الموسيقى المناطقية والهوية القومية في اليمن

تعدد ألوان الغناء في اليمن

الأحد, 15 ديسمبر / كانون الأول 2024

جان لامبير
ترجمة: د. عبد الجبار التام

عند محاولة تحديد الهوية القومية لبلد ما، سرعان ما نصطدم بصعوبات لا يمكن التغلب عليها، إذ إن تعدد الحقائق وعدم تجانسها يذيب المعالم. فهل العامل المشترك هو الجغرافيا؟ أم لون البشرة؟ أم اللغة؟ أم الدين؟ 

علينا أن ندرك أن الأمم هي في المقام الأول بناءات فكرية، ونتاج المخيلة (الجماعية) التي لا تتطابق تمامًا مع الواقع. وينطبق هذا أيضًا على أقدم الأمم وأكثرها رسوخًا (Sansot، 1988). ولكن إذا كان علينا أن نقبل هذا الافتراض، فلا ينبغي أن نيأس من الإمكانات الإبداعية لهذا التصور الخيالي: فالأمة هي ماضٍ مشترك، حقيقي أو متخيل يجعل من الممكن الحلم بالمستقبل معًا (2). ولعل الجانب الأكثر واقعية في الدولة القومية هو مدى انتشار هذا الحلم، والطريقة الملموسة للغاية التي يتجسد فيها الشعور القومي في كل فرد.

إذا كان ثمة صعوبة كبيرة في توحيد دولتين أو نظامين سياسيين، فهذا لأن الدولة لا يمكن أن تكون مجرد إضافة للمناطق، كما أنها ليست مجرد مجموعة من الأفراد. ولعل المسألة الأكثر إلحاحاً هي مسألة السلطة، وتقاسمها بالتساوي أو بشكل غير متكافئ، مما يتطلب بالضرورة تنازلات، وبالتالي تضحيات، ولكن لقبول هذه التضحيات وجعلها مقبولة، يجب أن نكون قادرين على تحقيق الحلم القومي المشترك الذي وحده يمكنه تجاوز الإخفاقات؛ لأنه وحده القادر على إعطائها معنى.

يجب تجسيد هذا التصور أيضًا، "أن يندرج في نقطة معينة على الأرض (Sansot، 1988: 136)"، ومن هذا المنظور، يعد التاريخ الطويل لاستقلال اليمن ميزة كبيرة لبناء الدولة، وحتى لو كان ذلك بشكل متقطع، فقد مارست الدول المتعاقبة سلطة انتقلت هياكلها من جيل إلى جيل. وعلى الرغم من أنها تقع على مساحات متغيرة، فإن الجميع يعرف منذ قرون، بل منذ آلاف السنين، أن ثمة جزءاً في هذه المنطقة من العالم يُسمى "جنوب الجزيرة العربية"، أو "العربية السعيدة" أو "بلاد اليمن" (التي تعني اليمين)، وأنه يتميز عن كل ما حوله، دون أي التباس ممكن.
 

خليل محمد خليل أحد مؤسسي الندوة الموسيقية العدنية.

خليل محمد خليلأحد مؤسسي الندوة الموسيقية العدنية.

2.png

محمد جمعة خان في الوسط، يحاوره محمد مرشد ناجي على يمينه(الصورة مأخوذة من ناجي، 1984).

فما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه الموسيقى في هذه المغامرة؟ بحسب آلان لوماكس: "يعد اللون الثقافي الموسيقى رابطًا مهمًا بين الفرد وثقافته، ويعيد إلى لاوعي الإنسان البالغ لاحقًا في الحياة النسيج العاطفي للعالم الذي شكل شخصيته" (Lomax: 1959: 929، مشار إليه في Baily، 1992: 3). 

وتُعد الموسيقى أسلوبًا ثقافيًا حقيقيًا في اليمن بوصفها تجسيدًا ملموسًا للشعور القومي، وبكل يقين يستطيع أي مستمع يمني تحديد إذا ما كان هذا اللحن أو ذاك يمني أم لا، على الرغم من التغييرات الجذرية في السنوات العشرين الماضية. 
إن قدرة الجمهور على التذوق والتمييز تشير بوضوح إلى استمرارية تاريخية. ولكن ينشأ هنا تساؤل للباحث عما هي معايير التميز الحقيقية: متى لا يعد الغناء يمنيًا؟ هل النص هو الأهم؟ أم قدم اللحن؟ أم أصالة الأداء؟ أم أصالة الآلات المستخدمة؟ 
هنا تتعقد الأمور، ويبرز مفهوم "التقليد"، الذي تم استكشافه بالفعل فيما يتعلق بالموسيقى اليمنية (Schuyler، 1990-91).

في بلدان أخرى، كان هناك بالفعل فرصة لإيجاد ما يمكن أن يسمى بـ "الثقافة الموسيقية المشتركة" (shared musical culture): فعلى سبيل المثال، في بيوت الشاي في شمال أفغانستان، يغني الطاجيك والأوزبك التراث الموسيقي نفسه الذي غالبًا ما تكون نصوصه الشعرية ثنائية اللغة (Slobin، 1976)؛ وقد تم تعميق اتجاه البحث نفسه ليشمل أفغانستان بأكملها، لا سيما فيما يتعلق بمدونة الغناء الكيلوالي (kiliwāli) (3) المشترك بين البشتون والطاجيك في منطقة كابول (Baily، 1992). 

ومع ذلك، لا يبدو أن هذا النموذج المثالي للثنائية اللغوية الموسيقية يمكن تعميمه في اليمن: فهذا البلد متجانس لغويًا، ولا توجد حالات اتصال عرقي حيث يمكن أن يكتسب غناء النصوص ثنائية اللغة دلالة خاصة (باستثناء بعض اللهجات ربما (4)). فما الذي تعنيه في اليمن "الثقافة الموسيقية المشتركة"؟ وكيف يمكن أن تساعد الموسيقى الأفراد الذين يشكلون مجتمعًا كبيرًا كهذا على الشعور بالتضامن دون أن يلتقوا من قبل؟

أما بيلي (Bailly, 1992: 10-11) فقد تناول بشكل خاص دور الإذاعة الوطنية، التي افتتحت في كابول في أربعينيات القرن العشرين. ولكن يبدو أن النموذج التوافقي لبلد موحد حول مؤسساته الرمزية، إذاعته، وتلفزيونه ونجومه، غير كاف، وأكثر سطحية بكثير لتفسير الواقع. وهو أيضًا مفرط في الماكياڤيلية، كما لو أن كل ما يتطلبه الأمر هو جهد سياسي واعٍ لخلق لون موسيقي قادر على تحقيق الدعم بالإجماع من جمهور غير متجانس.

وعلى الرغم من ذلك، فلم تكن الجهود قليلة في صنعاء في أوائل ثمانينيات القرن العشرين لتقديم النسخة "القابلة للعرض" من الأغنية التقليدية الصنعانية على الراديو والتلفزيون: إذ تم تحديد أداء رسمي، مرة واحدة وإلى الأبد، للقضاء على الجوانب المتغيرة لهذا التقليد الشفهي، وكان ذلك في الواقع مخالفًا تمامًا لروحه (5). كما كان هناك أيضًا طلب رسمي من وزارة الثقافة في عام 1986 لإنتاج أوبرا حول الموضوع الأسطوري لسد مأرب (Schuyler، قيد النشر)، ولم تترك هذه الجهود أي ذكرى خالدة، والجمهور التقليدي يتجاهل هذه الإنجازات التي تفتقر غالبًا إلى الجوهر والتلقائية.

لذلك، ينبغي أّلا يؤدي الطابع القومي إلى القضاء على التنوع، حتى عندما تتعارض الأذواق في الموسيقى بعضها مع بعض. وبقدر ما قد تتميز "الثقافة الموسيقية المشتركة" بالمناقشات التي تثيرها، فإنها تتميز أيضا بالطقوس المشتركة التي تشكل الجزء الأكثر وضوحًا منها. وبالتالي، ستكون هذه "الثقافة" أكثر غموضًا، إذ تتطور النزاعات والتراجعات والتسلسلات الهرمية. ويوفر ظهور التقاليد الموسيقية المناطقية في اليمن على مدى العقود القليلة الماضية الفرصة لتلمُّس أشكال هذه الديناميكية.

إن الموسيقى في طور تغير كبير كما هو الحال في عدد من مجالات الثقافة اليمنية الأخرى، سواء في الأساليب، أم في الآلات الموسيقية، أم في مكانة الموسيقار (Lambert, 1989 ; Schuyler, 1990). وتُظهر هذه الأبحاث الأخيرة على وجه الخصوص أن الموسيقى لا تخضع للتغيير فحسب، بل إنها تشارك فيه بشكل فعال: ففي حين أن بعض الألوان الموسيقية - للأسف - آخذة في الانقراض، فإن بعضها الذي ظل حتى الآن محليًا يكتسب أهمية كبيرة، في الوقت الذي تولد ألوان أخرى ببساطة. ودون أن ندعي الإحاطة بكل هذه الظواهر المعقدة هنا، تجدر الإشارة إلى أن انتشار بعض الألوان الموسيقية وولادة أخرى تزامن مع ظهور الفكرة القومية في شكلها الحديث. ولذلك من المثير للاهتمام دراسة كيف تتداخل هاتان الظاهرتان المختلفتان بطريقة مذهلة أحيانًا. ولعلنا نستطيع أن نكتسب فهماً أفضل للظواهر الموسيقية المعاصرة في أكثر حالاتها إثارة للقلق، في حين نلقي ضوءاً جديداً على المناقشات السياسية الكلاسيكية حول الحقيقة القومية.

سأتناول هنا فقط الموسيقى الحضرية (musique citadine)، التي يمكن تعريفها بشكل عام على أنها الغناء الذي يعزف فيه المغني بنفسه على العود، وقد يصاحبه أحيانًا آلات إيقاعية، ونادرًا ما تكون مصحوبة بآلات أخرى (في الجنوب، يتم استخدام آلة الكمان إلى حد كبير). وهذه الألوان هي التي تمثل معظم الموسيقى المسجلة والمستمعة اليوم، ليس فقط في المدن، ولكن أيضًا بشكل واسع في الريف حيث تتراجع كثير من الألوان الشعبية التقليدية.

الأغنية الصنعانية والأغنية اليمنية
يُعدّ الغناء الصنعاني أولاً وقبل كل شيء مدونة أهل صنعاء، العاصمة التاريخية للبلاد. وهو أيضًا موروث علماء الزيدية (السادة والقضاة) الذين هيمنوا على الحياة السياسية للبلاد منذ القرن السابع عشر الميلادي من خلال سلطة الأئمة، التي كانت موجودة أيضًا على أوقات متقطعة منذ القرن العاشر الميلادي. إنه تقليد موسيقي متواصل على مدى أربعة قرون على الأقل، ويعد أقدم مدونة للغناء الحضري في شبه الجزيرة العربية، وأيضًا الأكثر دقة. 

إن أحد أسرار ديناميكيتها هو أن نصوصها الشعرية مكتوبة بلغة أدبية متخللة بتعابير ولهجات محلية متأصلة من منطقة صنعاء (الشعر الحميني). يصاحب ذلك خصائص موسيقية خاصة جدًا تجعلها فريدة من نوعها (Lambert, 1994، لاسيما الفصل 4). فللغناء الصنعاني تأثير يتجاوز المجال الطبيعي لمستمعيه: فهو يحظى بتقدير جميع سكان اليمن الشمالي السابق، وإن كان بطريقة مختلفة قليلاً، من قبل جميع اليمنيين.

إن هناك دائماً الإجابة نفسها عند سؤال اليمنيين المعاصرين عن موسيقاهم: "أولاً هناك الغناء الصنعاني، ثم الحضرمي (لون حضرموت)، ثم اللحجي". وبعد شبه الإجماع على هذه الألوان الثلاثة الرئيسة، تأتي اختلافات حول التنويعات، التي يختلف عليها المتحدثون معنا: فبعضهم يدافع عن وجود لون عدني، وآخرون عن لون من منطقة يافع، وهكذا.

تتضح هذه الصورة إلى حد ما من خلال أشكال الأداء الموسيقي، سواء في عدن أم في صنعاء. ففي حفلات الزواج في صنعاء، في هذا الجزء الجميل جداً من الطقوس يُعزف باستعراض موسيقي (القومة qawma) (6) تكريماً للعريس، مباشرة بعد الزفة (Lambert, 1994). فالعرف الحالي هو أنه بعد القومة الصنعانية، يتم عزف مقطوعة موسيقية على اللون اللحجي بشكل منتظم. وبالمثل، عند أداء الحفلات الموسيقية التقليدية في عدن وما حولها، في تجمعات أعراس المخدرة (maḫdara,)، يعزف الموسيقيون الجنوبيون دائمًا مقطوعة من اللون الصنعاني أولاً (القومة الصنعانية)، ثم ينتقلون بعد ذلك إلى عزف ألوان أخرى أكثر تميزًا للمنطقة، مثل اللحجي والحضرمي واليافعي، إلخ.

وهكذا، في الجنوب والشمال على السواء، فإن الألوان الموسيقية التي تعزف في أكثر اللحظات جلالاً في الطقوس تقدم التمثيل النموذجي نفسه للموسيقى اليمنية بوصفه متوالية تبدأ بالصنعاني وتنتهي بالنمط الجنوبي، وهو عادةً اللحجي (7)، وبعد ذلك، ومع استمرار العرس، يستمر الجميع في عزف اللون الذي يعرفونه أكثر من غيره (8).

ومن ثم فإن هناك حد أدنى من الإجماع الوطني بشأن القيم الجمالية لماهية الموسيقى اليمنية أو ما ينبغي أن تكون عليه؛ فعند سرد الألوان الموسيقية، يشير اليمنيون إلى الأجزاء الشمالية والجنوبية السابقة من البلاد دون تمييز. والأهم من ذلك، من الشمال إلى الجنوب، أن هناك شكلاً من أشكال التأويل الذي يفسح المجال للتقاليد الموسيقية الأخرى، ومكاناً واحداً في الحالتين: إذ يكون بإمكان أهل الجنوب أن يعزفوا الأغنية الصنعانية في المرتبة الثانية، بعد الأغنية اللحجية؛ لكنهم في الواقع يضعون أولاً اللون الذي ليس الأكثر ألفة لديهم. 

هذا الإجماع أمر بالغ الأهمية؛ لأنه يمثل إطارًا ثقافيًا مشتركًا يلعب دورًا موحِّدًا لا يُستهان به، وهنا نجد شيئًا يشبه إلى حد كبير ما أطلق عليه مارك سلوبين (Mark Slobin) "الثقافة الموسيقية المشتركة".

ومع ذلك، يمكننا التساؤل عن المعاني العميقة المتعددة لهذا التتابع، وهي، أولاً: فرض نفسه وفقًا للمتطلب الجمالي الذي يجعل الاستماع الموسيقي يسبق الرقص، هذا التكامل التقني بين الأسلوبين، المعترف به في صنعاء وعدن ولحج، يشير إلى مرجعية مشتركة للقيم، على الأقل عند مستوى أولي:
يقول أحد الأدباء من عدن، يرتاب قليلاً في التقليدية: "نحن نحب الغناء الصنعاني؛ لأنه يتمتع بأجواء لطيفة تناسب جيدًا جلسات القات، وأجوائه الحميمية، أما أنواع الموسيقى في منطقتنا فهي مناسبة للرقص لا للسماع ".

وفي الوقت نفسه، تنطوي هذه المرجعية المشتركة ضمنيًا على الاعتراف بأفضلية جمالية معينة للون الصنعاني، ويضيف الشخص نفسه من عدن: "هذا النوع هو الأكثر صعوبة في الأداء بكثير".

وبموجب الجمالية التقليدية، فإن للغناء الصنعاني تفوقا روحيا معينا، وهو الموسيقى التي نسمعها (السماعية) على لون أخف مثل اللحجي، الموجه أساسًا نحو الرقص. باختصار، هذا التموضع الهرمي للونين المتناقضين يعبر عن ظهور ما يمكن أن نسميه "كلاسيكية".

وأخيرًا، فإن تفوق الغناء الصنعاني يتوافق لا محالة مع تعاقب الأقدمية، فتاريخيًّا يسبق الغناء الصنعاني اللحجي، على الأقل بوصفه "لونا" مشكَّلا من قبل. وهناك أيضًا تمثيل توافقي شائع للغاية يعيد وضع الأمور في هذا المستوى التاريخي فحسب، ويضم الجنوب: يُقال إن "الغناء ولد في كوكبان (9)، ونما في صنعاء، وازدهر في عدن". 

وعلى الرغم من البساطة الظاهرية لهذا التمثيل لشجرة عائلة الأغنية في اليمن، فإن حقيقة اللجوء إلى التاريخ لا ينبغي أن يمر مرور الكرام: إذ تم استدعاء التاريخ هنا لإضفاء الشرعية على ما يجب أن يسمى بالتسلسل الهرمي. وفي ثلاث مراحل متجانسة، تلخِّص الصيغة العمليات التاريخية التي ليست بالطبع بهذه البساطة (10). وهنا أيضًا، نلاحظ هرمية القيم الأساسية لفكرة الكلاسيكية. لذلك، من المثير للاهتمام بشكل خاص دراسة عدد من الحقائق التاريخية في ضوء هذه الاعتبارات، ورؤية كيف تبرر هذه الرؤية للأمور، أو على العكس من ذلك، تنفيها. وهذا من شأنه أن يعطينا فهمًا أفضل لكيفية استقرار التاريخ في هياكل أكثر ديمومة، الهياكل الخاصة بالذاكرة.

الغناء الصنعاني بين عدن وصنعاء
يعدّ الغناء الصنعاني أقدم وأرقى المدونات الموسيقية اليمنية. ففي هذا المجتمع المتشدد، لم يكن لهذا الفن الحميمي واقع تجاري كبير، وبشكل عام كان أعظم الموسيقيين هواة من العائلات الأرستقراطية في مدينة صنعاء، أو من المدن التاريخية المحيطة بها مثل كوكبان (11)، وفضلا عن ذلك ظل هذا الفن محصورًا دائمًا في التقليد الشفهي. ويبقى أصل تسمية "الغناء الصنعاني" لغزًا غامضًا.

إن مدونة الشعر الحُميني في منطقة صنعاء لم تُمارس إلا من نهاية القرن السادس عشر الميلادي، وإن كانت نشأته في مكان آخر (في زبيد) في القرن الرابع عشر الميلادي. ففي تلك المدة لم تكن صنعاء دائمًا هي المهيمِنة سياسيًّا. ويمكن أن يكون اصطلاح "الغناء الصنعاني" قد نشأ في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلادي، عندما كانت صنعاء هي العاصمة خلال مدة حكم الأئمة القاسميين، أو في بداية القرن العشرين الميلادي. وبالتالي، أصبح هذا الاصطلاح يشير إلى مجموعة متنوعة من الأغاني التي لم تُكتَب معظم قصائدها في صنعاء، وتنتشر ألحانها في أنحاء كبيرة من اليمن. ولهذه الأسباب، وسأقتصر هنا على الحقائق المعاصرة، والأكثر سهولة في التحقق منها؛ لأن معرفتنا بالموسيقى اليمنية قبل عام 1920 لا تزال في الأساس مجرد أساطير.
أدّى تولي يحيى حميد الدين السلطة في عام 1919، وهو إمام أكثر تطرفًا من سابقيه، إلى رحيل عدد من الموسيقيين إلى المدينة المستعمرة عدن، التي مثلت ملاذًا للحرية لهم. وهناك وَجد "الغناء الصنعاني" لأول مرة فرصة للتعبير العلني. يقول بعضهم إنها "فرصة للتطوير"، ونرى أن هذا موضوع مناسب للنقاش. إذ كان أول من ظهر: ظافر والعطاب في أوائل العشرينيات من القرن الماضي. ولسوء الحظ، ليس لدينا أي معلومة موسيقية لهذين الموسيقيين الأسطوريين، ثم ظهر المطرب الشهير محمد الماس (ت 1953)، الذي غادر كوكبان أيضًا في العشرينيات، وحظي بشهرته في عدن، إذ كان أحد أوائل من سَجَّل تجاريًا عشرات الأغاني.

وبين عامي 1938 و1940، تم تسجيل مئات من الأسطوانات في عدن، منها على الأقل مئتا عمل تمثل مدونة ما يُعرف باسم "الغناء الصنعاني". وشهد ابن محمد الماس، إبراهيم (ت 1966)، مسيرة تجارية أكبر بكثير من والده، فقد سجّل ما يقارب مائة أغنية. وعند الاستماع إلى الأب والابن، يُلاحظ تطور كبير في أشكال الأداء يلخص ما حدث مع كثيرين غيرهم. 

وقد تخلى إبراهيم عن الآلة الموسيقية التقليدية للمدينة في جنوب الجزيرة العربية، وهي آلة القنبوس ذات الأربعة الأوتار، واعتمد العود الشرقي ذا الخمسة الأوتار (12). كما تغيّر الأسلوب، لاسيما في الجوانب الآلية، ففي أغنية "لي في ربا حاجر غزيل أتلع" التي سجّلها الاثنان، يمكن ملاحظة هذا التطور بوضوح: إذ يطيل محمد الأغنية، في حين يقصرها إبراهيم (يفقد اللحن نفسه ربع طوله)؛ والعزف على العود أكثر تسطيحًا، ويفتقر إلى التضاريس والتناغم؛ والصوت أقل تعبيرية (13). وفي الكم الهائل من الأسطوانات التي سجّلها إبراهيم، هيمنت الأغاني الشعبية ذات الألحان الأسهل.

كانت أسطوانات الجرامافون تسجل في البداية من قبل شركات أجنبية مثل شركة أوديون (Odéon)، ثم شركات يمنية تزايد ظهورها مثل جعفرفون (Jafferphon) والتاج العدني (Aden Crown). وبالمقابل، كانت هذه الأسطوانات تُستمع سرًا في الشمال، إذ كان المذياع والآلات الموسيقية محظورة (Lambert, 1989). وقد هاجر كثير من الموسيقيين الآخرين من الشمال إلى الجنوب بشكل مؤقت، مثل صالح العنتري (ت 1965)، الذي ليست أصوله صنعانية، بل من زبيد. وفي المدة ما بين 1940 و1960 م، أصبح السفر إلى عدن لتعزيز الشهرة أمرًا لا بد منه بالنسبة للموسيقي الشاب. وفي نهاية المطاف، اتبعت الموسيقى التدفق التجاري الذي كان يعبر الحدود، عبر طريق تعز، على طرق وعرة (انظر Lambert, 1993).

إنّ عملية التسجيل أخرجت هذه الأعمال الموسيقية من شبه السرية، فقد كان لهذه الاسطوانات المتنوعة آثار كبيرة على الممارسة الموسيقية التقليدية، وكذلك على الناحية الجمالية. أولاً، لنتناول الآثار السلبية: كانوا يضغطون بالقوة أشكالاً قديمة، تقليديًا طويلة نسبيًا، إلى ثلاثة دقائق ونصف من أسطوانة جرامفون (14). لقد كانت فرصة للتعبير، ولكنها بداية الانحدار أيضًا. وأدت المنافسة التجارية بين الموسيقيين إلى خضوعهم لأذواق جمهور متزايد الانجذاب إلى اختصار الألحان وخفة الكلمات، وسرعة الإيقاع، وبشكل عام، إلى استعجال العصر المعاصر. 

على عكس التيار القادم من صنعاء، هناك أيضًا عدد من الموسيقيين من أصول جنوبية تملكوا الأعمال الموسيقية المسماة "صنعانية"، هذا هو حال الشيخ علي أبو بكر باشراحيل (ت 1952)؛ فهو عدني من أصول حضرمية، وكان معروفاً بأنه أستاذ في هذا النوع (15). وبالمثل، كان عوض المسلمي (ت 1975) من مدينة الشحر يغني كل من الأعمال الموسيقية الصنعانية وتلك الخاصة بساحل الجنوب.

وفي وقت أكثر حداثة، وجد عدد من الموسيقيين الجنوبيين في الشمال مكانًا مناسبًا لإبداعهم، وهذا هو حال أحمد قاسم ومحمد مرشد ناجي على وجه الخصوص، اللذين شغلا مناصب مختلفة في وزارة الثقافة والإعلام في صنعاء خلال المدة 1986-1989. وكان الثاني قد اشتُهر بتقديم غناء شخصي وأصلي لأغنية صنعانية مشهورة: "زمان الصبا". وبالمثل، فإن بعض الموسيقيين من الجنوب قد أصبحوا متحدثين باسم التراث الصنعاني في دول الخليج، فقد قام الحضرمي أبو بكر سالم بلفقيه بالتسجيل لأول مرة مع فرقة موسيقية من نحو ثلاثين موسيقيًا الأغنية التقليدية "رسولي قوم بلغ لي إشارة إلى عند المليح الحالي الزين". وفضلا عن ذلك، كان اثنان من أهل عدن، محمد عبده غانم وأيضًا مرشد ناجي، قد كتبا أهم كتابين عن تاريخ الموسيقى اليمنية (محمد عبده غانم، 1980، محمد مرشد ناجي، 1984).

لكن ماذا يمثل الغناء الصنعاني لهؤلاء الناس الذين ليست أصولهم من صنعاء؟ نلاحظ أولاً أن هذا التقليد تم استيراده إلى عدن في القرن التاسع عشر، أو أوائل القرن العشرين. ونتيجة لذلك، لم يتم تأدية هذه الألحان بالطريقة نفسها التي يؤدونها أهل صنعاء. وبدلاً من أن تكون مترابطة في شكل مجموعة متسلسلة، فإن الألحان منفصلة (بسبب نمط الأسطوانة). وقد يكون لدى الآلة أحيانًا وتر سادس إضافي يضيف طبقة صوتية ثابتة في درجة دو منخفضة. وينصب الاهتمام على الشعر بشكل أقل حدة، إلى درجة أن بعض الموسيقيين من الجيل الأصغر سنًا بدأوا في الغناء مع وضع نص الأغنية المطبوع أمامهم، وهو ما لا يمكن تصوره على الإطلاق في صنعاء، حتى يومنا هذا (16).
ولكن هذه التفاصيل التقنية، التي غالبًا ما تمر دون ملاحظة، ولاسيما خارج صنعاء، لا تحول دون استيعاب هذه المدونة الموسيقية. بمعنى آخر، يبدو أن "الغناء الصنعاني" قد تجاوز مكانته بوصفه تقليدا محليا، وفضلا عن ذلك، يقول كثير من أهل عدن بصوت عال إنه بفضل عدن استطاع هذا الفن أن ينجو ويُسجل، في الوقت الذي كاد أن يختفي من مسقط رأسه، مخنوقًا بالجهل والتطرف الديني (على سبيل المثال: عبده غانم، 1990)، لذلك يقترح بعضهم إعادة تسميته "الغناء اليمني"، وهو ما لا يتناسب مع ذوق ذوي الأصول الصنعانية (شامي، 1974).

                وعلى مستوى تحليل ثان لـ"لثقافة الموسيقية المشتركة"، نكتشف نزاعات متحمّسة (غالباً ما ترددت أصداؤها في الصحافة)، وصراعاً شرساً من أجل الهيمنة الثقافية: فالمثقفون الشافعيون (17) لا يفوّتون فرصة لتذكير الجميع بأن الشعر الحميني، الذي يمثّل العمود الفقري لـ"لغناء الصنعاني"، قد نشأ في تعز وزبيد خلال ازدهار مملكة سُنّية مُشرقة، (الدولة الرسولية). فالشاعران ابن فليتة (ت حوالي 750 هـ/1349 م)، وكذلك المَزّاح (حوالي835 هـ/1431هـ)، اللذان أدخلا أشكالاً جديدة، المُبَيّت والمُوَشّح، لم يكونا من صنعاء، بل من تعز وزبيد.

 Lambert, 1994). وهذا الاستنتاج ينطبق أيضاً على تحقير ضمني للثقافة الزيدية: "كان ذلك هو العصر الذهبي، وإذا وصلنا اليوم إلى حالة من الانحطاط، فهو بسبب الأئمة الزيديين"، كثيرًا ما نسمع الناس يقولون ذلك.

وقال آخرون - بنبرة ساخرة - إنه في عهد الإمام، كانت جميع الألحان القادمة من اليمن الشمالي تُختَم بطريقة جاهلة بعلامة "صنعاني"، في حين أن كثيراً منها كان قادماً من هذه المنطقة البعيدة أو تلك (مرشد ناجي، 1984: 157). ومنذ إعادة الوحدة، تصاعدت هذه المعركة من أجل الشرعية الثقافية؛ لأن مجال الإمكانات أصبح الآن مفتوحًا، والرهانات أكثر أهمية، كما يعكس ظهور الطراز اللحجي في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي هذه المنافسة. فهو أكثر انسجامًا مع أحداث القرن العشرين، وهو إلى حد كبير يتميز من الكلاسيكية في صنعاء.

نشأة اللون اللحجي
في الثلاثينات ولدت في عدن أول منظمة وطنية بالمعنى الحديث جمعت يمنيين من الشمال والجنوب في مقاومة مزدوجة ضد الإمام والإنجليز: فتاة الجزيرة (Douglas، 1987). واسم المنظمة نفسه يبدو مستوحى من تسمية "تركيا الفتاة"، وقد أدى إلى ظهور الكمالية (نسبة إلى مصطفى كمال أتاتورك). وفي الوقت نفسه وبفعل التغيرات الدولية في بداية القرن استيقظ الوعي الوطني لدى النخب في جنوب اليمن ولاسيما تحت تأثير القومية العربية، لكن هذا الاستيقاظ جاء متأخرا، إذ تشكلت هذه النخب ببطء شديد.

وكان أحمد فضل العبدلي الملقب بـ "القمندان" (1878-1937 م) هو الشخصية التي جسّدت هذه البدايات السياسية الأولى، فهو أخو سلطان لحج، ومؤرخ، وشاعر مناضل، متأثر بالثورة الروسية، وهو من روّج للون غنائي جديد تماما هو الأغنية الوطنية المكتوبة باللهجة الدارجة (العبدلي، بدون تاريخ). وقد أتاحت له استقلالية سلطنة لحج الصغيرة الواقعة بالقرب من عدن بعض الحرية في العمل. 

وتناولت قصائد الأمير أحمد فضل للمرة الأولى قضايا سياسية واجتماعية معاصرة معبرة عن التحولات التي كان يشهدها اليمن، وبصفته حاكما مستنيرا اعتنى بكتابة مقالة صغيرة لتبرير استخدام آلات الموسيقى من منظور ديني تحرري (العبدلي، بدون تاريخ)
ومع ذلك لم تتعدَّ وطنيته حدود السلطنة فلم يكن قط قوميًا يمنياً بالمعنى الحقيقي، بل كان قومياً لحجياً، وربما فكر في الاستفادة من دعم الإنجليز لإنشاء كيان إقليمي انطلاقا من دولته الصغيرة، فكما هو الحال مع جميع السلاطين الصغار في الجنوب كان سلاطين لحج مهددين دائماً بالتوسع الزيدي، وكان عليهم أن يتميّـزوا.

وكان من المفترض أن ينتشر هذا اللون الجديد في البداية عبر ألحان منطقة القمندان، لحج، وهكذا نشأ الغناء اللحجي انطلاقاً من لون محلي أخذ في الاتساع متمايزاً صراحة عن الأغنية الصنعانية: 

" غنِّ يا هادي (18) نشيد أهل الوطن
غنِّ صوت الدانْ
ما علينا من غِناء صنعا اليمن
غصن من عقيان (19)"

إن ذكر "غصن عقيان" هي إشارة إلى عنوان أغنية صنعانية كان الشهير هادي سبيت يغنيها حتى ذلك الحين (مرشد ناجي، 1983: 107). ويبدو أن اختيار المصطلحات الشعرية الرفيعة يشير إلى سخرية من شعر كلاسيكي يُنظر إليه على أنه قديم وبعيد عن الواقع، ومنحصر في الموضوعات العاطفية.

إن هذين البيتين من القمندان يقابلان بوضوح الغناء الصنعاني بنوع آخر هو الدان الذي وصفه بأنه "نشيد أهل الوطن". وهنا يكون التحليل غامضا: فكلمة "دان" تشير أولاً إلى لون محلي في لحج، وفي هذا السياق تعني كلمة "وطن" أيضًا "منطقة" أو "قرية" أو "بلدة صغيرة". ومع ذلك، فإن "دان" تشير أيضًا في جنوب اليمن تقريبًا بأكمله، من لحج إلى سقطرى، إلى لون من غناء أكابيلا (20)، أي بدون آلة، وغير مقيـــدّ بإيقاع، الذي غالبًا ما يلجأ إلى الارتجال الشعري. لذلك، عندما يتحدث القمندان عن الدان "نشيد أهل الوطن"، لا نعرف تمامًا إذا كان يقصد فقط لحج، أم الجنوب بأكمله.

وكما رأينا، فإن اللون اللحجي اكتسب اليوم أهمية كبيرة، حتى في الشمال. ولكن ما يندرج تحت هذا الاسم في الواقع هو إحدى الرقصات التي كانت تُمارس في لحج، وهي الشَرح، التي يمكن تعريفها بشكل أفضل على أنها هي ما تميز ساحل المحيط الهندي (الساحلية).
إن إيقاع الشَرح خفيف وراقص جدًا، يتناوب بين إيقاع ثنائي وإيقاع ثلاثي. والشعر بسيط، ولا يتطلب إصغاءً دقيقًا (21). وتتيح صيغة الكورال (المردّ دون) (التي لا توجد في الصنعاني) للمغني إشراك الجمهور بنشاط، ولذلك فقد نال الشَرح إعجاب الشباب في صنعاء، الذين أصبحوا يرقصونه بشكل متزايد منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي (22).

وفي سياق تغير الأعراف والانفتاح على التأثيرات الأجنبية في البلاد، يتمتع اللون اللحجي بميزة المقارنة مع الألوان ذات الإلهام الأفرو-أمريكي، التي هي معروفة بكثرة، وربما بقلة في اليمن (الديسكو والريغي والروك)، مما يوفر للموسيقى اليمنية شرعية دولية لا يمكن أن يقدمها لون أكثر تقليدية (وذو طابع "محلي") مثل الغناء الصنعاني، على الأقل في نظر الأجيال الشابة المتأقلمة ثقافيًا مع العولمة؛ وهم فئة من الشباب الذين يتمتعون بقدرة عالية على التكيف والتفاعل مع  الثقافات والعادات والتقاليد المختلفة، إذ إنهم لا يقتصرون على ثقافتهم الأصلية.

ومن ثم، إذا كان اللون اللحجي نشأ على نوع من المعارضة للغناء الصنعاني، فهو يفعل ذلك باسم قيم مشتركة ("أهل الوطن")، ولكن أيضًا باسم قيم جديدة، مستوردة جزئيًا (الأغنية الملتزمة، "خفة" الموسيقى). ومع ذلك، فإن إدخال العود – وهو آلة حضرية، لأداء الأغاني التي كانت حتى ذلك الوقت شعبية وريفية (24) – يشير بوضوح إلى هذه الديناميكية الموحدة (أو حتى المعيارية). في الوقت نفسه، فإن تكييف هذا اللون الموسيقي الذي كان يعزف سابقًا على القيثارة السمسمية قد عمل على إثراء مجموعة تقنيات العود بأسلوب جديد تمامًا (24). وعلى الرغم من عدم تجانس كل هذه العناصر، يمكن القول إن اللون اللحجي هو نجاح لا يترك أحدًا غير مبالٍ. 

وقد أنتجت المنافسة الموسيقية بين المناطق محاولة أخرى لخلق لون موسيقي مناطقي، وهو اللون العدني، لكنه كان أقل نجاحًا.

الندوة الموسيقية العدنية
إن حالة الغناء العدني مثيرة للاهتمام بشكل خاص، إذ إن ظهوره كان أكثر حداثة، ويمكن ملاحظته وتوثيقه من خلال شهادات حية.
ففي عام 1948، تأسس لأول مرة نادي الموسيقى في عدن، وقد أسسه الفنان خليل محمد خليل، والشاعر محمد عبده غانم، وكذلك الملحن سالم بامدهف (طه فارع، 1985: 11). وانسجم ذلك مع منطق النهضة العربية: لقد كان ذلك عبارة عن لقاء بين فنانين وأدباء حضريين يمزج المصادر الأدبية والفنية المختلفة لهوية جماعية كانت في طور البحث عن الذات. ووفقاً لكلمات خليل محمد خليل، كان الهدف هو خلق لون عدني فريد. يقول في ذلك: "لو وضعنا قرية في أعلى جبل، معزولة عن كل شيء، فإن الشباب الذين ينشئون هناك سيبدؤون بالغناء بموسيقاهم الخاصة! ماذا كان يغني أجدادنا في المدة التي كانت فيها عدن مزدهرة، في عهد الملكة أرْوَى (25)؟ لا بد أنهم غنّوا شيئًا ما. الأهم هو الأصالة" (مقابلة شخصية).

إن هذه الرغبة في تأصيل التقاليد بأي ثمن، بغض النظر عن مصداقيتها التاريخية، تَظهر أيضًا في مقالة لأحد الصحفيين الذي يرجع أصل اللون العدني إلى تأسيس الميناء من قبل مملكة قتبان في العصر القديم في جنوب الجزيرة العربية، ثم إلى الولي العدني، أبو بكر العيدروس، شاعر صوفي من القرن الخامس عشر (عبد الملك، 1987).

كان على النموذج أن ينتشر: في خلال السنوات الخمسين، انشق بعض المشاركين في "الندوة العدنية" ليذهبوا أيضًا إلى تأسيس ندوة في لحج، وأخرى في حضرموت، وأخرى في منطقة يافع، هذه الانشقاقات حدّت من النطاق التاريخي لـ "للأغنية العدنية"، لكنها أظهرت في المقابل مدى حركة التجديد الموسيقي في جميع أنحاء المستعمرة البريطانية، والنتائج الجمالية لا تزال موضع نقاش، إذ لم يترك الفنانون الذين ادعوا أنهم "عدنيون" انطباعًا بأنهم أبدعوا أسلوبًا فريدًا، بل بدا أنهم خلطوا تأثيرات دون إضافة أصيلة. حتى خليل نفسه، ربما مُمَتَّنًا، فقد عرّف أسلوبه بالسلب: "عند الاستماع إليّ، لا يمكن معرفة ما إذا كان خليجيا أم مصريا أم كويتيا". وفي الواقع، لم ينأ كثير عن أسلوب الأغنية المصرية في الأربعينيات (الصوت الغليظ على طريقة عبد الوهاب، والأغنية ذات الرباعيات، والإيقاع المصمودي المصري، والآلات الغربية مثل الكلارينت). ولم يُمْنَع من توجيه لوم له على هذا التأثير المصري (مرشد ناجي، 1984)، لاسيما وأن جده كان من أصل مصري. ولقي أعظم نجاحاته في أغنيته "الوردة الحمراء"، التي لاقت رواجًا في الشرق الأوسط.

وفي المقابل، ظهر فنان آخر أصغر سنًا انتسب أيضًا إلى اللون العدني، وهو أحمد قاسم، الذي تلقى تعليمه في مصر وقدم أولى أغانيه في فيلم كان هو المخرج له في بداية الستينيات، ولكن بعد متابعة دراساته في الاتحاد السوفيتي وفرنسا، انفصل أحمد قاسم عن روح "الندوة"، وأنتج ما أسماه بنفسه (الأغنية التجديدية)، التي كانت عناصر المصدر الغربي (المقامات الرئيسة والثانوية، والعزف الائتلافي على أوتار العود (أي كل الأوتار معاً، وما إلى ذلك) فيها بالغة الأهمية.

وبعد اختفاء دام طوال مدة الجمهورية الديمقراطية الشعبية، تم إعادة اكتشاف خليل محمد خليل في أواخر الثمانينيات، وتم الاحتفاء به بوصفه بطلا وطنيا عام 1990 عند وقوع الوحدة. 

لم تكن إعادة الاكتشاف هذه مرتبطة بالوحدة فقط؛ فمنذ أحداث عام 1986، فقد النظام الماركسي في عدن زخمه الأيديولوجي أمام النظام في صنعاء الذي أصبح أكثر ثقة بنفسه. وبعد أن عادت القومية إلى الواجهة، كان هناك بالتأكيد حاجة إلى نمط قائم على أذواق العاصمة، على غرار معظم الدول القومية، ولم تكن العاصمة صنعاء: بل عدن، وقد فات الأوان من نواحٍ عدة.

إن الاهتمام بإنشاء هوية ثقافية عدنية في الأربعينيات والخمسينيات ظهر في مرحلة مهمة جدًا من تاريخ المستعمرة البريطانية من الناحية السياسية والاجتماعية، إذ كانت الطبقات الوسطى في عدن – المتعلمة والمرتاحة ماديًا بسبب ازدهار المستعمرة، التي تضع آمالها في السياسة البريطانية للتقدم – ترى مصالحها مهددة بكثرة العمال القادمين إلى ميناء عدن من اليمن الشمالي أو السلطنات للبحث عن فرص عمل، فقد كان لهؤلاء العمال تقاليد ريفية (26)، لكنهم سرعان ما أصبحوا مسيسين بفضل نقابات الأصنج، وهددوا المواطنين القدامى من الحضر، سواء بمطالباتهم (Ledger, 1983) أم بعاداتهم الثقافية المختلفة (27). 

لم تكن لدى النخب في عدن، المحصورة بين النموذج الإنجليزي والتأثيرات الثقافية المصرية والهندية، ثقافة خاصة بها. ولذلك، كانت الندوة العدنية محاولة للتعبير الثقافي المحلي الحضري. وهذا ما يظهر في الحوار الذي يتذكره خليل محمد خليل حول الطريقة المختلفة لتكوين الأسماء في المدينة وفي القبائل الريفية: "في يوم من الأيام، سُئلت عن اسمي: هل يجب أن نقول 'الفنان خليل العدني'؟ قلت: لا، نحن في عدن ليس لدينا أنساب (28)، لست من قبيلة. ادعوني ببساطة خليل محمد خليل".

يذكر الحوار أن البريطانيين، الذين برعوا في فن التفرقة والتقسيم، كانوا يُشجعون ظهور هذه الهوية العدنية، من أجل السيطرة بشكل أفضل على الفيدرالية المستقبلية لجنوب الجزيرة العربية التي ظهرت عام 1963. لذلك، فقد تسامحوا مع "الندوة"، التي كان معظم أعضائها يشغلون أو سيشغلون مناصب سياسية أو إدارية هامة (29).

وعلى الرغم من هذه الأحداث التاريخية المثيرة، وما يمكن أن نسميه فشلاً، فإن النقاش حول "يمنية الأغنية العدنية" له أهمية كبيرة؛ لأنه يتعلق بالتفاصيل الجمالية التي يمكن أن تحدد بشكل مشروع الهوية الثقافية - الموسيقية هنا - للشعب اليمني: أي السمات الموسيقية التقليدية إلى حد ما، والمزيد أو القليل من الألحان والإيقاعات 
الأجنبية المستوردة، إلخ. 

                وللحصول على فكرة أفضل، نحتاج إلى إلقاء نظرة على لونين آخرين لم يكونا موضوعًا لمثل هذا النقاش.

ألوان أخرى
حضرموت والتأثير الهندي
بشكل ملحوظ، لا تثير الألوان المناطقية الأخرى مثل هذه المناقشات: إما لأن وجودها لا جدال فيه، وإما لأنها ليست موضوع نقاشات الهوية، أو كلا الأمرين معًا.

ففي الحالة الأولى، هناك حضرموت: من وجهة نظر صنعاء وعدن، تبدو هذه المنطقة النائية كأنها دولة أخرى. فالألوان الموسيقية بعيدة جدًا، وتكاد تكون مجهولة، باستثناء ما قدمه بعض المغنين الناجحين (30). وبالتالي، فإن أحد الألوان الرئيسة هو الدان، الذي يضعه تميزه بين أجمل الألوان التقليدية في اليمن، فقد كان مجهولًا تمامًا في صنعاء حتى أواخر الثمانينيات. وعلى الرغم من وجود عدد كبير نسبيًا من اللاجئين السياسيين من هذه المنطقة في صنعاء، فلم يكن هناك تقريبًا أي شرائط كاسيت تجارية لهذا اللون الحضرمي. ومع هذا، لا أحد ينكر ثراء ألوانه الموسيقية. فعند الترتيب المعتاد، تأتي حضرموت غالبًا في المرتبة الثانية: الغناء الصنعاني والغناء الحضرمي، ثم اللحجي، إلخ.
ويُظهر ذلك على الأرجح نقص اندماج حضرموت في الكيان اليمني بأكمله: ففي حين أنها تنتمي إلى المنطقة الثقافية اليمنية، فلا شك في أنها لم تكن جزءًا من كيان سياسي مشترك مع الشمال منذ زمن بعيد (31). 

كانت حضرموت - ولمدة طويلة جدًا- منفتحة على بلدان أخرى مثل الهند وإندونيسيا والخليج. ومنذ إعادة الوحدة فقط، أصبح الحضارمة مدركين تمامًا لهويتهم اليمنية والمسؤوليات السياسية التي تنطوي عليها. وبدأ بعضهم في الانشغال بلعبة الشرعية الموسيقية، وبدأوا في التشكيك في أصالة الغناء الصنعاني: مستدلين بتشابه بعض الألحان الصنعانية مع ألحانهم، ويتهمون الغناء الصنعاني بأنه انتحل ألحان حضرموت لصالحه. وهذا أمر جيد نوعًا ما.

ويعد "اللون الهندي" أو "المهـنــّد" حالة أخرى، فقد كان للتأثير الهندي على الموسيقى اليمنية أهمية كبيرة في العشرينيات والثلاثينيات، وقد وصلت أعداد كبيرة من الفرق الموسيقية والفرق المسرحية ولاسيما الأفلام من الهند (كانت مستعمرة عدن تحت سلطة نائب الملك البريطاني في الهند لمدة طويلة). وقد ظهر في السنوات 1940-1950 لون جديد يسمى مهنّد، أو "لون هندي". ومن الأنسب الحديث عن لون هندي "مُعَرَّب"، فقد حفظ الموسيقيون اليمنيون الألحان من الأفلام الهندية، وكيّفوا لها نصوصًا باللغة العربية الفصحى، وليس بالعامية. وكان الفنان الكبير محمد جمعة خان، فضلا عن كونه مغنيًا تقليديًا للون الحضرمي (32)، أبرز من مارس هذا اللون في أغنية مثل "جن الظلام" (قصيدة كلاسيكية لبهاء الدين زهير، الشاعر العربي من القرن الثالث عشر الميلادي).

وينطبق ذلك أيضًا على حالة أحمد عبيد القعطبي، على سبيل المثال في قصيدته "يا أعز الناس عندي" (وهي أيضًا قصيدة لبهاء الدين زهير). والنتيجة هي أسلوب فريد للغاية، وهو بشكل ما أسلوب يمني بالفطرة: لا هندي ولا يمني حقيقي، ولكن لا يوجد له مزيج مماثل في أي مكان آخر. ونلاحظ أن ذلك أيضًا كان اللون الذي اتبعه خليل محمد خليل في تعريف أسلوبه الخاص ("لا من الخليج ولا مصري..."). ولكن هنا، تم قبول التأثير الأجنبي تمامًا (كما أشار سالم، دون تاريخ)، وبكل سرور في الواقع.

وبالتأكيد، لا يستبعد هذا اللون من الابتكار أشكالاً أخرى، بالنظر إلى أن العلاقات السياسية والتجارية والاتصالات الثقافية بين ساحل حضرموت والهند كانت مكثفة ومتعددة الأشكال وقديمة جدًا (33).
الأصالة والعراقة

هل يكفي أن تكون الأغنية مؤداه من قبل يمنيين لتكون يمنية، كما يبدو أن نزار عبده غانم (دون تاريخ) يدافع عن ذلك فيما يتعلق بأغاني عدن؟ أم أنها يجب أن تندرج في لون معترف به؟ وبالضبط، ما هي الخصائص الرئيسة التي يجب أن تتوفر حتى يتم الاعتراف بهذا اللون من قبل المستمع؟ وما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه حقيقة أن الأغنية مكتوبة باللهجة الدارجة (المرجع السابق)؟ نرى الصعوبة، ولكن أيضًا الأهمية، في تعريف الهوية الثقافية القومية من خلال الألوان الموسيقية، ولاسيما عندما يتعلق الأمر بمناقشة الألوان المناطقية مثل اللون العدني الذي يتضمن التأثيرات الأجنبية. لذا فإن الأمر يتعلق ببناء شيء ما من الصفر.

إن أول من تحدى أصالة اللون العدني هم أنصار اللون الصنعاني، ومن بينهم الشاعر عبد الله البردوني (دون تاريخ): فبالنسبة له، لا تغطي هذه التسمية سوى مزيجًا من التأثيرات المصرية والهندية والأفريقية؛ وكل هذا النشاط الإعلامي في عدن يمثل في الواقع انحطاطًا مقارنة بما كانت عليه الممارسة التقليدية في بداية القرن.

وثمة ناقد أكثر اعتدالًا هو محمد مرشد ناجي، وهو نفسه مطرب كبير من عدن، وقد مر بالندوة العدنية في بداياته، ولكنه انفصل عنها بعد ذلك، وتوجه نحو الأغنية الوطنية، وشارك بنشاط في الحركة القومية، في حين اقتصر خليل على الأغنية العاطفية، ورفض أي انخراط سياسي ("الفن والسياسة لا يمشيان معًا"، كما قال). ولكن الأصالة الرئيسة لمحمد مرشد ناجي تتمثل في استلهامه للألحان الشعبية التي يكيفها للعود، وهي كثيرة مقارنة بخليل وأحمد قاسم. فضلا عن أن نقده "الفولكلوري" صحيح أيضًا؛ لأن من نقاط الضعف الرئيسة لأنصار "اللون العدني" محاولة إضفاء شرعية على اللون من خلال استدعاء الأصول الأسطورية لمدينة عدن، دون أن يستلهموا من الأغاني التي يمكننا على الأقل افتراض أنها شواهد على الماضي: وفقًا للمنطق الذي عبر عنه خليل، كان على الأغاني الدينية لطريقة ولي المدينة، أبو بكر العيدروس، أن تكون المصدر الأول لإلهامه.

وتماشيًا مع موقفه، عمل مرشد ناجي في اتجاه موسيقى قومية يمنية، وشارك في السلطة الثورية في عدن. وقد شغل منصب وزير الثقافة حتى أحداث عام 1986. لذلك، رفض الخصوصية العدنية؛ لأن الطبقات الوسطى في المدينة أبدت قليلًا من الحماس تجاه الثورة.
وثمة نقاش آخر مثير للاهتمام يتعلق باللون اليافعي؛ لأنه يظهر عمق البعد المناطقي لهذا الميل نحو إنشاء التقاليد. إن اللون الموسيقي اليافعي الذي لا يختلف كثيرًا عن ذلك الخاص بلحج، له أنصاره الذين يدعون أنه يجب أن يكون موجودًا إلى جانب الألوان "المعترف بها" الأخرى. ويستندون في ذلك بشكل أساس إلى النصوص الشعرية للشاعر الشهير يحيى عمر، المهاجر إلى الهند في القرن السابع عشر، الذي يُفترض أنه من أصل يافعي.

ويمكن وصف هذه المطالبة بهوية مناطقية يافعية كالمطالبة نفسها من قبل سكان الجبال في الجزء الجنوبي من الحجرية (الضالع، يافع)، التي كانت حتى عام 1990 على أراضي الجمهورية الديمقراطية الشعبية اليمنية، وكانت متميزة عن حضرموت شرقًا، وسهول لحج ومدينة عدن جنوبًا. وكان لها شيء من التصنع، لكن السبب في ذلك كان الحدود التي فصلت بشكل تعسفي شمال الحجرية وجنوبها، وقد نشأت هذه المطالبة في أعقاب إنشاء "ندوة" موسيقية خاصة بيافع في خمسينيات القرن الماضي، على غرار "ندوة" عدن. ولم يكن ذلك بالتأكيد وليد الصدفة، فكما رأينا، كان المهاجرون يغيرون ملامح المجتمع في عدن في العقود الأخيرة من الاحتلال، من هذه المنطقة.

وعلى الصعيد الموسيقي، لا تبدو المطالبة بلون خاص بيافع مبررة تمامًا، طالما أنه لا يختلف بشكل كبير عن اللحجي أو حتى عن شمال الحجرية. ولكن هذا لا ينفي إمكانية حدوث تطورات مستقبلية في هذا الاتجاه. وفي الوقت الحاضر حين بدأت الحدود في الاختفاء، تعد هذه المنطقة من أبرز المستفيدين من الوحدة. وسيكون من المثير للاهتمام رؤية ما ستكون عليه النتائج لاسيما وأن الموسيقيين في شمال الحجرية قد أنشأوا لونهم الخاص أيضًا، دون أن يؤدِّ ذلك إلى إنتاج أيديولوجي ملحوظ (34).

هذان المثالان العدني واليافعي يُظهران بعض جوانب عملية تكوين "اللون". غير أن خيال مبتكريه والحريات التي يتخذونها مع التراث الموسيقي والتاريخ (Schuyler, 1990-91) وجدت هنا حدودها: فهي تصطدم بأنصار التقاليد الأخرى، الذين يدافعون عن شرعيتهم أيضا، وبذلك يُحددون ضمنيًا القواعد التي ستنطبق حتمًا على أي مرشح جديد للاعتراف به. 

وتتعلق المناقشة بكل من الأشكال الجمالية والموسيقيين أنفسهم، وأصولهم العرقية، إلخ. ويعبّر استخدام المصطلحات المرنة للحديث عن "ألوان مناطقية" عن هذه المفاوضات بشأن الشرعية: فحسب درجة الحذر أو الصرامة، قد يُشار إلى "اللون العدني"، أو بالعكس إلى "الغناء العدني"، على غرار المصطلح المرموق "الغناء الصنعاني". ولكن أكثر التسميات حياديةً هي "الأغنية العدنية"، إذ إن مفهوم "الأغنية" يختلف فعليًا عن التسلسل التقليدي (القومة) الذي كان يضع عددا من النصوص الشعرية معا، ومن الإيقاعات المتميزة بشكل متفاوت. والتسمية نفسها "أغنية" مُستخدمة أيضًا بالنسبة للحجي: "الأغنية اللحجية"، كما ورد في عنوان مقال نصيب   وعيسى (1985). 

وثمة جانب آخر في تشكيل "التقليد"، إذ إن فيليب شويلر (Schuyler, 1990-91) لم يُلاحظه يستحق الذكر هنا، ويتضح من خلال أحد المؤيدين للاعتراف باللون العدني: في مقال صغير يدافع فيه عن هذه النقطة، استخدم الراحل جميل غانم (35) المصطلح المعتاد في اليمن لـ "الأصالة authenticité " بمعنى "العراقة ancestralité " (غانم، 1990)، الذي عادةً ما يُقابل بـ "انعدام العراقة". ولكن هنا، استخدمه بمعنى آخر تماماً، وهو "الإبداعية originalité" المأخوذة من كلمة "إبداع"، الذي يقابل بدلاً من ذلك "المحاكاة imitation" أو "نقص في الخيال". وهذا التحول الدلالي لافت للنظر لأسباب عدة، أولها أنه يُدخل لبساً رئيسا. ومن المثير للاهتمام أيضاً أن تحولاً مماثلاً قد أصاب اللغة الفرنسية: تكوين الكلمة الفرنسية "أصيل" (originel) يشير إلى التحول نفسه في الاستخدام (من "أصلي" إلى "مبتكر"original, ). وبالتأكيد، هناك انتقال من معنى جمعي إلى معنى فردي، أو باﻷحرى إدخال لبس أساس بين هذين المعنيين لا يختفي أبداً تماماً. 

ألا يشير هذا الانتقال من الأصيل إلى المبدع، الذي يكون غير ملحوظ؛ لأنه محجوب بالكلمات إلى تطور جوهري، وهو تطور تطالب فيه الأمة للعبقرية الفنية بفردية تتكيف معها بكثير من السهولة أكثر مما كانت عليه القبيلة؟

على أي حال، تشهد هذه المناقشات حول الألوان المناطقية على ظهور شعور قومي، انطلاقًا من إنشاء مساحة مشتركة "لإنتاج" الثقافة، كما قال بيير بورديو. وهنا، يُترجم التعبير "أسلوب مناطقي" إلى اللغة العربية بـ "لون". ويحمل استخدامه من قبل مؤيدي كل صنف غنائي طابعًا مثيرًا للاهتمام: تفترض الاستعارة الأدبية "للون" أننا نشهد انتشارًا، و"تنوعا" (باللغة العربية، تلونا، من الجذر نفسه) لوحة ما أو منظر طبيعي، أو حتى قوس قزح. الفكرة الضمنية هي أن التنوع ينتشر على خلفية الوحدة (unité). وهذا هو الحد الأدنى من الشرعية للأغاني المناطقية.

هل يجب علينا إذن أن نخشى أن يصبح مصطلح "مناطقية" مرادفًا للـ "انفصالية"؟ في سياق ديناميكية الثقافات، تُظهر لنا تجربة التنشئة الاجتماعية الأكثر شيوعًا العكس: فحياة الأشكال الموسيقية وحياة "بناء الدولة" تشهد عمليات ديناميكية من التجانس والتماهي، ولكن أيضًا عمليات تنويع.

بدايةً، التجانس: فالموسيقيون من المناطق المختلفة، بعد أداء عدد من الأجيال لأغاني العاصمة، يخلصون في نهاية الأمر إلى الادعاء بها كأنها أغانيهم. وكما رأينا، هناك صراع على اكتساب الشرعية. ويدور النقاش بشكل كبير حول التسمية: لماذا يُسمَّى هذا اللون الموسيقي "الغناء الصنعاني"؟ ألا يكون ببساطة "الغناء اليمني"؟ يبدو أن هذا المطلب هو الأقوى بسبب وحدويته: "لا للمزيد من الخصوصيات المناطقية، فنحن جميعًا يمنيون"، كما يقول هؤلاء الناس. فما يُطعن فيه ليس صحة الإطار القومي، ولكن فقط شرعية منح امتياز الكلاسيكية لهذه المنطقة أو تلك. وبعبارة أخرى، لا تتعلق المناطقية بالانفصال، ولكن على العكس من ذلك، بالدخول في منافسة من أجل تعزيز التراث المشترك.

وأخيرًا، التنوع: فظهور الألوان المناطقية التي تشجع على بروز الهويات المناطقية، بعيدًا عن تعريض الأمة للخطر، لا يمكن فهمه - ولا يمكن حتى تصوره - إلا انطلاقًا من وحدة قومية موجودة بالفعل، أو كانت قد تشكلت بالفعل بشكل جيد (36). وهو في الوقت نفسه ضمان احترام التعددية المحلية، في إطار قومي ليس مُقيِّدًا للغاية.

بالتأكيد، هذه المنافسة المناطقية ليست خالية من المخاطر، ولكن من المرجح أن تحمل جوانب إيجابية أكثر. فبعد الوحدة اليمنية في عام 1990، أصبح المجتمع السني الشافعي هو الأكثر عددًا، دون الحصول على ما يكافئ ذلك من قوة سياسية، وهو ما لا يخلو من طرح مشاكل جدية على تنظيم الدولة الموحدة الجديدة. ولكن، بالتعبير في إطار النقاشات الثقافية، ولاسيما على المستوى الموسيقي، فإن المطالب الناتجة عن هذا الاختلال تحترم إطار الوحدة، وتسهم على المدى الطويل في تعزيز التماسك والترابط بين المكونات المختلفة للدولة اليمنية في طور البناء. ويبقى الأمل في أن تتبع المجالات الأخرى للحياة الوطنية هذا المثال.

مصدر المقالة 
Lambert Jean. Musiques régionales et identité nationale. In : Revue du monde musulman et de la Méditerranée, n°67, 1993. Yémen, passé et présent de l'unité. pp. 171-186 ;

الهوامش: 
1-    أود أن أشكر هنا الاقتراحات التي أفادوني بها في كتابة هذا المقال: Philip Schuyler et Sabine Trébinjac وفي اليمن: نزار عبده غانم وخليل محمد خليل.
2-    قد استكشفتُ جانبًا واحدًا من هذا المتخيل، وهو التصور الوطني للزمن، في مقال سابق (Lambert: 1991).  عشية الوحدة اليمنية، تجاوز ذلك بالفعل الحدود بين اليمن الشمالي السابق واليمن الجنوبي السابق. أقترح هنا مقاربة مماثلة للموسيقى.
3-    منذ منتصف القرن العشرين، ظهر نوع جديد من الموسيقى في شكل موسيقى إذاعية تُعرف باسم الكيلوالي (kiliwāli). ويمكن ترجمة هذا المصطلح، وهو من أصل باشتوني، "قروي". لذا فإن موسيقى الكيلوالي تعني "الموسيقى القروية". (المترجم)
4-    يستخدم بعض الشعراء الحضريين اللهجات المحلية في كتاباتهم الأدبية (في الشعر الحميني) لإعطائها "لوناً محلياً". وهذا يعبر قبل كل شيء عن الهيمنة الثقافية للعاصمة (Lambert: 1982).
5-    كان الهدف، على وجه الخصوص، هو القضاء على ظاهرة تكييف النصوص الجديدة باستمرار على لحن واحد، أو الحان جديدة على نص معروف. أحد الأمثلة على ذلك هو "يا نسيم السحر، هل لك خبر"، التي أداها محمد بركات على شاشة التلفزيون اليمني.
6-    يمكن تعريف القومة بوصفها "وصلة" أو "شكلًا مركبًا" بحيث يمكن استخدام هذه المصطلحات فيما يخص الـ «نوبة" الأندلسية. إنها تتابع حركات ذات مقام أو إيقاع أو سرعة ثابتة. (جان لامبير، طب النفوس فن الغناء الصنعاني، ترجمة علي محمد زيد، وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 2004، ص 104) (المترجم)
7-    في صنعاء، لا يأتي الحضرمي في صنعاء قبل اللحجي أبداً؛ لأنه لا يعرف هناك إلا قليلاً. وسنرى السبب فيما بعد.
8-    هذا لا يعني أنه يتم عزف الموسيقى نفسها تقريباً في كل مكان: هذا الإجماع يخص فقط بداية جلسة الزفاف بوصفها طقوسا اجتماعية.
9-    تعد كوكبان الواقعة على بعد 30 كيلومتراً غرب صنعاء مهد الفنون.
10-    كوكبان هو العصر الذهبي، وهو القرن السادس عشر الذي ازدهر فيه الشعر الحميني. أما صنعاء فهي في مدة تاريخية بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر، ولا شك أنها ستبقى دائماً غير معروفة جيداً، لكنها كانت حاسمة في تطورها. وأما عدن فهي القرن العشرين.
11-    للاطلاع على تاريخ أنشودة صنعاء، انظر الكتاب القادم: Lambert: 1994 (أي “طب النفوس” الذي ترجم إلى العربية في 2001).
12-    تُبرز إضافة الوتر الخامس، مما يخلق نغمة صول، المفتاح المهيمن صول بشكل أوضح من النمط القديم، حيث يستجيب دو إلى صول في خامس تنازلي. النمط، حيث يستجيب دو لـ صول في خامس تنازلي.
13-    محمد الماس سجله شركة التاج العدني (1051 - ب رام 201) سنة 1939، وابنه إبراهيم سجله أوديون سنة 1938: وبذلك يكون الابن قد سجل، بزيادة أو نقصان سنة، قبل الأب.
14-    وغالباً ما يُعطى النص الشعري بأكمله الأولوية على التنويعات في الأداء الآلي (أو حتى الصوتي). وبعد عشر سنوات، أي في نهاية الأربعينيات، كان من المفترض أن تعوض المسجلات الشريطية (الرايل) هذا النقص المؤسف. ولكن إلى حد ما، كان الأوان قد فات. وباعتراف الجميع، فقد حفزت هذه التسجيلات الموسيقيين الذين بقوا في صنعاء، واقتصروا على أسلوب لم يتطور كثيرًا. ولكن من الآن فصاعداً، ستتعلم أجيال من الموسيقيين الشباب فنهم من هذه التسجيلات الجامدة للغاية، بدلاً من التقاليد الشفوية الحية.
15-    لا يُعرف كثير عن سيرته الذاتية. ولكن على الرغم من أنه على الأرجح لم يذهب إلى صنعاء أبداً، فإن إتقان باشراحيل الملحوظ للغناء الصنعاني يوحي بأنه قد تتلمذ على يد أساتذة في عدن قبل عام 1920: إذ تظهر تسجيلاته التي تعود إلى عام 1938 أنه بالفعل في ذروة نضجه، وتشير إلى أسلوب أكثر عراقة - وأكثر ثراءً - من الآخرين. لذلك فإن وجود الغناء الصنعاني في عدن ربما يكون أقدم من ذلك بكثير.
16-    لا يجرؤ فنان صنعاني أبدًا على كشف الذاكرة الخاطئة أمام الملأ، لاسيما عندما يتعلق الأمر بمثل هذه الذخيرة ذات القيمة العالية.
17-    أهل السنة في اليمن هم من الشافعية. وهم يهيمنون على جنوب اليمن الشمالي السابق وغربه، وكذلك على اليمن الجنوبي السابق كاملا.
18-    هذا هو هادي سبيت، المغني الذي وضع موهبته في خدمة شعر القمندان.
19-    غن يا هادي نشيد أهل الوطن، غن صوت الدان، ما علينا من غنى صنعاء اليمن، غصن من عقيان، (نقلاً عن مرشد ناجي: 1984: 107).
20-    أكابيلا، والمقصود هنا الأسلوب الإنشادي، وهو لون استعراض سمعي، ويستغني عن المصاحبة الموسيقية بالآلات، ويستعين بدلاً منها بكل طبقات الصوت البشري. (المترجم)
21-    على الرغم من الجهود النضالية التي بذلها القمندان فإن غالبية الجمهور عاد إلى موضوع العاطفي.
22-    انظر مقالة نجوى عدرة في هذا العدد.
23-    الآلات الموسيقية التقليدية في لحج هي القيثارة الكبيرة الطنبورة (لاحتفالات الزار) والقيثارة الصغيرة السمسمية، فضلا عن آلات النفخ، والمزمار والناي (نصيب وعيسى: 1985: 16.08.85).
24-    ويمكن تأكيد ذلك من خلال الاستماع إلى أداء (ليتني يا حبيبي...) لـ فضل محمد اللحجي (التاج العدني).
25-    وكانت الملكة أروى قد حصلت على ميناء عدن هدية من زوجها. وكانت تقضي الشتاء هناك بانتظام (Kay: 1892).
26-    كانوا يأتون بشكل رئيس من الحجرية.
27-    وعلى وجه الخصوص، عاداتهم المختلفة فيما يتعلق بتناول القات. وقد دافع أهل عدن عن اختلافهم من خلال ثقافة المبراز، وهي غرف الاستقبال في عدن.
28-    وعندما ينتقلون إلى المدينة، يضيف أهل القرية صفة النسب إلى اسمهم، مما يدل على الفور أنهم ينتمون إلى قبيلة ذات أصل، أو على الأقل ادعاؤهم ذلك.
29-    كان خليل محمد خليل مديرًا عاما للسجون، ومحمد عبدة غنيم مديرًا للتعليم.
30-    مثل أبي بكر الفقيه، ولكن مرة أخرى باللغة الشائعة في الموسيقى الحضرية (العود أو حتى الأوركسترا الحديثة).
31-    أما المناسبة الأخيرة فتعود إلى القرن السابع عشر، مع الإمام القاسم (انظر أدناه: M. Bluckacz).
32-    كان جمعة خان أيضًا من أصل هندي جزئيًا.
33-    تأسست سلالة سلاطين المكلا على يد اليمنيين الذين أصبحوا أثرياء في حيدر آباد، وجلبوا معهم عددا من التأثيرات الهندية (يمكن العثور على السيتار الهندي على سبيل المثال في قصر السلطان السابق، الذي أصبح الآن متحف المكلا). وبالمثل، يوجد في إندونيسيا مجموعة كاملة من الأصناف الموسيقية المتأثرة باليمن.
34-    إنه قبل كل شيء عمل شخصي للغاية لأيوب طارش، المغني الرائد في مدينة تعز.
35-    كما كان الموسيقار ج. غانم، الذي توفي عام 1990، حفيد خليل محمد خليل.
36-    "أمة مثل فرنسا ليست مجموعة أقاليم. بل على العكس من ذلك، إذا كان لهذه الأقاليم أن تظهر بأي وضوح، على العكس، تظهر من المجموع الشامل الذي تشكله بلادنا" (Sansot: 1988: 136). إن وصف المؤلف الشاعري لفرنسا بوصفها "حقيقة من حقائق الخيال" مثير للإعجاب، دون أن يتنازل عن الدقة العلوم الاجتماعية.

المراجع
البردوني، عَبْدِ اللَّهِ، بدون تاريخ، مقابلة مع الفنون: السنة الأولى، أغسطس - سبتمبر: ص 9. عدن.
سليم، أحمد مهدي، د. ت. "لقاء مع الفنان عبد القادر بامخرمة"، مقال صحفي بدون مكان النشر، 1980.
سوري، خالد، 1984، خليل محمد خليل. حياته، فنونه وعصره، دار الهمداني، عدن.
الشامي، أحمد، 1974، من الأدب اليمني، بيروت، دار الشروق.
عبد الملك، غازي، 1987، "اللون العدني في غناء اليمن" 14 أكتوبر: 87.03.13.
العبدلي، أحمد بن فضل بن علي (القمندان)، بدون تاريخ، فصل الكتاب في إباحة العود والرباب. (جزء من خطاب ول إباحة العود والكمان)
العبدلي، أحمد بن فضل بن علي (القمندان)، دون تاريخ، المصدر المفيد في غناء لحج الجديد، دار الهمداني، عدن(السبعينيات).
عبده، غانم نزار، 1990، " الأغنية العدنية ليست معلقة في الهواء"، 14 أكتوبر: 01990.02.5 (مقابلة).
عبده، غانم نزار، دون تاريخ "أين تقف الأغنية العدنية"، بدون عنوان.
غانم، جميل، 1990، "مقتطفات فنية"، 14 أكتوبر (عدن): 09.08.06: 5.
فارع، طه، 1985، لمحات من تاريخ الأغنية اليمنية الجديدة، دار الهمداني، عدن.
ناجي، محمد مرشد، 1984، الغناء اليمني القديم وأشهر ممثليه، الكويت، مطبعة الطليعة.
نسيب، صالح وعيسى، أحمد صالح، 1985، "تاريخ الأغنية اللحجية"، الثورة، 08.16 و 85.08.23: ص 10. صنعاء.

BAIL Y, The Role of Music in the Creation of an Afghan National Identity, 1923-73, Ethnicity and identity: a significance of music, Martin Stokes (Ed.), Bearg Publ., London.
DOUGLAS Leigh, 1987, The Free Yemeni Movement 1935-1972, American University of Beirut.
KAY H. C, 1892, Yaman in its early Mediaeval history. London.
LAMBERT Jean, 1982, Aspects de la poésie dialectale au Yémen, mémoire de maîtrise, Université de Paris III
LAMBERT Jean, 1989, "Du chanteur à l'artiste : vers un nouveau statut du musicien au Yémen", Peuples Méditerranéens, 46 : 57-76.
LAMBERT Jean, 1991, "Sabâ et le barrage de Mareb. Récit fondateur et temps imaginé", Peuples méditerranéens, 56-57, juill-déc 1991 : 141-176.
LAMBERT Jean, 1993, "Paroles sédentaires, paroles errantes", Autrement., à paraître.
LAMBERT Jean, 1994, La médecine de l'âme. Musique et société à Sanaa, Yémen, à paraître, S.F.E, Paris X-Nanterre (paru en 1997). 
(نشر فيما بعد بالعربية: جان لامبرت، “طب النفوس. فن الغناء الصنعاني”. صنعاء، الهيئة العامة للكتاب، 2001)

LEDGER David, 1983, Shifting Sands. The British in South Arabia, Peninsular Publishing, London.
LOMAX Alan, 1959, "Musical style and social context", American Anthropologist, 61: 927-954.
SANSOT Pierre, 1988, "La France : Un fait imagination ?" Cahiers internationaux de
SCHUYLER Philip, 1990, "Heart and Mind: three Attitudes towards Performance Practice and Music
SCHUYLER Philip, 1990-91, "Music and Tradition in Yemen", Asian Music, Vol XXII, 1: 51-71.
SCHUYLER Philip, 1993, On operet Wadî Saba (en cours de publication).
SLOBIN Mark, 1976, Music in culture of Northern Afghanistan, Tucson, Arizona.
sociology, vol LXXXIV: 135-149.
Theory in the Yemen Arab Republic", Ethnomusicology, vol. 34, 1: winter 90: 1-18.

content

يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.