بدأت يوم الأربعاء الماضي 16 أكتوبر الجاري بجامعة الدول العربية جلسات الاجتماع الخاص بوضع الاستراتيجية العربية لإدماج كفايات التربية الإعلامية والمعلوماتية في التعليم العام العربي والجامعات العربية بغياب جميع ممثلي وزارات التربية والتعليم العالي في جميع الدول العربية، وغياب المؤسسة العربية المعنية بوضع استراتيجيات التعليم العربي "المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم الألكسو" وغياب ممثلي المجالس العليا لتخطيط التعليم وغياب أهم خبراء التربية الإعلامية في الوطن العربي.
وقد يوحي هذا الاستبعاد للخبراء ومؤسسات التعليم العام والتعليم العالي أن الغرض من هذه الاستراتيجية هو تفريغ التربية الإعلامية من جوهرها النقدي، وتحويلها من أداة تحرير وصناعة للوعي إلى أداة تحكم وسيطرة لإعادة انتاج الهيمنة واحتكار القوة الرمزية وتوجيه الخطاب الإعلامي، وإذا استعبدنا هذه الفرضية فسنجد أنفسنا أمام فرضية أخرى تتعلق بعدم استيعاب القائمين على مشروع الاستراتيجية لماهية التربية الإعلامية وفلسفتها التربوية والمبادئ والمفاهيم التي تأسست عليها وسيرورتها التاريخية، وما يترتب على ذلك من الخلط الشائع في العالم العربي بين التربية الإعلامية والمصطلحات المتشابهة والمتداخلة معها في الحقلين التربوي والإعلامي.
ولكاتب هذه السطور دراسة علمية تتبعت هذه الإشكالية في الوسط الإعلامي والأكاديمي العربي، وحللت الضبابية المعرفية والارباك النظري في التمييز بين التربية الإعلامية والإعلام التربوي، وبين الإعلام التعليمي وتعليم الإعلام، وبين التربية على الإعلام والتربية بالإعلام. و أوضحت الدراسة أن التربية الإعلامية ليست نسخة مطورةً من الإعلام التربوي، ولا تفريعاً منه، ولا بديلاً عنه، كما أنها ليست مصطلحاً مرادفاً للإعلام المدرسي أو التعليمي، ولكنها تربيةٌ جديدة فرضتها التطورات الإعلامية؛ فهي تربية تحصين وتحرير وتمكين: تربية تحصين من التأثيرات الضارة للبيئة الإعلامية والرقيمة، وتحرير للوعي بتنمية التفكير الناقد والقدرات التحليلية، وتمكين للمتعلم من تحقيق الاستقلالية الذاتية و التعلم المستمر من خلال التعامل المستمر مع مصادر المعلومات المتدفقة باستمرار، وتأهيل المتعلمين للحياة الاجتماعية والسياسية في مجتمعات ديمقراطية تسودها قيم التعايش وحقوق الإنسان. وبينت الدراسة أن التربية الإعلامية ليست تعليماً إعلامياً محضاً، فهي قبل ذلك منهجية تربوية اجتماعية، لتنمية التفكير النقدي وتحصين الطلبة، وتنمية مهارات التعليم الذاتي والمهارات التواصلية للتعبير عن الذات، وإعداد الطلبة لمواجهة المستجدات العصرية والمشاركة الاجتماعية الفاعلة في عصر الإعلام وتطوراته المتجددة التي تحاصر حياتنا(1).
وإذا فسّرنا ما دأبت عليه جامعة الدول العربية في السنوات الأخيرة من إقحام التربية الإعلامية والمعلوماتية ضمن أجندة وزراء الإعلام العرب باستبعاد نظرية المؤامرة وقصدية تفريغ التربية الإعلامية من جوهرها النقدي، يمكن أن نجد تبرير هذا التخبط العربي في وقوع القائمين على هذا المشروع في فخ الخلط بين مفهومي التربية الإعلامية والإعلام التربوي؛ لأن الإعلام التربوي بصفته إعلامًا تخصصيًا يمكن أن يندرج ضمن اختصاصات مجلس وزراء الإعلام العرب، ويمكن أن نتقبل تولي فريق إعلامي تابع لمجلس وزراء الإعلام العرب لصياغة استراتيجية خاصة بالإعلام التربوي بحضور خبراء تربويين، بشرط ألا تهدف هذه الاستراتيجية إلى إدماج الإعلام التربوي في المدارس أو الجامعات . أما التربية الإعلامية فهي منهج تربوي لبناء التفكير الناقد وتعزيز التعليم الذاتي والمشاركة الاجتماعية والديمقراطية والتربية على المواطنة الرقمية في البيئة الإعلامية والرقمية الحديثة، وهي من صميم اختصاصات وزارات التربية والتعليم ووزارات التعليم العالي والمجالس العليا لتخطيط التعليم. ويمكن أن نجد قرائن وجود هذا الخلط بين التربية الإعلامية والإعلام التربوي في البلاغ الصحفي الذي عممته جامعة الدول العربية على وكالات الأنباء العربية، الذي كان يشير تارةً إلى إدماج التربية الإعلامية في المناهج، وتارة يتحدث عن إدماج مادة الإعلام التربوي، والدليل الأكبر على هذا الخلط استخدام المنصات الإعلامية التابعة لجامعة الدول العربية مصطلح الإعلام التربوي(2)، وجاء في بعض الأخبار القديمة التي نشرها موقع جامعة الدول العربية حول استراتيجية التربية الإعلامية مصطلح الإعلام التربوي بين قوسين بعد مصطلح التربية الإعلامية مما يؤكد أن كاتب الخبر يتعامل مع التربية الإعلامية بصفتها تسمية جديدة للإعلام التربوي .
والجدير بالذكر أن المجلس الأوربي لوزراء التربية بدأ في عام 1989م بوضع الاستراتيجية الأوربية للتربية الإعلامية و أكدت هذه الرؤية الأوربية "أن التربية الإعلامية يجب أن تؤدي دورًا ديمقراطيًا تحريريًا، وأن تشجع المتعلمين وتؤهلهم لممارسة دورهم كمواطنين في مجتمعات ديمقراطية، كما يجب عليها أن تساعد على تشكيل وعي سياسي ديمقراطي لدى الناشئة والشباب، كما يترتب عليها أيضا أن تكسب المتعلمين قدرة على تحقيق الاستقلال الذاتي والبرهنة على امتلاكهم للروح النقدية في مواجهة المضامين الإعلامية الخفية المستبطنة في مختلف النصوص والرسائل الإعلامية لمختلف وسائل الإعلام"(3). ويتابع المجلس الأوربي بانتظام تطوير الرؤية الأوربية للتربية الإعلامية والمعلوماتية في معظم جلساته الدورية.
ومن المؤسف أن جامعة الدول العربية بعد أن تأخرت خمسة وثلاثين عامًا وبدأت مؤخرًا تتحدث عن التربية الإعلامية. قامت بتكليف الذئب بوضع استراتيجية لحماية الغنم؛ فمجلس وزراء الإعلام العرب ليس فقط جهة غير مخولة بوضع الاستراتيجيات التربوية لوزرات التربية أو التعليم العالي، ولكن يمكن أن يعد جهة مستهدفة بالتربية الإعلامية، لأن التربية الإعلامية في جانبها الحقوقي هي حق من حقوق المواطنين لحمايتهم من تأثير وسائل الإعلام، والتربية الإعلامية معنية بإيجاد وعي ناقد لتحرير المتلقي العربي من سطوة الإعلام الرسمي والخاص، ولا تؤمن التربية الإعلامية بوجود إعلام حر ومستقل، لأن كل مؤسسة إعلامية تهدف إلى النفوذ أو الربح أو التأثير وملكية وسائل الإعلام الحكومية والمستقلة تضع بصماتها الظاهرة والخفية في الرسائل الإعلامية، ولا يعني ذلك أن التربية الإعلامية تتخذ نهجًا معاديًا لوسائل الإعلام. أو أن وظيفتها وظيفة هجومية بالضرورة كما قد يتبادر إلى أذهان بعضهم.
وفي ضوء ما سبق يمكن أن نوجز اعتراضنا على تولي وزارات الإعلام صياغة استراتيجية التربية الإعلامية فيما يأتي:
1- التربية الإعلامية رهان ديمقراطي للحفاظ على حرية التعبير وحرية الإعلام نفسه بعيدًا عن أساليب مؤسسات القمع ومصادرة الحريات. وقد أثبتت وزارات الإعلام العربية أن وجودها بحد ذاته يعد معيقا للتحول الديمقراطي، وأن طبيعة دورها السلطوي يجعل منها مؤسسات للرقابة الحكومية على الإعلام، ومؤسسات ضبطية لتقييد حرية التعبير والحيلولة دون قيام الإعلام بوظائفه الحرة بوصفه سلطة رابعة. وتتناقض هذه الطبيعة الوظيفية لوزارات الإعلام مع جوهر فلسفة التربية الإعلامية في الحفاظ على حرية التعبير والمسؤولية الاجتماعية في وقت واحد بالاعتماد على تنمية استقلالية المتلقي والتفكير الناقد.
2- التربية الإعلامية رهان تربوي لتحرير الطلبة من سطوة تأثير وسائل الإعلام والإعلانات التجارية، وإعادة الاعتبار لدور المدرسة من خلال تنمية ملكات التفكير الناقد، والقدرات التحليلية، وتحرير عقول المتلقين للرسائل الإعلامية من جميع التأثرات الضارة. وفي المقابل فإن وسائل الإعلام مقيدة بشروط تفرضها طبيعة ملكية وسائل الإعلام، وحاجة وسائل الإعلام إلى الإعلانات التجارية أو الدعم من مراكز النفوذ من أجل الاستمرارية والبقاء. وهنا تفترق الطرق بين وسائل الإعلام والتربية الإعلامية. ولا يمكن استثناء الإعلام الرسمي من هذه الطبيعة التوجيهية ولا سيما في الدول العربية التي يمارس فيها الإعلام دورًا توجيهيًا يروج لأجندة الحكومات والأنظمة السياسية الحاكمة.
3- التربية الإعلامية تخصص تربوي للتربية على التعامل مع الإعلام و ليست تخصصًا إعلاميًا، فقد نشأت التربية الإعلامية لتكون منهجا تربويا ضمن العلوم التربوية على أيدي فلاسفة تربويين، وأشهرهم الفيلسوف التربوي البرازيلي باولو فريري الذي طالب بتعليم جديد يعمل على إعداد المتعلم للتعامل مع البيئة الإعلامية الحديثة، وتنمية التفكير الناقد والقدرات التحليلية، وفي ضوء تنظيرات فريري قام الخبير التربوي البريطاني لين ماسترمان بصياغة مبادئ التربية الإعلامية الثمانية عشر، وفي السياق نفسه قام الخبير التربوي الكندي باري دنكان - الذي حصل على أعلى جائزة من المجلس الكندي لمعلمي اللغة الإنجليزية والفنون اللغوية- بتأسيس أول جمعية للتربية الإعلامية في كندا عام 1978م، وهو واضع الأسس التربوية للتربية الإعلامية. ولا يعني ذلك أن التربية الإعلامية لا تتداخل مع العلوم الإعلامية، ولاسيما ما يتعلق بالنقد الإعلامي والإعلام والمجتمع، ولا يعني عدم حاجة الإعلاميين للتربية الإعلامية أو عدم حاجة التربية الإعلامية للأكاديميين الإعلامين كما سنبين ذلك لاحقًا. وقد يرى بعضهم أن التربية الإعلامية من التخصصات البينية المشتركة، وهذه وجهة نظرة معتبرة، مع التأكيد على أن هوية الحقل الدراسي للأسماء المنعوتة تتحدد في اللغة العربية بالكلمة الأولى-الاسم المنعوت وليس النعت- فالنعت تابع، والمنعوت متبوع وهذه بدهية لغوية، وعلى ذلك فإن التربية الإعلامية هي تربية أي نمط من أنماط التربية المختلفة كالتربية السياسية، والتربية المدنية، والتربية الصحية، التي تستفيد من التخصصات الأخرى، وتحافظ على خصوصيتها بوصفها مجالا تعليميا مستقلا.
4- إن وزارات الإعلام في جميع القوانين واللوائح التنظيمية في الدول العربية ليست مخولة بوضع استراتيجيات تربوية للمؤسسات التعليمية في التعليم العام والتعليم العالي، بل إنها لست مخولة بالتدخل في مناهج كليات الإعلام ومؤسسات التأهيل الإعلامي التي لها خصوصيتها وحرياتها الأكاديمية التي لا يجوز انتهاكها. وإذا كان مجلس وزراء الإعلام العرب يريد من هذه الاستراتيجية تحديد سياسيات للتوعية الإعلامية في بعض مواضيع التربية الإعلامية كتنمية الوعي بالتعامل مع الأخبار الكاذبة أو خطاب الكراهية؛ فإن بمقدوره التأكيد على هذه الأدوار من خلال تفعيل مواثيق الشرف الإعلامية، وتبني استراتيجية للخطاب الإعلامي لا استراتيجية للتربية الإعلامية.
ولا تعني جميع هذه المبررات عدم إمكانية مساهمة مؤسسات التأهيل الإعلامي في رفد التربية الإعلامية بخبرات الأكاديميين الإعلاميين الذين يؤمنون بالمسؤولية الاجتماعية والإنسانية للإعلام، ويشاركون في اقتراح آليات تحليل وتفكيك الخطاب، بمشاركة علماء اجتماع التربية وعلماء اجتماع الإعلام، وبعض أخصائي الصناعة الإعلامية. لكن الموجهات الفلسفية والاستراتيجية يجب أن تكون تربوية خالصة تنسجم مع تطلعات الاستراتيجيات الوطنية للتربية والتعليم واستراتيجيات مشاريع تطوير وإصلاح التعليم العام العربي والتعليم العالي.
ومن بديهيات وضع أي استراتيجية للتربية والتعليم أن يكون لدى واضع الاستراتيجية سلطة تنفيذية في تطبيق هذه الاستراتيجية، وخلفية كبيرة بالأدب النظري العالمي لموضوع الاستراتيجية، ودراسة عميقة للبيئة الداخلية والخارجية المؤثرة على موضوع استراتيجيته، وإدراك واعي بفلسفة التربية العربية، والأطر المرجعية لإصلاح وتطوير التعليم العربي الصادرة عن المنظمة العربية للتربية ومجالس وزراء التربية العرب ووزراء التعليم العالي والمجالس العليا لتخطيط التعليم، وخبراء البنك الدولي وتقارير التنمية الإنسانية، الخ.
وقد سبق لي في أطروحتي للدكتوراه التي فاز مشروعها بجائزة دولية لتمويل البحث العلمي القيام ببناء إستراتيجية مقترحة للتغلب على معوقات إدماج التربية الإعلامية في التعليم العام بالدول العربية. وفي سبيل الوصول إلى هذه الإستراتيجية استقرأت الدراسة الأدب النظري العالمي للتربية الإعلامية وأساسياتها ومصطلحاتها وأسسها النظرية وصيرورتها التاريخية في التجارب الدولية والعالم العربي مع تقديم قراءة نقدية لالتباسات التسمية والترجمة في الدارسات العربية وجدل التعريفات في الأدب الانجليزي.
واستعرضت الدراسة واقع التعليم العام العربي وتحدياته ومعوقات إصلاحه وتطويره، وتطرقت لتعرض الطلبة العرب لوسائل الإعلام، وواقع المشهد الإعلامي العربي؛ لبيان المسوغات والأسباب الموجبة لإدماج التربية الإعلامية في التعليم العام العربي، وقدّمت مقاربة نظرية جديدة لتأطير التربية الإعلامية في ضوء تشابكها مع سبع نظريات هي: نظرية الأساس الأخلاقي ونظرية التقدير الجمالي ونظرية الحتمية التكنولوجية ونظرية البناء الاجتماعي النقدية ونظرية التفاعلات الرمزية والدراسات الثقافية والنظرية المعرفية ونظرية شبكة الفواعل.
وباستخدام المقابلات المعمّقة والاستبيان شخصت الدراسة الميدانية واقع التربية الإعلامية في التعليم العام العربي في سبع دول عربية" الأردن وتونس والجزائر ولبنان ومصر والمغرب واليمن" واستكشفت المعوقات التي تحول دون إدماج التربية الإعلامية في التعليم العام العربي في البيئتين الداخلية والخارجية بعد صياغة الاستبيان وفقاً لأداة جديدة في التحليل البيئي التربوي الشامل" PESAS " قام الباحث بتركيبها لتجمع بين أدوات التحليل الخاصة بالبيئتين الداخلية والخارجية مع استيعاب خصوصية المجال التربوي.
ومن مخرجات النظرية و الدراسة الميدانية في مرحلتيها الأولى والثانية تم تصميم الإستراتيجية المقترحة للتغلب على معوقات إدماج التربية الإعلامية في التعليم العام بالدول العربية بعد تحديد المنطلقات الفلسفية والمبادئ التربوية للتربية الإعلامية العربية في ضوء الأطر المرجعية الموجهة لإصلاح التعليم العام العربي والتوجهات التربوية الحديثة، وتم بناء الإستراتيجية بعد تحديد الموقف الإستراتيجي لبيئة الإدماج في ضوء إطار تكاملي مقترح لتوظيف نظريات مراكز الفكر والرأي ونظريات منظمات المناصرة في صناعة السياسات العامة.
ومن نتائج دراستي التي قد يبدو ظاهريًا أنها ترجح وجهة نظر البعض بتولي الجهات الإعلامية مسؤولية التربية الإعلامية في الدول العربية ملاحظة تدني وعي التربويين العرب بماهية واهمية التربية الإعلامية مقارنة بالإعلاميين، فقد أظهرت النتائج وجود فروق ذات دلالة إحصائية في تقدير تعاظم تأثير الإعلام والفضاء الرقمي لصالح الإعلاميين، وتبين للباحث بواسطة التحليل الكيفي، و بعد زياراته للمنظمات الإقليمية المعنية بالتربية والتعليم والمنظمات المعنية بالإعلام ومقابلاته مع الأكاديميين الإعلاميين والتربويين في كليات ومؤسسات التأهيل الإعلامي والتربوي في الجامعات العربية؛ أن اهتمامات الاكاديميين الإعلاميين وتقديرهم لأهمية التربية الإعلامية أكثر من اهتمامات التربويين. ومع كل ذلك فإن ضعف وعي التربويين والمؤسسات التعليمية بالتربية الإعلامية لا يبرر تهميش دور المؤسسات التربوية في النقاش العام حول استراتيجيات نشر التربية الإعلامية، ولا يعني أن تتبنى المؤسسات الإعلامية استراتيجيات التربية الإعلامية؛ لأن ثمة تفسيرات كثيرة لضعف إحساس التربويين بأهمية التربية الإعلامية و منها شكوك الكثير من التربويين حول أهداف وغايات التربية الإعلامية، وقد صرح لي بعضهم عن مخاوفهم من تحويل التربية الإعلامية إلى تعليم إعلامي يؤدي إلى زيادة انهماك الطلبة في البيئة الإعلامية والرقمية، بدلًا من تنمية التفكير الناقد، ولا سيما أن الكثير من برامج التربية الإعلامية في المجتمع المدني تتبناها شركات إعلام عالمية أوربية عابرة للقارات، أو أن تتحول التربية الإعلامية إلى وسيلة ضبط وسيطرة بيد النظام السياسي للتوجيه الإعلامي، ويضاف إلى ذلك قناعة التربويين أن المؤسسات التعليمية ملزمة قانونيناً ودستورياً بواجبات ومسؤوليات تفرض عليها الالتزام بإجراءات محددة عند إضافة أي منهج جديد، ولهذا فإن إضافة أي محتوى تربوي يجب أن يأتي من داخل المنظومة التربوية وفي ضوء فلسفة المجتمع التربوية.
وهذه المخاوف من وجهة نظري ترجح أهمية تعزيز الدور التربوي في إستراتيجيات نشر التربية الإعلامية مع معالجة مخاوف التربويين من بعض محاولات التوظيف السلبي للتربية الإعلامية، بإجراءات تطمينية تهدف إلى تشجيع التربويين على الانخراط في النقاش العمومي حول الحاجة إلى التربية الإعلامية وماهيتها وأسسها النظرية وتوضيح كيفية توظيف التربية الإعلامية لتحقيق الأهداف التربوية. وقناعتي أن الوعي الصحيح بقيم التربية الإعلامية ومبادئها وأسسها كفيل بتبديد الكثير من المخاوف المشروعة.
والواقع إن إحجام التربويين عن خوض النقاش العام حول أهمية التربية الإعلامية وحاجتنا إليها لم يؤدي فقط إلى تصدر الإعلاميين لتبني مشروع التربية الإعلامية العربية، ولكنه أدى إلى الكثير من الإشكاليات الميدانية التي ظهرت في بعض الدول العربية التي شهدت بعض تجارب إدماج التربية الإعلامية في التعليم العام والجامعي. فقد تبادر إلى أذهان خريجي كليات ومعاهد تأهيل الإعلاميين في الأردن والعراق أن إدماج التربية الإعلامية في المدراس سيفتح آفاق توظيف جديدة للإعلاميين (4)، وبدأت الاحتجاجات والمطالبات بإلزام وزارة التربية بتوظيف الإعلاميين لتدريس التربية الإعلامية، ويعكس ذلك غياب وعي الإعلامين بالمداخل التربوية لإدماج التربية الإعلامية التي تتفق مع فلسفة التربية الإعلامية. فالتربية الإعلامية وإن كانت مجالًا تعليما جديداً له استقلاليته، إلا أن إدماجها في التعليم العام يتطلب الإدماج التكاملي في جميع مواد التعليم، وقد توصلت دراستي لمعوقات إدماج التربية الإعلامية في الدول العربية إلى مبررات كثيرة لترجيح خيار الإدماج التكاملي ومنها تصدر معوقي" ضعف البنية التحتية التقنية بمدارس التعليم العام "و"ضعف قناعة الجهات الحكومية الفوقية بأهمية توفير موازنات خاصة للإدماج" في فئة المعوقات الاقتصادية والتقنية على المعوقات الأخرى. وهذا التصدر يُرجح خيار إدماج مصفوفة كفايات التربية الإعلامية في جميع المواد المتصلة وذات الصلة، وفي مستويات الحد الأدنى من البنية التقنية لكون هذا الخيار هو الخيار الأسهل والأقل تكلفة فضلًا عن استناد هذا الخيار على نظريات وحدة المعرفة وتكاملها، والنظرة البيداغوجية الجديدة للتربية الإعلامية كبيداغوجية شاملة للتعليم الشامل في القرن الواحد والعشرين، ويقتصر هذا الخيار على تدريب المدرسين الموجودين لتدريس مضافين التربية الإعلامية في موادهم الأصلية، وهو الخيار الأنسب للموقف التعليمي التعلمي، فمن الصعب أن يقوم المدرس بتدريس جزئية ويترك جزئية أخرى لمدرس آخر، فضلًا عن كون أهلية الإعلاميين في المجال الإعلامي لا تعني أهليتهم للمجال التعليمي، والتربية الإعلامية ليست تعليمًا إعلاميًا بقدر ما هي تربية للتفكير الناقد. ومما يغيب عن وعي الإعلاميين أن المؤسسات التربوية ملزمة بتوظيف مؤهلين تأهيلًا تربويًا في طرق التدريس وإدارة الصف والتعامل مع الأطفال وفلسفة التربية وأصولها وغير ذلك. وأي استراتيجية لنشر التربية الإعلامية يجب أن تكون مبنية على دراسة جميع هذه الأبعاد والتحديات والتعقيدات.
وفي خاتمة هذه التناولة التحليلية لإعلان مجلس الإعلام العربي تدشين مشروع بناء الاستراتيجية العربية للتربية الإعلامية لا أود أن يكون هذا النقد محبطًا للمتحمسين لهذا المشروع، ولكني أريد لهذا المشروع أن يسير في مساره الصحيح بدلًا من الدخول في متاهات لا علاقة له بها ولا لسلطة للقائمين على هذا المشروع لتنفيذ استراتيجية التربية الإعلامية في ميادينها. وفي ضوء ما سبق أقترح ما يلي:
- أن تتجنب استراتيجية التربية الإعلامية الصادرة عن مجلس وزراء الإعلام العرب التنظير للمجال التربوي والتخطيط لإدماج التربية الإعلامية في مناهج التعليم العام والتعليم الجامعي.
- أن تركز استراتيجية مجلس وزراء الإعلام على الترويج لأهمية التربية الإعلامية في وسائل الإعلام العربية، وتخصيص برامج متنوعة لنشر مفاهيم ومهارات التربية الإعلامية ضمن استراتيجية للخطاب الإعلامي العربي لا للتربية الإعلامية العربية.
- أن يتولى خبراء التربية الإعلامية العرب تأسيس "جماعة القضية" التي تعمل على بلورة تحالف عربي لمناصرة التربية الإعلامية في التعليم العام والتعليم الجامعي والضغط على مجلس وزراء التربية العرب و مؤتمرات الوزراء المسؤولين عن التعليم العالي والبحث العلمي للقيام بواجباتهم في تبني استراتيجية عربية للتربية الإعلامية في التعليم العام والتعليم العالي، والترويج الناجح لقضية إدماج التربية الإعلامية بالتعليم العام لتحويلها إلى قضية رأي عام، و إدراج قضية إدماج التربية الإعلامية بالتعليم العام العربي في جدول أعمال الحكومات العربية.
- تشكيل إطار علمي مفتوح لجميع الباحثين العرب في مجال التربية الإعلامية والمعلوماتية يضم طلبة وخريجي مرحلتي الماجستير والدكتوراه في هذا المجال وأن يضع هذا الإطار من ضمن أهدافه بناء مصفوفة المدى والتتابع لكفايات التربية الإعلامية لدمجها في المناهج والبرامج الدراسية وتوجيه الأبحاث المستقبلية لخدمة نشر مفاهيم ومهارات التربية الإعلامية وتطوير برامجها.
- بناء ميثاق شرف عربي للتربية الإعلامية العربية لحمايتها من التوظيف السياسي الذي يفرغها من دورها الحيوي في إعداد الأجيال للحياة في مجتمعات ديمقراطية حرة والمشاركة السياسية والاجتماعية الواعية والمسؤولة، والحيلولة دون تحويلها إلى أداة للتقوقع حول الذات وتشويه الآخر.
الهوامش:
1- مجيب غلاب، علاقة التربية الإعلامية بالمصطلحات المتداخلة معها في الحقلين التربوي والإعلامي: ضبط الإطار المفاهيمي، المجلة الدولية للدراسات التربوية والنفسية. ع. 3، نوفمبر 2018، ص ص. 289-300
2- اقرأ الخبر في موقع جامعة الدول العربيةعلى الفيسبوك:
https://www.facebook.com/share/p/3gtCsrLLukqAPHxE/
و على الموقع الرسمي لجامعة الدول العربية
http://www.leagueofarabstates.net/ar/news/Pages/NewsDetails.aspx?
3- De Landsheere, Gilbert. "The Information Society and Education: Synthesis of the National Reports." (1989): https://www.learntechlib.org/p/143464
يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.