الذين لم تشبعهم الحروب التي دمرت البلاد خلال العقود الماضية لا زالوا يطالبون بحروب أشد فتكا مما نالنا. تبرز هنا وهناك حاجة ملحة للمزيد من الحروب، لا تأتي من أناس ذاقوا مرارة الحرب وشهدوا كل مآسيها وتداعياتها على بنية البلاد التحتية ومرافقها، وتشريد النساء والأطفال من بيوتهم، ونزوح هائل للسكان من منطقة إلى أخرى، ومن سهل إلى جبل ومن قرى إلى حضر. بعضهم ركب الموج فابتلعه، وبعضهم هرب من حرب بلاده التي لا يعلم سببا لانتعاشها الدائم لتأكله حرب غيرها في أصقاع أخرى من الكون. ومن المؤسف أن المتعطشين لمزيد من الحروب هم الذين كانت السلطة والمال والسلاح بأيديهم، بعد كثير من العنتريات التي سقطت تباعا كالقلاع في مشهد درامي رخيص.
سفير اليمن لدى واشنطن، محمد الحضرمي، يريد "حربًا تنهي كل الحروب" (1). كم خضتم من حروب؟ ألم تكتفوا بها؟ بدءا بحروب الشطرين إلى الاغتيال العظيم في 11 أكتوبر 1977. وقد ظل بعضهم يبحث عن حرب جديدة لتعظيم الفوائد، الحضرمي ليس وحده من هؤلاء الدعاة، هناك طابور واسع.
لم يتساءلوا من ذا الذي سيخوض لهم الحرب التي ستلقف (كل الحروب) وما المقابل؟ ولكن ليس لدينا مقابل لخوض هكذا حرب، في العراق توفر المقابل والفائض نراه اليوم، وفي ليبيا تبتلع هوة الحرب اهل البلاد وسيبقى القذافي حينما تكون البلاد أمام خيارات هو أفضلها، هل تمتلكون أفضلية على غيركم؟
لم تكف الحروب عن الاشتعال، كان الطبيعي أن تنهي الوحدة كل تمظهرات الحرب وباروناتها وأدواتها، لكنها للأسف زادت من شهواتها. لماذا لم تكفوا عن طلب الحرب؟ نحتاج إلى شعار فضاض صغير ونشعل حربا لا تنتهي إلا وقد حضرنا ميدانا لحرب جديدة.
دعاة الحرب بأي وسيلة لا يريدونها أن تمسهم، ولكنهم على استعداد لإحراق كل مقدرات البلاد لتستمر الحسابات في النمو والعودة إلى الحكم ولو على طريقة جلبي العراق أو كرازاي أفغانستان. نحن لا نتعظ. ذهب الجلبي ولحقه كرازاي وعادت العراق وأفغانستان إلى المستنقع الأمريكي الصنع.
"ميناء الحديدة هو القاعدة الأساس التي يشن الحوثيون منها هجماتهم في البحر الأحمر" لذلك ينبغي تدميره، قال الحضرمي. ومحطات الكهرباء التي دمرها "كلفوت" السياسة أيضا لا نحتاجها، في كل مرة كانت السلطة هي الأهم حتى لو لم يتبق من الشعب غير قطعان من الجوعى ومزارع من الموتى.
دعونا نذكركم جميعا أن البنية التحتية أو فلنقل ما بقي منها، أو حتى خرائبها وأطلالها ليست ملكا لأحد من المتحاربين والمقتتلين، إن أحدا من هؤلاء لم يبنها من موارده الخاصة، أو حتى من موارد الدولة التي ظلت مشروعا للنهب لكل من قفز إلى القصر المشيد. كل ما بني في كل العقود المنصرمة وتم تدميره بحنكة عالية بنته في بلادنا دول أخرى مثل "الصين، والاتحاد السوفيتي، والكويت، واليابان، والبنك الدولي".
الغريب في كل ما يحدث أن كثيرا ذهبوا للتماهي مع الخطاب الإسرائيلي الذي يصف البنية التحتية اليمنية، أو ما تبقى منها بعد تدمير التحالف للجزء الأكبر منها بأنها أهدافا إرهابية للحوثي. فالأمر لم يقتصر على الحضرمي وحده بل تجاوزه إلى أناس آخرين، وتبنته وسائل إعلام كثيرة كأنه حقيقة مطلقة.
أستطيع أن أتفهم تبني بعض وسائل الإعلام الخليجية والأجنبية لهذا التوصيف، مثل صحيفة الشرق الأوسط وموقعها الإلكتروني التي قالت عن مصدر عسكري صهيوني: «في عملية جوية واسعة النطاق، الأحد، هاجمت عشرات الطائرات التابعة لسلاح الجو، من بينها طائرات مقاتلة، وطائرات تزويد بالوقود، وطائرات استطلاع، أهدافاً عسكرية للنظام الحوثي الإرهابي في منطقتَي رأس عيسى والحديدة في اليمن» (2). ولم ترفق هذا الكلام بما اعتادت في أخبار أخرى من عبارات التهكم أو التشكيك، مع أن الضحايا الذين سقطوا في الغالب هم مهندسون وعمال، وليسوا ضمن أفراد الحوثي، وحتى إن كان بينهم بعض الحوثيين فهل هذا يبرر هذا التصنيف وهذا التدمير؟
ونشر موقع سويس انفو بعنوان بارز "طائرات إسرائيلية تقصف أهدافا للحوثيين في اليمن بعد هجوم على تل أبيب" (3)، ثم كررت بالنص في المتن "قصفت طائرات إسرائيلية أهدافا عسكرية تابعة للحوثيين قرب ميناء الحديدة في اليمن"، في حين طال القصف حقيقة كهرباء الحديدة، وميناء رأس عيسى، وليس مواقع عسكرية متعارف عليها. وقالت الخليج أون لاين "انطلقت من "إسرائيل" (4)، طائرات لتنفيذ ضربات على أهداف للحوثيين"، وأشارت أنها قصفت كهرباء وميناء؛ لأن المرفقين يستخدمان لاستقبال السلاح الإيراني، إذن، كيف تمر تلك الأسلحة للحوثين وعيونكم وأصدقائكم على البحر والسماء والأرض؟
أما صحيفة الرياض السعودية فقد قالت: " شنت إسرائيل ضربات على أهداف للحوثيين في اليمن أمس الأحد بعد أن أطلقت الميليشيا صواريخ على إسرائيل خلال اليومين الماضيين..." (5)، وتبنت ما جاء في بيان الجيش الإسرائيلي كما هو: «على مدار العام الماضي، ظل الحوثيون يعملون، لمهاجمة دولة إسرائيل وزعزعة استقرار المنطقة والتأثير على حرية الملاحة العالمية»، وكأن إسرائيل دولة مسالمة تعيش على أرضها والأخرين هم من يعتدي عليها.
أما موقع الشرق تايمز الإماراتي فقد قال إن" "إسرائيل تقصف أهدافا إرهابية للحوثيين في اليمن بعد ساعات من هجوم تل أبيب" (6)، كما تناولت صحيفة الأيام البحرينية الخبر بالسياق نفسه. أما بعض المواقع المحلية فقد تسابقت على تكرار الادعاء نفسه بأن الميناء ومحطة الكهرباء التي تم استهدافها من قبل إسرائيل هي أهداف حوثية؛ ولأننا في حرب وخصومة مع الحوثيين فإن كل ما يقع تحت سيطرته لا يعنينا وبالتالي يجب تدميره. وقال يمن فيوتشر إن "إسرائيل تقصف أهدافا للحوثيين في اليمن بعد ساعات من هجوم تل أبيب"(7). وهذا التنصل لا يقتصر على طرف بعينه بل نجد إن كثيرا من وسائل الإعلام هنا وهناك تنظر إلى ما يقع تحت سيطرة الطرف الأخر بأنه هدف عسكري مشروع ينبغي تدميره، ويستوي في ذلك المطار والطائرة والميناء والفندق والطريق ومشاريع المياه والطاقة والأثار الثقافية والتاريخية والموارد المختلفة التي هي في جزء كبير منها ملك للأجيال القادمة.
نريد أن نتفق على أن الذين يخوضون الحروب، ويروجون لها إنما يسعون إلى تكون تلك البنى ضمن أدوات سلطاتهم، لكنها في نهاية المطاف ليست ملكا لهم، ولكنها ملك الشعب الذي تجري كل هذه المآسي باسمه، فهل نتوقف عن استهدافها والتحريض عليها؟
هوامش:
1. https://www.adengad.net/news/757065
2. https://aawsat.com/5065934/
3. https://www.swissinfo.ch/ara /84434034
4. https://alkhaleejonline.net/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/
5. https://www.alriyadh.com/2096898
6. https://sharqtimes.com/world/إسرائيل-تقصف-أهدافاً-إرهابية-للحوثيي/
7. https://yemenfuture.net/news/24447
يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.