثل هذه الأضرار بالبيئة الطبيعية ومن ثم تضر بصحة السكان أو ببقائهم ".
أما الفقرة الثانية من هذه المادة (55) فقد كانت أكثر صراحة من غيرها من المواد، إذ تطرقت إلى حماية البيئة الطبيعية من التلوث بشكل مباشر دون تحديد من يسكنها أو يستفيد منها، إذ نصت على أنه:" "تحظر هجمات الردع التي تشن ضد البيئة الطبيعية".
ومن خلال ما سبق من اتفاقيات وبروتوكولات دولية نلاحظ أن المشرع الدولي قد فرض حماية قانونية للبيئة الطبيعية من التلوث أثناء النزاعات المسلحة بغض النظر- في بعض النصوص - عن نوع السكان سواء أكانوا مدنيين أم عسكرين، كون هدفه حماية البيئة الطبيعية ومن ثم الإنسان الذي يسكنها.
المطلب الثاني
أنواع الجرائم الماسة بالبيئة وأركانها
خلق الله البيئة وجعلها على ثلاثة أنواع: برية، ومائية، وهوائية، وجعلها صالحة نقية خالية من الملوثات، وقدَّر كل ما فيها بشكل موزون، إلا أن تدخلات الإنسان في هذا الكون عملت على الإخلال بهذا التوازن الدقيق، فظهرت عدد من جرائم التلوث البيئي متعددة المصادر تنذر بعواقب وخيمة على الكون بأسره إذا لم يتم التصدي لها بكل الوسائل الممكنة، كما أن لهذه الجرائم أركان تقوم عليها فإذا توافرت وجدت الجريمة، وإذا انتفت انعدمت الجريمة، وهذا المطلب يتضمن فرعين، في الفرع الأول نتحدث عن أنواع التلوث البيئي ومصادره، وخصص الفرع الثاني لأركان الجرائم الماسة بالبيئة، وذلك على النحو الآتي:
الفرع الأول: أنواع التلوث البيئي ومصادره
البيئة هي المحيط الحيوي الذي يعيش فيه الإنسان، فقد يتلوث الهواء، أو التربة، أو الماء، وقد تتعدد مصادر هذا التلوث، إلا أن أغلبها ناتجة عن أفعال الإنسان وتقصيره، وفي هذا الفرع سنتحدث عن أنواع التلوث البيئي، ثم عن مصادر التلوث البيئي، وذلك على النحو الآتي:
أولًا: أنواع التلوث البيئي
التلوث البيئي قد يصيب الهواء، أو الماء، أو التربية، ولا يخرج عن هذه العناصر التي تتكون منها البيئة وهي كالآتي:
1. تلوث الهواء
يعد الهواء مصدراً رئيساً للإنسان والحيوان والنبات، إذ إن الإنسان والحيوان يستطيع العيش بدون ماء ولا غذاء لأيام عدة ولا يستطيع العيش بدون هواء لمدة لا تتجاوز بضع دقائق.
وتلوث الهواء هو كل تغيير في خصائص الهواء الطبيعي ومواصفاته يترتب عليه خطر على صحة الإنسان والبيئة، سواء أكان هذا التلوث ناتجًا عن عوامل طبيعية أم عن نشاط إنساني بما في ذلك الضوضاء. (الأعرج، 1994).
ويتلوث الهواء بوجود مواد صلبة، أو سائلة، أو غازية في الهواء بكميات تؤدي إلى وقوع أضرار فيسيولوجية، أو اقتصادية، أو الاثنين معًا بالإنسان، والحيوان، والنبات، والآلات، والمعدات، أو تؤدي إلى التأثير في طبيعة الأشياء، أو في مظهرها، أو في خصائصها الفيزيائية والكيميائية، (الكبيسي، د ت)، مما ينعكس سلبًا على حياة الإنسان والحيوان والنبات، وعلى كل من في الوجود.
2. تلوث الماء
يشمل الماء المياه البحرية للدولة بما فيها المياه الإقليمية، والمنطقة المجاورة، والمنطقة الاقتصادية، والجرف القاري، وأعالي البحار، كما يضم الأنهار والبحيرات الدولية، والأنهار والبحيرات الداخلية. (خليل، 1999). ويتلوث الماء نتيجة لاختلاطه بعدد من الملوثات البيئة بنسبة تؤثر على صلاحيته وتجعله غير صالح للاستخدام المراد منه. (محاجي، د ت).
وتلوث الماء إما أن يكون طبيعيًا كارتفاع درجة ملوحته، أو ارتفاع نسبة بعض المركبات الضارة فيه فيؤدي إلى تغير لونه ورائحته، أو يكون كيميائيًا كاختلاط الماء ببعض المواد الكيميائية كالرصاص، أو الزئبق، أو المبيدات الحشرية، أو غيرها، أو بمياه الصرف الصحي، أو بالنفط الخام نتيجة لتسربه من أنابيب الإمداد أو من الناقلات البرية أو البحرية.
3. تلوث التربة
ويقصد به تغيير الخواص الطبيعية للتربة بصورة تؤدي إلى الإضرار بالكائنات الحية، أو المنشآت، والتأثير على ممارسة الإنسان لحياته الطبيعية على الأرض، ويشمل ذلك المنتجات الصناعية والمنزلية والمواد السامة في باطن الأرض، أو بإلقائها فوق سطح الأرض، وقد ينجم عن الأمطار بواسطة الملوثات الجوية كالرصاص والزئبق مما يؤدي إلى الإخلال بالتركيب الطبيعي للتربة. (لحمر، 2012).
ثانيًا: مصادر التلوث البيئي
تتعدد مصادر التلوث البيئي إلا أن أغلبها تكون نتيجة لأفعال الإنسان أو لتقصيره وإهماله، ومن مصادر تلوث التربة استخدام المبيدات، والأسمدة الكيماوية، والأمطار الحمضية، وانجراف التربة، والتصحر، أما مصادر تلوث الماء فيكون ناتجًا عن التلوث النفطي، والنووي، وتصريف الفضلات والنفايات والمواد الأخرى من السفن والطائرات والأرصفة وغيرها، كالتصريف إلى الأنهار والمنشآت الساحلية ومخارج المجاري أو أي مصدر آخر، (ناصر، د ت)، ومصادر تلوث الهواء تكون بسبب اختلاط الهواء بالملوثات الغازية مثل أكاسيد الكبريت والكربون والنيتروجين، وكذلك المواد العالقة وهي قطع دقيقة من مواد صلبة معلقة تتحرك بحرية في الهواء(قعدان، 2016).
ومع التسليم بأن أغلب الملوثات البيئية ناتجة عن فعل الإنسان إلا أن هذا التسليم ليس على إطلاقه، فثمة ملوثات طبيعية لا دخل للإنسان في حدوثها كالملوثات الناتجة عن الزلازل والبراكين والصواعق، والفيضانات، والغبار، وزحف الرمال المتحركة، وغيرها من الملوثات الطبيعية.
الفرع الثاني: أركان الجرائم الماسة بالبيئة
تقوم الجرائم الماسة بالبيئة على ثلاثة أركان: قانوني، ومادي، ومعنوي، وأهمها الركن القانوني، فإذا توافر وجدت الجريمة، وإذا انتفى انعدمت الجريمة، فهو يدور معها وجوداً وعدماً، تطبيقاً للقاعدة القانونية: "لا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون"، والأصل في الأفعال الإباحة مالم يرد الدليل الشرعي على تجريمها. وسنتحدث عن هذه الأركان في النقاط الآتية:
أولاً: الركن القانوني
يقصد به حصر مصادر التجريم والعقاب في نصوص القانون، فتحدد الأفعال التي تعد جرائم، وتبين أركانها، وتوضح العقوبات المقررة لها، سواء من حيث نوعها أم مقدارها (حسني، 1982)، وبذلك فإن الفعل مهما بلغت خطورته لا يعد جريمة إلا إذا وجد نص قانوني سابق يجرمه (القصير، 2006)، ويفرض عقوبة على من يرتكبه.
وتعد الشريعة الإسلامية من أوائل التشريعات التي أقرت بمبدأ مشروعية الجرائم والعقوبات قبل حوالي أربعة عشر قرنًا من الزمن، وهذا ما أكد عليه قوله تعالى: ﱡﭐ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﱠ (الإسراء، 15).
ويستمد الركن القانوني مصدره في هذه الجرائم من المواد (140) من قانون رقم (12) لسنة 1994م، بشأن الجرائم والعقوبات، والمادة (28) من القانون رقم (16) لسنة 2006م بشأن البيئة البحرية، والمادة (85) من القانون رقم (26) لسنة 1995م بشأن حماية البيئة، إذ نصت المادة الأخيرة منه على أنه "مع الإخلال بأي عقوبة أشد منصوص عليها في الشريعة الإسلامية والقوانين النافذة واللوائح التنفيذية لأحكام هذا القانون والقوانين الأخرى فإن كل شخص طبيعي أو اعتباري قام أو تسبب بتصريف أي مادة ملوثة في المياه أو التربة أو الهواء في الجمهورية اليمنية متعمدًا فأحدث ضررًا في البيئة يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن عشر سنوات مع الحكم بالتعويضات المادية المناسبة".
ونستخلص من هذه المادة أن مصادر التشريع والعقاب للجرائم الماسة بالبيئة هي النصوص الصادرة عن السلطة التشريعية، فضلا عن اللوائح الصادرة عن السلطة التنفيذية لتنفيذ هذا القانون.
ثانيًا: الركن المادي
الركن المادي بشكل عام هو القيام بعمل يمنع القانون إتيانه، أو الامتناع عن فعل أمر القانون القيام به (العلمي، 2015).
ويعرف الركن المادي لجرائم التلوث البيئي بأنه السلوك الإجرامي الذي يأتيه الجاني فعلاً أو امتناعًا، وينتج عنه حصول ضرر بالبيئة، أو احتمال وقوعه (خلفي،2014).
ولا يعاقب القانون الجنائي على النية، وما يضمره الشخص من أفكار ومعتقدات مهما كانت شاذة وخطيرة ما دامت كامنة في ضمير صاحبها، واحتوتها نفسيته ودخيلته، وإنما يعاقب القانون على النشاط الخارجي الذي يؤدي إلى المساس بحقوق الأفراد والجماعات سواء أكان ذلك النشاط ايجابيًا أم سلبيًا، فلا يتصور قيام جريمة دون نشاط خارجي من طرف إنسان معين (الخمليشي والعليمي، 2015).
ويتكون الركن المادي لجريم التلوث البيئي من السلوك الإجرامي- الفعل- والنتيجة الإجرامية، والرابطة السببية بين الفعل والنتيجة، أي أن تكون النتيجة الإجرامية ناتجة عن سلوك الجاني.
ويتحقق الركن المادي في الجرائم الماسة بالبيئة من خلال قيام الفاعل – شخص طبيعي أو معنوي-بالفعل المباشر أو بالتسبب بإدخال مادة ملوثة عمدًا إلى البيئة – برية، أو جوية، أو مائية - محدثًا أضرارًا بالبيئة.
ويقصد بالسلوك الإيجابي هي الحركة التي يقوم بها الفرد مستخدمًا أحد أعضاء جسمه لتحقيق نتيجة معينة (السراج،2007)، وفي الجرائم الماسة بالبيئة هو النشاط المادي الذي يؤدي إلى تلوث الوسط البيئي المحمي بالقانون (الألفي،2011)، ويكون بإدخال المادة الملوثة إلى البيئة بسلوك إيجابي متعمد، كالقيام بوضع الملوثات في البيئة، كتفريغ النفط في البحار والمحيطات والأنهار، أو كتصريف المياه العادمة إلى التربة والمياه الجوفية، أو كدفن النفايات في التربة، أو كإحراق مقالب القمامة، وأبار النفط، وإجراء تجارب نووية وغيرها، محدثة أبخرة في الهواء.
وقد ترتكب الجرائم الماسة بالبيئة وفقًا للمادة (85) من قانون حماية البيئة بشكل مباشر، كأن يتم إدخال المادة الملوثة إلى الوسط البيئي دون تدخل عنصر وسيط بين الفعل ووصول المادة الملوثة، كتفريغ النفط في المياه اليمنية الإقليمية، وكذلك ترتكب جرائم التلوث البيئي بشكل غير مباشر- بالتسبيب- إذ تتم بتدخل عنصر وسيط بين السلوك الإجرامي ووصول المادة الملوثة، كأن يقوم الجاني بعمل خزانات لمياه الصرف الصحي وتكون هذه الخزانات غير محكمة مما تتسبب في تسرب المياه العادمة إلى المياه الجوفية الصالحة للشرب فتعمل على تلوثها، أو كإحراق الغاز في حقول النفط فتنتقل هذه السموم إلى البيئة بواسطة الرياح مما يؤدي إلى حدوث تلوث بيئي.
ويقابل السلوك الإيجابي السلوك السلبي الذي هو امتناع شخص معين عن إتيان فعل إيجابي معين كان المشرع ينتظر منه القيام به في ظروف معينة بشرط أن يوجد واجب قانوني يلزمه بهذا الفعل (حسني، 1984).
ومثال السلوك السلبي في جرائم التلوث البيئي كامتناع صاحب منشأة عن اتخاذ بعض التدابير اللازمة لمنع تسرب الغازات والأبخرة المضرة بالصحة الإنسانية، أو عدم الإبلاغ عن حادث ملاحي داخل المياه اليمنية الإقليمية لسفينة تحمل مواد خطرة على البيئة من قبل الجهات المكلفة بذلك.
والسلوك السلبي في الجرائم الماسة بالبيئة مشابه للإهمال وعدم الاحتياط، فسلوك التلوث لا يعد جريمة إلا إذا تجاوز النسبة المحددة قانونًا، والحد منه يكون باتخاذ جملة من التدابير الوقائية المفروضة قانونًا، فالامتناع عن القيام بمثل هذه الالتزامات يسهم بكثرة في ارتفاع نسبة التلوث البيئي، لذا لا يمكن إنكار دور السلوك السلبي رغم أنه يدل على شخصية مهملة أكثر منها إجرامية (لطالي، وإسلام، 2015).
والنتيجة الإجرامية هي الأثر المترتب على السلوك الذي ارتكبه الفاعل (يونس، 2003)، وتتحقق في جرائم التلوث البيئي من خلال التغيير الذي يطرأ على العناصر البيئية، وذلك بتأثير الفعل أو السلوك المخالف للقانون الذي ارتكبه الجاني (حمشه،2006).
والنتيجة الإجرامية غالبًا ما يتراخى تحققها فتحدث في مكان أو زمان مختلفين عن مكان أو زمان السلوك الجرمي ويطلق على هذه الصورة (الجريمة المتراخية) (الهريش، 1998).
ثالثًا: الركن المعنوي
لا يكفي مجرد وجود الركن المادي للجريمة لقيامها قانونًا، بل يجب أن تتوافر إلى جانبه رابطة نفسية بين الجاني وماديات الجريمة وهو الركن المعنوي، فالجريمة تقوم على نوعين من النشاط: الأول مادي ملموس، والثاني نفسي غير ملموس، ويتمثل الأول في ركنها المادي، ويتحقق الثاني باتجاه الإرادة إلى ارتكاب الفعل المجرم (السرور، 1981).
وللركن المعنوي في الجرائم الماسة بالبيئية صورتان، الأولى: القصد الجنائي الذي يقوم على عنصري العلم (العلم بحقيقة الواقعة الإجرامية من حيث الوقائع، ومن حيث القانون) والإرادة، وأما الصورة الثانية: فتتمثل في الخطأ غير المتعمد الذي يقوم على الرعونة أو التفريط أو الإهمال، أو عدم مراعاة القوانين واللوائح والقرارات.
وفي القصد الجنائي تتجه إرادة الجاني الحرة إلى مخالفة الممنوعات الجنائية (الرازقي، محمد، 2002) وعلمه المسبق بعناصر الجريمة، واتجاه إرادته إلى تحقيق هذه العناصر أو القبول بها (القهوجي "وآخرون" (1985).
ويتوافر القصد الجنائي المتعمد في الجرائم الماسة بالبيئة عندما تتجه إرادة الجاني نحو أفعال يعلم أن من شأنها أن تحدث ضررًا في البيئة (سرور، 528)، أي أن القصد الجنائي المتعمد يكون قائمًا على العلم والإرادة، فيجب أن يكون الجاني على علم أن ما يقوم به من نشاط هو اعتداء على البيئة اليمنية، وأنه يلحق الضرر بها، سواء أكان هذا الضرر البيئي ناتجا عن نشاط إيجابي أم سلبي، والمتمثل في تصريفه لمادة ملوثة في البيئة اليمنية أو امتناعه عن عدم منع التصريف للمادة الملوثة ، سواء أكانت برية، أم بحرية، أم جوية، أما العلم بالقانون فهو من الأمور المفترضة لدى العامة، ومن ثم لا يجوز الدفع بالجهل بالقانون، ولا يتحقق القصد الجنائي بالعلم وحده، بل يجب أن تتجه إرادة الجاني الحرة الخالية من عيوب الإرادة إلى القيام بالنشاط الإجرامي، وأن تتحقق النتيجة عن وعي وإدراك كاملين دون التأثر بظرف من الظروف القاهرة المانعة من المساءلة القانونية، ولا يشترط القانون توافر القصد الجنائي المتعمد فقط، بل قد يتوافر القصد الجنائي غير المتعمد (الاحتمالي) ويتحقق ذلك باتجاه إرادة الجاني إلى ارتكاب الفعل أو الامتناع عنه متى كان هذا الارتكاب أو الامتناع مجرم قانونًا، وذلك بقصد إحداث نتيجة أخرى مجرمة قانونًا يكون الجاني قد توقعها (المرفدي، 2024).
ويوكد (المرفدي، 2024) أن الصورة الثانية: هي القصد الجنائي غير المتعمد، وتتمثل في الإخلال بالتزام عام يفرضه المشرع على الأفراد بمراعاة الحيطة والحذر فيما يباشرونه من نشاط حرصًا على المصالح والحقوق التي يحميها دون أن يفضي تصرفه إلى إحداث النتيجة الإجرامية (حسني وشوقي، ص617)، وهو يتحقق في الجرائم الماسة بالبيئة إذا توافر أمرين الأول: إذا لم يتوقع الجاني النتائج الضارة التي حدثت عن فعل التلوث وفقًا للمجرى الطبيعي للأمور، والثاني: أن يتوقع الجاني الأخطاء التي تحدث بفعل التلوث إلا أنه لا يكف عن الاستمرار في فعله، أو لا يباشر ما يجب أن يحدثه الشخص العادي في مثل هذه الظروف من وسائل للحيلولة من حدوث الجرائم الماسة بالبيئة.
المبحث الثاني
المسؤولية الجنائية عن الجرائم الماسة بالبيئة وطرق مكافحتها
إن المسؤولية الجنائية في الجرائم الماسة بالبيئة هي الأثر المترتب على ارتكاب جريمة التلوث التي بموجبها يتحمل الشخص نتائج أفعاله المخالفة للأنظمة والقوانين النافذة إذا ارتكب جريمته وهو بكامل قواه العقلية، وخال من عيوب الإرادة، كما اتخذ المشرع مجموعة من الطرق القانونية لمكافحة الجرائم الماسة بالبيئة، وهذا المبحث ينقسم على مطلبين، في المطلب الأول سنتحدث عن المسؤولية الجنائية عن الجرائم الماسة بالبيئة، وفي المطلب الثاني سنتكلم عن طرق مكافحة الجرائم الماسة بالبيئة، وذلك على النحو الآتي:
المطلب الأول: المسؤولية الجنائية عن الجرائم الماسة بالبيئة
الأصل أن المسؤولية الجنائية شخصية، إلا أن أغلب التشريعات المعاصرة خرجت عن هذه القاعدة في حالات نادرة لتسأل أشخاصًا عن أفعال غيرهم خدمة للصالح العام.
وتحديد الشخص المسؤول عن جرائم التلوث البيئي ليس بالأمر السهل في معظم الأحوال؛ نظرًا إلى الطبيعة القانونية الخاصة بهذه الجرائم من حيث نوعية مرتكبيها ولاسيما عندما ترتكب من قبل أشخاص معنوية، إذ تتعقد الاختصاصات على نحو يصعب إسناد الجريمة إلى فرد أو أفراد بعينهم (صالح، 1980).
ومن ثمّ فإن نطاق المسؤولية الجنائية في جرائم التلوث البيئي يتسع للأشخاص الطبيعية والمعنوية التي تقدم خدمة ما أو تسعى إلى تحقيق ربح تجاري، وسنتحدث عنهما في الفرعين الآتيين:
الفرع الأول: مسؤولية الشخص الطبيعي عن الجرائم الماسة بالبيئة
المسؤولية الجنائية شخصية فلا يُسأل أحد عن جرم ارتكبه غيره، إلا أن المشرع خرج عن هذا الأصل ليسأل أشخاصًا عن جرائم ارتكبها غيرهم وذلك لما تتطلبه المصلحة العامة للمجتمع، وفي هذا الفرع سنتحدث عن مسؤولية الشخص الطبيعي عن فعله الشخصي، وعن مسؤولية الشخص الطبيعي عن فعل غيره، وذلك على النحو الآتي:
أولًا: مسؤولية الشخص الطبيعي عن فعله الشخصي
من المعروف بداهة أن الإنسان يكون مسؤولًا عن نتائج فعله المخالف للقانون إذا كان عالمًا مدركًا به.
وتحديد المسؤول عن جرائم التلوث البيئي في كثير من الحالات ليس بالأمر السهل لما تتميز به هذه الجرائم من طبيعة خاصة من حيث الأسباب المؤدية لها ومصادرها؛ لأنها عادة ما تتعدد وتتداخل بعضها مع بعض بحيث يصعب تحديد سبب معين أو مصدر معين للجريمة من أجل تحميل مرتكبها المسؤولية عنها (الهريش، 1998).
ومن الأمثلة على ذلك جريمة تلوث الهواء في منطقة جغرافية معينة بها عدد من المصانع والمنشآت التجارية والخدمية التي ينبعث منها غازات وأبخرة ملوثة للهواء، فضلا عن أبخرة وسائل النقل التي تمر بهذه المنطقة، ففي هذه الحالة وأمثالها يصعب تحديد المصدر الرئيس والأساس للتلوث (عبد القوي، 2002)، كما أن طبيعة النتيجة الإجرامية في هذه الجرائم التي تتسم بالتراخي والتفاعل بشكل متسلسل ومتلاحق بحيث يصعب ربط النتيجة الإجرامية الأخيرة مع السبب الأول أو مع سبب بعينه (سعد، 1994).
ونتيجة لهذه الإشكالية وصعوبتها في تعيين من الشخص الطبيعي المسؤول عن جرائم التلوث البيئي، فقد أوجد الفقه القانوني مجموعة من الأسانيد التي يتم من خلالها تحديد الشخص المسؤول عن هذه الجرائم نذكرها على النحو الآتي: (إسلام، 2015).
1. الإسناد القانوني
هو طريقة يتولى بها القانون أو اللائحة تحديد صفة الفاعل، أو تعين شخص، أو أشخاص عدة فاعلين للجريمة، ويكون هذا الإسناد إما بعبارات صريحة حيث يحدد القانون صراحة الشخص المسؤول بالاسم والوظيفة، ومثال ذلك صاحب المصنع يكون مسؤولاً عن تلوث المياه القريبة من المصنع الذي نتج عن مجموعة من عماله؛ لأنه طبقاً للقانون يستطيع منعهم من ذلك، أو يكون الإسناد بعبارات ضمنية يتم استخلاصها ضمنياً من النظام القانوني، ومثال ذلك السفينة التي تنقل الوقود بدون تنظيم يُعد مالكها مسؤولاً عن أي تسريبات من سفينته التي تحدث ضررًا بالبيئة، وعندما يحدث التسرب من مجموعة من السفن وينتج عنه الضرر فإنه يستشف بصورة ضمنية أن مالكي هذه السفن التي تسببت في تلوث المياه يكونون مسؤولين عن هذه التسرب على وجه التضامن.
2. الاسناد المادي
تقوم المسؤولية الجنائية بناء على هذا الإسناد عندما ينسب إلى شخص ما سلوك إيجابي أو سلبي مكون للجريمة، ومحدث أضرارًا بالبيئة.
3. الإنابة في الاختصاص
ويعرف أيضًا باسم الاسناد الاتفاقي، ويقصد به أن صاحب العمل، أو رئيس المؤسسة، أو مدير المنشأة يقوم باختيار شخص من العاملين لديه ويحمله المسؤولية الكاملة عن المخالفات جميعها التي ترتكبها المنشأة أو المؤسسة بسبب الأنشطة التي تمارسها.
ثانيا: المسؤولية الجنائية عن فعل الآخرين
المسؤولية الجنائية شخصية إلا أنه قد يرد عليها بعض الاستثناءات، إذ قد يعاقب المشرع في مجال الجرائم البيئية أشخاصًا لم يرتكبوا الجريمة ولم يكونوا شركاء فيها، نظراً إلى أن المصلحة العامة اقتضت ذلك حماية للمجتمع من الإجرام، فإذا علم أصحاب الشركات، أو المدراء، أو غيرهم ممن لهم سلطة الإشراف والرقابة أنهم سيعاقبون على أفعال تابعيهم أو مستخدميهم إذا أهملوا أو تقاعسوا عن عملهم لأحكموا رقابتهم عليهم، ومنعوهم من عدم تجاوز القوانين واللوائح القانونية الخاصة بالمحافظة على البيئة من التلوث.
ولكي تقوم المسؤولية الجنائية المفترضة ضد الآخرين فإنه يشرط وقوع الجرائم الماسة بالبيئة من الآخرين وإسناد الخطأ إلى الرئيس المباشر، وهو خطأ مفترض من جانب الرئيس المباشر وليس على النيابة العامة إثباته، فرئيس المشروع، أو مدير المصنع، أو رب العمل ملتزم شخصيًا بالحرص المستمر على تنفيذ القوانين واللوائح التنفيذية لحماية البيئة من التلوث ولا يعفى الرئيس من المسؤولية الجنائية المفترضة إن هو فوض مهام الإشراف والمراقبة لشخص ذي سلطة (فرقاق، د ت).
الفرع الثاني: مسؤولية الشخص المعنوي عن الجرائم الماسة بالبيئة
ينتج التلوث البيئي غالبًا من المصانع والمنشآت الصناعية، ونتيجة لخطورة هذه الجريمة على كل من يسكن كوكب الأرض اعترفت القوانين الجنائية العامة والقوانين المكملة لها بالمسؤولية الجنائية للشخص المعنوي ومنها المشرع اليمني، إذ تطرق للمسؤولية الجنائية للشخص المعنوي في المادة (1) من قانون الجرائم والعقوبات رقم (12) لسنة 1994م بقوله: " .... الأشخاص الاعتبارية تشمل الشركات والهيئات والمؤسسات والجمعيات التي تكتسب هذه الصفة وفقًا للقانون، وتأخذ حكم الأشخاص الطبيعية بالنسبة للجرائم المنصوص عليها في هذا القانون ويكتفي في شأنها بالعقوبات التي يمكن تطبيقها عليها".
ونستخلص من النص المذكور سلفًا أن المشرع اليمني قد اعترف بالمسؤولية الجنائية للشخص المعنوي بشكل صريح، علمًا أن الشخص المعنوي يولد بقوة القانون، ولا يولد ولادة طبيعية، فأي شركة أو هيئة أو مؤسسة أو جمعية لا تعد شخصية معنوية إلا إذا اعترف بها القانون أولًا، ثم إن المشرع أعطى للشخص المعنوي بالنسبة للجرائم المرتكبة حكم الأشخاص الطبيعيين وخالفهم في العقوبة، إذ جعل لهذه الكيانات عقوبات تتلاءم مع طبيعتها مثل المصادرة والغرامة والحل.
ولم يكتف المشرع اليمني بالاعتراف بالمسؤولية الجنائية للشخص المعنوي في القوانين الجنائية العامة بل أكد عليها في المادة (2/ر) من القانون رقم (16) لسنة 2004م بشأن حماية البيئة البحرية من التلوث، وكذا المادة (25) من القانون رقم (26) لسنة 1995م بشأن حماية البيئة، إذ أعطت هذه المادة الهيئة العامة لمجلس حماية البيئة أو أحد فروعه الحق في الحظر الفوري لأي شخص، أو هيئة، أو شركة، أو مؤسسة من أي تصرف يخالف هذا القانون أو لوائحه التنفيذية، أو أي حادث قد يؤدي إلى تلوث البيئة أو يشكل خطرًا عليها، أو مخالفة أي التزام آخر نص عليه ترخيص موضوع مزاولة النشاط، مع بيان أسباب الحادث وطبيعته، أو التصرف المخالف أو الحدث، وما تم تداركه من تدابير لتصحيح الأوضاع وإزالة الأخطار.
وتطبيقًا لذلك فقد نصت المادة (85) من قانون حماية البيئة على عقوبة الحبس مدة لا تزيد عن عشر سنوات مع الحكم بالتعويضات المناسبة لكل شخص طبيعي أو معنوي قام أو تسبب بتصريف أي مادة ملوثة متعمدًا في المياه أو التربة فأحدث ضررًا في البيئة.
ونلاحظ أن الشخص المعنوي لا يمكن تطبيق عقوبة الحبس عليه، ويمكن الاستعاضة عن العقوبة الحبسية بعقوبة الإغلاق المؤقت، أما التعويضات فهي تناسب كل الأشخاص سواء أكانوا أشخاصًا طبيعيين أم معنويين.
فضلا عن أن الشخص المعنوي لا يمكنه ارتكاب الجريمة إلا بواسطة أشخاص طبيعيين لهم الحق في التعبير عن إرادته، وأن ترتكب الجريمة لصالحة، ولا يسأل الشخص المعنوي عن الجرائم التي يرتكبها الشخص الطبيعي لحسابه الخاص.
المطلب الثاني: طرق مكافحة الجرائم الماسة بالبيئة
لم يقف المشرع اليمني مكتوف الأيدي أمام الجرائم الماسة بالبيئة ومالها من آثار بالغة الخطورة على الإنسان والحيوان والنبات والبيئة التي يعيش فيها الإنسان، بل تصدى لها بعدد من النصوص القانونية آملًا منها مكافحتها أو الحد منها، وفي هذا المطلب نتناول العقوبات الجنائية في مواجهة الجرائم الماسة بالبيئة بدءاً بالقانون رقم (12) لسنة 1994م بشأن الجرائم والعقوبات، ومروراً بالقانون رقم (26) لسنة 1995م بشأن حماية البيئة من التلوث، وانتهاءً بالقانون رقم (16) لسنة 2004م بشأن حماية البيئة البحرية من التلوث، وذلك على النحو الآتي:
الفرع الأول: عقوبة الجرائم الماسة بالبيئة في قانون الجرائم والعقوبات
تطرق المشرع اليمني في المادة (140) من قانون الجرائم والعقوبات إلى عقوبة التلوث البيئي إذا كانت عن قصد وتعمد، إذ فرض لها عقوبة حبسية لا تزيد عن عشر سنوات لكل من عرّض – متعمدًا- حياة الناس أو سلامتهم للخطر بوضعه مواداً سامة أو ضارة من شأنها أن تسبب الموت، أو تسبب ضرراً جسيماً بالصحة العامة في المياه الإقليمية أو الموانئ، أو في بئر، أو في خزان مياه، أو في أي شيء آخر معد لاستعمال الجمهور.
أما إذا كانت الجريمة غير متعمدة تم ارتكابها نتيجة لإهمال أو تقصير فإن العقوبة تكون أخف من الجريمة المتعمدة، وهذا ما أكدت عليه المادة (143) بالنص الآتي: "يعاقب بالحبس مدة لا تجاوز ثلاث سنوات، أو بالغرامة من تسبب بإهمال في إشعال حريق، أو انفجار، أو غرق، أو تلوث، أو تعطيل لإحدى وسائل النقل، فإذا نجم عن الإهمال كارثة، تكون العقوبة الحبس مدة لا تتجاوز خمس سنوات".
أي أن عقوبة الجرائم الماسة بالبيئة إذا ارتكبت عن طريق التعمد تكون وفقًا للمادة (140) من القانون السالف الذكر الحبس الذي لا يزيد عن عشر سنوات، أما إذا ارتكبت نتيجة لإهمال أو تقصير فإن العقوبة تكون وفقًا للمادة (143) وهي الحبس مدة لا تتجاوز ثلاث سنوات أو الغرامة، فالقاضي مخير بين الحكم بالحبس أو الغرامة كون حرف "أو" ورد للتخيير بين العقوبتين، أما إذا نجم عن ارتكاب الجريمة عن طريق الإهمال كارثة فإن العقوبة تكون الحبس مدة لا تزيد عن خمس سنوات، وهذا ظرف تشديد من قبل المشرع.
الفرع الثاني: عقوبة الجرائم الماسة بالبيئة في قانون حماية البيئة
تطرق المشرع في المادة (85) من قانون حماية البيئة إلى عقوبة التلوث البيئي بالنص الآتي:" مع عدم الإخلال بأي عقوبة أشد منصـوص عليهـا فـي الشـريعة الإسلامية والقوانين النافذة واللوائح التنفيذية لأحكام هذا القانون والقـوانين الأخرى فإن كل شخص طبيعي أو اعتباري قام أو تسبب بتصـريف أي مادة ملوثة عمدًا في المياه أو التربة أو الهواء فـي الجمهوريـة اليمنيـة فأحدث ضررًا في البيئة يعاقب بالسجن مدة لا تزيد عن عشر سنوات مـع الحكم بالتعويضات المادية المناسبة".
ونستخلص من هذه المادة أن المشرع قد أعطى القاضي المختص بالنظر في الدعوى الجزائية المرفوعة أمامه الصلاحية الكاملة بالحكم بأي عقوبة أشد في حال وجودها في أي قانون آخر للتلوث البيئي؛ كونها الأولى بالتطبيق من العقوبات الواردة في قانون حماية البيئة إذا رأى أن الأخيرة غير زاجرة ورادعة في منع الجريمة أو الحد منها، وفي حالة عدم وجود عقوبة أشد في أي قانون آخر فإن المشرع قد جرم في المادة المذكورة سلفًا كل فعل ينطوي على تصريف أي مادة ملوثة عمدًا، أو تسبب بتصريفها في المياه أو التربة أو الهواء وأحدث ضررًا في البيئة، وجعل عقوبته هي الحبس مدة لا تزيد عن عشر سنوات مع الحكم بالتعويضات المناسبة، وبمفهوم المخالفة إذا لم يحدث الشخص الطبيعي أو المعنوي أي أضرار بالبيئة فلا شيء عليه.
أي أن العقوبة الأصلية للتلوث البيئي هي الحبس مدة لا تزيد عن عشر سنوات فضلا عن عقوبة تكميلية وهي الحكم بالتعويضات المادية المناسبة عن الضرر البيئي المتمثلة في تكلفة إزالة الضرر البيئي وتنقية البيئة، وكذلك التعويض عن الأضرار التي تصيب الأموال والأشخاص.
الفرع الثالث: عقوبة الجرائم الماسة بالبيئة في قانون حماية البيئة البحرية من التلوث
لم يكتف المشرع بالنصوص القانونية العامة والخاصة لحماية البيئة من التلوث، بل أصدر قانونًا خاصًا بحماية البيئة البحرية من التلوث؛ نظرًا لما تتعرض له من أضرار بيئية بشكل مستمر نتيجة لمرور البواخر والسفن المحملة بالبضائع والنفط في المياه والممرات اليمنية، إذ أفرد بابًا خاصًا لعقوبة تلوث البيئة البحرية في المواد من (27- 32)، وفي حالة وجود عقوبة أشد في أي قانون آخر فإنها تكون هي الأولى بالتطبيق من العقوبات الواردة في هذا القانون، وهذا ما أكدت المادة (27) بالنص: "مع عدم الإخلال بأي عقوبة أشد تنص عليها القوانين النافذة ... يعاقب كل من تعمد مخالفة أحكام هذا القانون بالعقوبات المبينة في المواد الواردة في هذا الباب".
وما يهمنا في بحثنا هذا هي العقوبات للجرائم الواردة في المادة (28)، نتحدث عن أهمها في النقاط الآتية:
أولًا: عقوبة جريمة تصريف مادة ملوثة في منطقة خالية من التلوث
عرف المشرع في المادة (2/ ث) المنطقة الخالية من التلوث بأنها: البحر الإقليمي، والمنطقة المتاخمة، والمنطقة الاقتصادية الخالصة، والجرف القاري المحدد وفقاً للقوانين النافذة، وكذا الموانئ والمياه الداخلية، إذ جعل عقوبة تصريف المادة الملوثة في هذه المنطقة وفقًا للمادة (28/ أ) هي: الغرامة التي لا تقل عن مليوني ريال، أو الحبس مدة لا تزيد عن ثلاث سنوات، أو بالعقوبتين معاً لكل شخص، أو سفينة، أو طائرة، أو جهاز نقل زيت قام بتصريف مادة ملوثة في المنطقة الخالية من التلوث، ويعد كل تصريف يتم في أي يوم من أيام استمرار التصريف المحظور مخالفة منفصلة.
ومن ثم فإن القاضي مخير بين الحكم بالغرامة التي لا تزيد عن مليوني ريال، أو بالحبس مدة لا تزيد عن ثلاث سنوات، وإذا رأى أن إحدى هاتين العقوبتين غير رادعة وزاجرة للمتهم فإن له الحق في الحكم بالعقوبتين معًا (الغرامة والحبس)، ولا يحول تطبيق هذه العقوبة والغرامة من الحكم بالتعويض أو بالتكاليف المستحقة للهيئة العامة للشؤون البحرية، أو لأي جهة أخرى، ولا تحول هذه العقوبة أيضًا من تطبيق الجزاءات الإدارية على المخالفات غير المتعمدة لأحكام هذا القانون وفقًا للائحة الخاصة بذلك، ولا تحول كذلك من المساءلة الجنائية إذا ترتب على ارتكاب المخالفة فعل جنائي
ثانيًا: عقوبة جريمة إلقاء مادة ملوثة، أو نفايات ناتجة عن عمليات الحفر أو الاستكشاف أو الاختبار أو الإنتاج أو الشحن أو متصلة بها في المنطقة الخالية من التلوث
عرف المشرع في المادة (2/ ج) الإغراق بأنه: كل إلقاء متعمد لمادة ملوثة، أو فضلات، أو حيوانات نافقة، أو أحياء بحرية ميتة في البحر من السفن، أو الطائرات، أو الأرصفة، أو غير ذلك من المنشآت الصناعية والمصادر الأرضية، إذ جعل عقوبة الإلقاء أو الإغراق لمادة ملوثة أو نفايات ناتجة عن عمليات الحفر أو الاستكشاف أو الاختبار أو الإنتاج أو الشحن أو متصلة بها في المنطقة الخالية من التلوث وفقًا للمادة (28/ ب) من هذا القانون هي الغرامة المالية التي لا تقل عن مائتي ألف ريال أو بالحبس مدة لا تزيد عن ستة أشهر أو بالعقوبتين معًا، فالقاضي مخير بين الحكم بالغرامة أو الحبس أو الحكم بالعقوبتين معًا (الحبس والغرامة)، ولا يحول تطبيق هذه العقوبة (الحبس والغرامة) من الحكم بالتعويض، أو بالتكاليف المستحقة للهيئة العامة للشؤون البحرية، أو لأي جهة كانت، ولا تحول أيضًا من تطبيق الجزاءات الإدارية على المخالفات غير المتعمدة لأحكام هذا القانون وفقًا للائحة الخاصة بذلك، ولا تحول كذلك من المساءلة الجنائية إذا ترتب على ارتكاب المخالفة فعل جنائي.
ثالثًا: عقوبة جريمة تصريف مادة ملوثة أو نفايات أو سوائل غير معالجة أو إلقائها أو إغراقها من شأنها إحداث تلوث بيئي في الشواطئ اليمنية
عرف المشرع التصريف في المادة (2/ ز) بأنه: إلقاء، أو تسرب، أو انبعاث، أو انصباب، أو تفريغ، أو إغراق، أو تكديس، أو قذف، بصورة مباشرة أو غير مباشرة لأي مادة ملوثة في المنطقة الخالية من التلوث، إذ جعل عقوبة تصريف مادة ملوثة أو نفايات أو سوائل غير معالجة أو إلقائها أو إغراقها من شأنها إحداث تلوث بيئي في الشواطئ اليمنية وفقًا للمادة (28/ ب) من هذا القانون هي الغرامة المالية التي لا تقل عن مائتي ألف ريال، أو بالحبس مدة لا تزيد عن ستة أشهر أو بالعقوبتين معًا، فالقاضي مخير بين الحكم بالغرامة أو الحبس أو الحكم بالعقوبتين معًا (الحبس والغرامة)، ولا يحول تطبيق هذه العقوبة والغرامة من الحكم بالتعويض أو بالتكاليف المستحقة للهيئة العامة للشؤون البحرية، أو لأي جهة كانت، ولا تحول أيضًا من تطبيق الجزاءات الإدارية على المخالفات غير المتعمدة لأحكام هذا القانون وفقًا للائحة الخاصة بذلك، ولا تحول كذلك من المساءلة الجنائية إذا ترتب على ارتكاب المخالفة فعل جنائي.
رابعًا: عقوبة جريمة تصريف مادة ملوثة في أي مياه خارج نطاق المنطقة الخالية من التلوث
تطرق المشرع في المادة (28/ ج) لعقوبة جريمة تصريف مادة ملوثة في أي مياه خارج نطاق المنطقة الخالية من التلوث، إذ جعل عقوبتها هي: الغرامة المالية التي لا تقل عن مليون ريال، أو بالحبس مدة لا تزيد عن سنة أو بالعقوبتين معًا، فالقاضي مخير بين الحكم بالغرامة أو الحبس فقط أو الحبس والغرامة معًا، وذلك بالنظر إلى جسامة الجريمة وخطورة المجرم، ولا يحول الحكم بالغرامة أو الحبس أو بهما معًا من الحكم بالتعويض أو بالتكاليف المستحقة للهيئة العامة للشؤون البحرية، أو لأي جهة كانت، ولا تحول أيضًا من تطبيق الجزاءات الإدارية على المخالفات غير المتعمدة لأحكام هذا القانون وفقًا للائحة الخاصة بذلك، ولا تحول كذلك من المساءلة الجنائية إذا ترتب على ارتكاب المخالفة فعل جنائي.
ومن خلال استعراضنا للعقوبات الواردة في القوانين السالفة الذكر حول عقوبة الجرائم الماسة بالبيئة نلاحظ أن المشرع لم يحدد الحد الأدنى لعقوبتي الحبس والغرامة مما يتطلب منا العودة إلى القانون رقم (12) لسنة 1994م بشأن الجرائم والعقوبات، إذ حدد الحد الأدنى لعقوبة الحبس بأربعة وعشرين ساعة، والحد الأعلى بألا يزيد عن عشر سنوات وفقًا للمادة (39)، أما الغرامة فإن حدها الأنى لا ينقص عن مائة ريال، وحدها الأعلى لا يزيد عن سبعين ألف ريال يمني وفقًا للمادة (43) من القانون السالف الذكر.
وعليــه، نرى أن عقوبة الحبس والغرامة الواردة في القوانين الخاصة بحماية البيئة من التلوث قد أصحبت اليوم غير مناسبة ولا تفي بالحد الأدنى من الزجر والردع مقارنة بالضرر البيئي المرتكب بحق المجتمع والأجيال القادمة الأمر الذي يتطلب من المشرع اليمني إعادة النظر بصورة عاجلة في هذه العقوبة من خلال رفع الحد الأدنى لعقوبة الحبس والغرامة، وإعادة النظر في الحد الأعلى للغرامة نتيجة لهبوط سعر العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية.
الخاتمـــــة
عند دراستنا لموضوع الجرائم الماسة بالبيئة في القانون اليمني من خلال منهج تحليلي حللنا فيه النصوص القانونية الواردة في القوانين العامة والخاصة ذات الصلة بالتلوث البيئي، فقد توصلنا إلى مجموعة من النتائج والمقترحات التي نعتقد أنها جديرة بالطرح، وهي على النحو الآتي:
أولًا: النتائج
1. إن الجرائم الماسة بالبيئة عبارة عن سلوك أو فعل إجرامي سواء أكان إيجابيا أم سلبيا، متعمداً أم غير متعمد يصدر من شخص طبيعي أو معنوي يضر أو يحاول الإضرار بالبيئة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
2. إن الجرائم الماسة بالبيئة تعد من الجرائم الخطيرة التي أصبحت تهدد حياة كل من على سطح كوكب الأرض، كونها جريمة قابلة للنمو والانتشار مع كل تطور عمراني أو صناعي لا تعترف غالبًا بالحدود السياسية للدول حتى تتوقف عندها، وتتسم بالحركة والقدرة على الانتقال من بيئة إلى أخرى.
3. إن الجرائم الماسة بالبيئة قد تصيب الهواء أو الماء أو التربة بسبب تدخلات الإنسان غير العقلانية في النظام البيئي المحكم والمتزن سعيًا منه لمواكبته للتطور الصناعي والعمراني في شتى المجالات والاستفادة منه في حياة اليومية.
4. إن الجرائم الماسة بالبيئة كغيرها من الجرائم تقوم على أركان ثلاثة: قانوني، ومادي، ومعنوي، فإذا توافر الركن القانوني وجدت الجريمة، وإذا فُقد انعدمت الجريمة، كما أن النتيجة الإجرامية لهذه الجريمة غالبًا ما تكون متراخية فقد يحدث الفعل أو السلوك الاجرامي في مكان وزمن مختلف عن مكان وزمن النتيجة الإجرامية.
5. إن الشريعة الإسلامية منذ بزوغها قد سبقت القوانين الوضعية في المحافظة على البيئة من التلوث من خلال عدد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الداعية للمحافظة على البيئة.
6. إن المشرع اليمني قد اعترف بالمسؤولية الجنائية للشخص المعنوي عن الجرائم الماسة بالبيئة ووضع العقوبات والتدابير الوقائية المناسبة لطبيعته.
7. ضعف العقوبات الواردة في قوانين حماية البيئة من التلوث وعدم تناسبها مقارنة بالضرر البيئي المرتكب، إذ انحصرت معظم العقوبات في الغرامات المالية ولاسيما الواردة في القانون رقم (16) لسنة 2004م، بشأن حماية البيئة البحرية من التلوث، إذ أصبحت تلك الغرامات ضئيلة وغير رادعة وزاجرة نتيجة لانهيار العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية.
ثانيًا: المقترحات
1. جمع القوانين كافة الخاصة بحماية البيئة من التلوث في مدونة واحدة تسمى "قوانين حماية البيئة من التلوث" ليسهل الرجوع إليها بكل يسر وسهولة.
2. تشديد عقوبة التلوث البيئي الواردة في القوانين الخاصة بحماية البيئة من التلوث كونها لا تفي بالحد الأدنى من الزجر والردع، إذ إن العقوبة أصبحت غير مناسبة مقارنة مع حجم الضرر البيئي المرتكب بحق المجتمع والأجيال القادمة وذلك من خلال رفع الحد الأدنى لعقوبة الحبس والغرامة وإعادة النظر في الحد الأعلى للغرامة نتيجة لهبوط العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية.
3. تفعيل دور الرقابة من قبل الأجهزة التنفيذية المعنية بحماية البيئة من التلوث في الموانئ والشواطئ والمياه الإقليمية وعلى المنشآت النفطية والصناعية وغيرها وإلزامها بالمحافظة على البيئة من التلوث.
4. استخدام الطاقة البديلة الأمنة كالطاقة الشمسية بدلًا من الاعتماد على الطاقة التقليدية المعتمدة على النفط أو الغاز.
5. عقد ندوات، ومؤتمرات، وورش عمل علمية، ودورات تدريبية حول التلوث البيئي ومخاطره بهدف تدريبهم لتوعية المجتمع وإرشاده بخطورة الجرائم الماسة بالبيئة عليه وعلى الأجيال القادمة.
6. تدريس مادة قانون حماية البيئة من التلوث في كليات الحقوق، والمعهد العالي للقضاء؛ لتأهيل قضاة وخبراء متخصصين في هذا المجال.
7. تفعيل دور وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة ووسائل التواصل الاجتماعي وذلك لنشر الأحكام القضائية ذات الصلة وتوعية الجمهور بخطورة الجرائم الماسة بالبيئة.
قائمة المصادر والمراجع
- أبادي، الفيروز. (2005). القاموس المحيط (ط8). مؤسسة الرسالة.
- ابن بطال، علي. (2003). شرح صحيح البخاري (ط2). مكتبة الرشد.
- ابن حنبل، أحمد. (د ت). مسند الإمام أحمد. مؤسسة قرطبة.
- ابن عاشور، الطاهر. (د ت). التحرير والتنوير. الدار التونسية للنشر.
- ابن كثير، إسماعيل. (2000). تفسير القرآن العظيم (ط1). مكتبة قرطبة ومكتبة أولاد الشيخ للتراث.
- ابن ماجة، محمد. (د ت). سنن ابن ماجة. دار إحياء الكتب العربية.
- ابن منظور، محمد. (1414). لسان العرب (ط3). دار صادر.
- إدريس، أكرم. (2023). الحماية الدولية للبيئة في أوقات النزاعات المسلحة ]أطروحة دكتوراه، جامعة محمد الخامس، كلية الحقوق- سلا[ على الرابط التالي: الحماية الدولية للبيئة في أوقات النزاعات المسلحة | مركز الجزيرة للدراسات
- إسلام، سلمى. (2016). الجرائم الماسة بالبيئة في التشريع الجزائري ]رسالة ماستر، جامعة محمد خيضر، كلية الحقوق والعلوم السياسية[ على الرابط التالي: مستودع جامعة بسكرة: الجرائم الماسة بالبيئة في التشريع الجزائري (univ-biskra.dz)
- الأعرج، طلعت. (1994). التلوث الهوائي والبيئة. سلسلة العلم والحياة، الهيئة المصرية للكتاب.
- الألفي، عادل. (2011). الحماية الجنائية للبيئة. دار الجامعة الجديدة.
- البخاري، محمد. (1987). صحيح البخاري (ط3). دار ابن كثير.
- البخاري، محمد. (1989). الأدب المفرد (ط3). دار البشائر الإسلامية.
- البيئة، قانون. (1995). المادة (2/3) رقم (26) على الرابط التاي: قانون رقم (26) لسنة 1995م بشأن حماية البيئة. (yemen-nic.info)
- المرفدي، صالح. (2024، يوليو 27). جرائم التلوث البحري في اليمن.. ”دراسة تحليلية”.
القضائية. : https://alqadaeya-ye.net/?p=3378
- بشير وعلاء سبيطة. (2013). حماية البيئة والتراث الثقافي في القانون الدولي (ط1). المركز القومي للإصدارات القانونية.
- حسني، محمود. (1982). شرح قانون العقوبات- القسم العام (ط5). دار النهضة العربية.
- حسني، نجيب. (1984). شرح قانون العقوبات اللبناني" القسم العام". دار النهضة العربية.
- الحلو، ماجد. (1995) قانون حماية البيئة في ضوء الشريعة (ط1). دار المطبوعات الجامعية.
- حمشة، نور الدين. (2006). الحماية الجنائية للبيئة دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي ]رسالة ماجستير، جامعة الحاج لخضر، كلية العلوم الاجتماعية والعلوم الإسلامية[ على الرابط التالي: تحميل كتاب الحماية الجنائية للبيئة دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي ل نور الدين حمشة pdf (ketabpedia.com)
- الحموي، الفيومي. (د ت). المصباح المنير في غريب الشرح الكبير. المكتبة العلمية.
- خلف، مازن. (2014). الأحكام القانونية الخاصة في مجال التلوث البيئي، المجلد 16(العدد2) ص 229. المقدمة (iasj.net)
- خلفي، عبد الرحمن. (2014). أبحاث معاصرة في القانون الجنائي المقارن. دار الخلدونية للنشر والتوزيع.
- خليل، خالد. (1999). قانون حماية البيئة في الأردن. د ن.
- الخمليشي، أحمد. (1998). شرح القانون الجنائي "القسم العام" (ط2). دار المعرفة للنشر والتوزيع.
- الرازي، محمد. (1999) مختار الصحاح (ط5). المكتبة العصرية.
- السجستاني، أبو داود. (د ت). سنن أبي داود. المكتبة العصرية.
- السجستاني، أبو داود. (د ت). سنن أبي داود. دار الكتاب العربي.
- السراج، عبود. (2007). شرح قانون العقوبات العام. منشورات جامعة دمشق.
- السرور، أحمد. (1998). الوسيط في قانون العقوبات" القسم العام". دار النهضة العربية.
- سعد، أحمد. (1994). استقراء لقواعد المسؤولية المدنية ِفي منازعات التلوث البيئي (ط1). دار النهضة العربية.
- صالح، إبراهيم. (1980). المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية. دار المعارف.
- عبد القوي، محمد. (2002). الحماية الجنائية للبيئة الهوائية. دار النسر الذهبي للطباعة.
- العلمي، عبد الواحد. (2015). شرح القانون الجنائي المغربي (ط6). مطبعة النجاح.
- فرقاق، معمر. (د ت). المسؤولية الجزائية عن الجريمة البيئية. مجلة الدراسات القانونية المقارنة، المجلد 1 (العدد1)، ص174. تحميل المقال على الرابط التالي: https://www.asjp.cerist.dz/en/article/6771
- القرطبي، محمد. (1964). الجامع لأحكام القرآن (ط2). دار الكتب المصرية.
- القصير، فرج. (2006). القانون الجنائي العام. مركز النشر الجامعي.
- قعدان، عبد الكريم. (2016). الحياة الخضراء: التلوث (ط1). مكتبة العبيكان للنشر.
- الكبيسي، عبد العزيز. (د ت). حماية البيئة في ضوء الكتاب والسنة النبوية المطهرة، شبكة الألوكة، ص 23. على الرابط التالي: حماية البيئة في ضوء السنة النبوية المطهرة (WORD) (alukah.net)
- لحمر، نجوى. (2012). الحماية الجنائية للبيئة ] رسالة ماجستير، جامعة منتوري، كلية الحقوق [. على الرابط التالي: مذكرة ماجستير : الحماية الجنائية للبيئة PDF (elmizaine.com)
- مجاجي، منصور. (د ت). المدلول العلمي والمفهوم القانوني للتلوث البيئي. مجلة الفكر، العدد الخامس، ص109. المدلول العلمي والمفهوم القانوني للتلوث البيئي | ASJP (cerist.dz)
- مراد، لطالي. (2015). الركن المادي للجريمة البيئية وإشكالات تطبيقه في القانون الجزائري ]رسالة ماجستير، جامعة محمد الأمين، كلية الحقوق والعلوم السياسية[ على الرابط التالي: https://www.azdroit.com/2018/08/pdf_73.html
- مرسي، محمد. (1999). الإسلام والبيئة (ط1). أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية.
- المياه، قانون. (2002). المادة (2/22) رقم (33) على الرابط التالي: قانون رقم (41) لسنة 2006م بتعديل بعض المواد القانون رقم (33) لسنة 2002م بشأن المياه (yemen-nic.info)
- النيسابوري، مسلم. (د ت). صحيح مسلم. دار إحياء التراث العربي.
- الهريش، فرج. (1998). جرائم تلوث البيئة. المؤسسة الفنية للطباعة والنشر.
- هلال، أشرف. (2005). جرائم البيئة بين النظرية والتطبيق. مكتبة الآداب.
- يونس، عمر. (2003). الحماية الجنائية للثروة النفطية (ط1). دار الفكر الجامعي.
يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.