منذ بدء النزاع، شهدت اليمن موجات من النزوح الإضطراري والإجباري والطوعي والاختياري، في إطار مستويين رئيسيين، داخلي، بالنسبة إلى الأغلب الأعم من الفئات الوسطى والدُنيا، في إطار المناطق اليمنية، وخارجي، بالنسبة للأغلب الأعم من الطبقات العُليا، حيث تعددت بالنسبة لهم وجهات ومحطات العبور والإستقرار الإقليمية، ابتداءً من العاصمة المصرية القاهرة، والعاصمة الأُردنية عمان، بالإضافة إلى العاصمة السعودية الرياض، والعاصمة الإماراتية أبو ظبي، والعاصمة القطرية الدوحة، والعاصمة العمانية مسقط، والعاصمة اللبنانية بيروت، ومدينة اسطنبول التركية، وماليزيا وبلدان القرن الأفريقي، في إطار جُملة من الموجهات السياسية الفاعلة في تطورات وتفاعلات الصراع، فيما كانت العديد من العواصم والمدن الأوروبية، بالإضافة إلى العديد من العواصم والمدن الأمريكية والبريطانية والسويسرية والكندية، هي المحطة النهائية للآلاف من اليمنيات واليمنيين المهاجرين، من تلك الطبقات.
وعلى مدى عقد كامل من الصراع في اليمن، وجهت موجات النزوح واللجوء والإغتراب والهِجرة، جُملة من المُحددات، أهمها: الإستقطاب السياسي والحربي والتسكين والإعاشة، والرعاية والإعاشة السياسية والحربية، والعمل في إطار مسارات الدعاية الحربية ومنصاتها، والعمل في إطار مسارات العلاقات الخارجية الموجهة من قبل الأطراف المحلية والإقليمية، والهروب الإضطراري من الإستهداف والملاحقات والمخاطر والإضطهاد، مروراً بفرص العمل في إطار المكاتب الإقليمية للمؤسسات والوكالات والبِعثات، والفرص الدراسية وفرص التدريب والتأهيل، وفرص العمل الدبلوماسي، وفُرص العمل وتصاعد نسبة المُغتربين، واللجوء والهجرة وإعادة التوطين في إطار التطلعات لحياة أفضل، واللجوء والهجرة وإعادة التوطين المُسيسة والموجهة من قبل عدد من الأطراف والجماعات المحلية والإقليمية، وصولاً إلى نزوح واغتراب وهجرة الإستثمارات ورؤوس الأموال، ونزوح واغتراب وهجرة الكفاءات والكوادر المهنية، وانتهاءً بظاهرة مؤسسات المجتمع المدني وفعالياتها وأنشطتها (المُهاجرة).
ورغم كثافة مُتطلبات الهجرة وإعادة التوطين والنزوح والإغتراب، الروتينية، فقد عمد الكثير من يمنيات ويمنيي المهجر، إلى مواصلة انخراطهم الفعال في الشأن اليمني، بما في ذلك العمل الحثيث في خدمة أطراف الحرب التي يوالونها، في الداخل، ضد الأطراف المُقابلة لها، والعمل على إثارة خطاب الكراهية، وفي حملات التشهيير ونشر التلفيقات والفبركات، ضد أي أصوات مُغايرة لصوت (المعركة) وأطرافها، وفي تقديم سرديات مُزيفة عن جنان المناطق الخاضعة لسيطرة الأطراف التي يوالونها، وعن جحيم المناطق الخاضعة لسيطرة الأطراف المُقابلة، مع استمرارهم في التحريض على استمرارية الحرب وإذكاء الصراع، حتى تحقيق الإنتصار الكُلي والحاسم، في حين ركز عدد آخر على مُتطلبات بناء حياة جديدة، مع المتابعة الهادئة والصامتة لتطورات وتفاعلات الأوضاع في اليمن.
وباستثناء عدد محدود من يمنيات ويمنيي المهجر واللجوء والنزوح والإغتراب، انتهجوا مسار الجهود البناءة والإيجابية، للإسهام في مواجهة الآثار الكارثية التي تواصل تقويض كل سُبل الحياة في الوطن (الأم)، طبقاً لحقائق دقيقة حول تطورات وتفاعلات الوضع في الداخل اليمني، بمعزل عن سرديات الدعاية الحربية للأطراف، فقد عمد الأغلب الأعم من يمنيي الخارج إلى العمل في إطار مدارات أطراف الحرب وسردياتها وموجهاتها وغاياتها، في ظل رعاية شاملة تضمنها مسارات الهجرة واللجوء والنزوح والإغتراب في مواطنهم ومواطن علائلاتهم الجديدة، والتي ندحض كلياً أي فرضية بالإضطرار أو الحاجة لتلك الوظائف والأنشطة الحربية، والمفارقة، في ظل احتفاظ الوكلاء الحربيون، بالكثير من المنافع والعائدات غير المشروعة، في ملاذات السوق السوداء، والتي توفرها محطات (البلد الثالث)، للتهرب من الضوابط والالتزامات القانونية الخاصة بالذمة والسجلات المالية، من قبل جهات الرقابة والتدقيق، في إطار سيادة القانون والمساواة في الحقوق والواجبات والمنح والتسهيلات والإلتزامات، بين جميع المواطنات والمواطنين، في كامل مجال بُلدان المهجر.
وفي حين احتضنت صنعاء والحديدة وعدن ومأرب وتعز وحضرموت وشبوة والمخاء، العديد من موجات النزوح، كأبرز المحطات المحلية، استقبلت العواصم والمُدن السعودية والإماراتية، الحصة الأكبر من النازحين خارجياً، تليها مصر، ثم الأردن، ثم قطر فعُمان، فتركيا فلبنان فالبحرين فالكويت، حيث تُبدد كتلة ضخمة من العاطلين، فاتورة ضخمة من المُخصصات والميزانيات الرسمية وغير الرسمية، لتأمين متطلبات التسكين والمعيشة وغيرها من أوجه الإنفاق، دون وجود أي أسباب أمنية أو سياسية حقيقية لذلك الوضع غير الطبيعي، فاليمن حالياً تحت سلطة عدة أطراف.
ورغم السلبيات الكثيرة لسيطرة أطراف وسلطات متعددة، مُتباينة وغير مُتجانسة، على مُختلف مناطق اليمن، فإن الإيجابية الوحيدة لذلك الوضع غير الطبيعي، تتمثل بالخيارات العديدة المُتاحة أمام اليمنيات واليمنيين، للعيش قسراً أو طوعاً بعيداً عن أي منطقة تحت سُلطة أي طرف في الساحة، في ظل إمكانية الإنتقال إلى مناطق سيطرة طرف آخر، في ظل مناخ يختلف إلى حد بعيد، بين منطقة وأُخرى، وهي مساحات داخل اليمن، أولى بتلك النفقات المهولة من العُملة الصعبة، والتي يتداولها عشرات الآلاف من اليمنيات واليمنيين، الذين طال كثيراً مُقامهم في عواصم ومدن دول الجوار، بغض النظر عن ماهية ومصادر ومشروعية واستحقاق تلك النفقات.
وبالإضافة للعديد من الآثار السلبية والكارثية، السياسية والإقتصادية والإجتماعية والديموغرافية، الناتجة عن الوضع غير الطبيعي، للتجمعات اليمنية الضخمة في غير عاصمة ومدينة خارج اليمن، فإن تلك الكُتل السكانية، قد أصبحت ملاذاً للكثير من الأنشطة غير القانونية، وحاضنة لطِباع وممارسات التبطل والإعالة والإبتزاز، بالإضافة إلى ما وفرته السيولة المالية الناتجة عن فوارق العُملة الصعبة من مساحات آمنة لاستغلال الأوضاع الإقتصادية والمعيشية والإنسانية المتدهورة داخل اليمن، في إطار الأسواق السوداء، من خلال عمليات منظمة لاستدراج الفتيات من صغار السن إلى مصائد ومتاهات خفية لتجارة الرقيق الأبيض وأعمال الدعارة، بمعزل عن آليات الحماية القانونية والمُجتعية.
وبالإضافة إلى الإشكالات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية والأمنية، التي تخلقت وتفاقمت، داخل وخارج اليمن، بفعل طول أمد النزاع، فقد برزت إلى السطح (ظاهرة) المُجتمع المدني (المُهاجر)، والذي يشمل شبكة واسعة الناشطات والنشطاء، والباحثات والباحثيين، والصحفيات والصحفيين، والسياسيات والسياسيين، والمؤثرات والمؤثرين، والذين انتهى بهم المطاف، قسراً أو طوعاً، إلى شكل من أشكال الهجرة أو اللجوء أو الإغتراب أو النزوح، في العديد من العواصم والمدن، خارج اليمن، فاختاروا تأبيد وتوطين وتقعييد حالة التواجد التي كان يُفترض أنها مؤقتة ومحدودة واستثنائية وعارضة، خلافاً لأصالة التواجد على الأرض، ككوادر وأفراد وأنشطة وعمليات وبرامج وتدخلات ومجالاً للتنفيذ والتشغيل والإنفاق.
وعاماً بعد أُخر، اتسعت الفجوات الهائلة بين المجتمع المدني في الداخل من جهة، والمجتمع المدني (المُهاجر)، من جهة أخرى، من الرؤى والتصورات والأهداف والأولويات والتقديرات، والأنشطة والعمليات والبرامج والتدخلات والخطط ومجالات التنفيذ والتشغيل والتوظيف والإنفاق، مروراً بقراءة وتقييم موجهات ومضامين ونتائج تطورات الأوضاع ومآلاتها، وتحديد وتعريف وتمثيل أصحاب المصلحة، وترتيب الأولويات، مع اشتداد حدة التنافس على الموارد المحدودة، المُخصصة لأنشطة وبرامج وعمليات مؤسسات المجتمع المدني، بمجالاته الواسعة، وهو المجتمع المدني (المُهاجر)، للذهاب بعيداً لتفسير وتبرير حالة وجوده وبرامجه وأنشطته، خارج اليمن، حيثُ عمد إلى رسم صورة ذهنية هدفت إلى تقويض سمعة المُجتمع المدني المُستمر في وجوده وأنشطته (داخل اليمن)، وفرض سرديات جازمة باستحالة التواجد والتنفيذ الفعال في مختلف المناطق اليمنية، وبعدم صدقية وحقيقية مؤشرات ونتائج وتأثير الجهات والبرامج والأنشطة والعمليات المُستمرة على أرض الواقع، ومع ضخامة وكثافة وتعدد مصادر وسائل تصدير تلك العناوين على نطاق واسع (خارج اليمن)، ذهبت الكثير من مُخصصات الإستجابة الإنسانية، إلى برامج وأنشطة العمل المُكلفة على الوضع في اليمن، المُنفذة كلياً (خارج اليمن).
كما عمدت شبكة واسعة من الفاعلين اليمنيين في المهجر، إلى استغلال فرصها الكبيرة للتحرك وسط مُجتمع المانحين والداعمين خارج اليمن، مقابل القيود التي فاقمتها أطراف الحرب على حرية التنقل والسفر من وإلى اليمن، وصعوبة وتعقيد إجراءات ومتطلبات العبور والوصول إلى الأغلب الأعم من العواصم والمدن حول العالم، مع توظيف كافة القيود الحقيقية التي تفرضها أطراف الحرب، على أنشطة وعمليات المجتمع المدني (في الداخل)، في سبيل تعزيز صورة الوضع المُغلق والمُعتم كلياً، في وجه التواجد والنشاط المدني، مع التشكيك الدائم في نزاهة ومؤسسية وكفاءة واستقلالية وتأثيرات ونتائج أنشطة وعمليات وتدخلات مؤسسات المجتمع المدني العاملة في الداخل.
وتخلقت تباعاً، حالة من تضارب المصالح، بين مؤسسات العمل المدني والإنساني والحقوقي والبحثي، في الداخل، وبين قِطاع عريض من الفاعلين اليمنيين في نفس المجالات، في المهجر، وامتدت إلى نطاقات أوسع، لتشمل فئات واسعة من المجتمع اليمني (في الداخل)، وفئات المجتمع اليمني (في المهجر)، وهي مضامين حالة حقيقية قائمة، لا مناص من أخذها في الإعتبار، في كافة مسارات ومستويات العمل على الوضع في اليمن، بما في ذلك تعزيز آليات التدقييم والتقييم المُستقلة لكُل ما يُقدم على هيئة مسلمات ويقينيات وحقائق حول الوضع في اليمن، كموجهات أو كاستخلاصات أو كنتائج أو كغايات أو كمطالب أو كتوصيات أو كآليات أو كحلول أو كتعريفات أو كتصنيفات أو كأنشطة وبرامج وعمليات، كشروط لازمة لضمان فاعلية وجدوى ودقة واستنارة أي تدخلات وأشكال استجابة تغطيها موارد دافعي الضرائب والمانحين.
ولذا، فمن المهم أن يكون أحد الموجهات الإستراتيجية، لكافة أشكال الدعم الإقليمي والدولي، الهادفة إلى إحداث أثر إيجابي حقيقي في وضع اليمن واليمنيين، أن تكون مشروطة بالعمل في اليمن، تكويناً، وتواجداً، وإنشاءً، وتخطيطاً، وتنفيذاً، وتشغيلاً وتوطيفاً وإنفاقاً، وتقليص، وتحفيز المجتمع المدني (المهاجر)، لإنهاء حالة (الإغتراب) التي طال أمدها، والعودة إلى اليمن، للإسهام في جهود التعافي، جنباً إلى جنب مع مختلف فئات المُجتمع اليمني (في الداخل)، في إطار استراتيجية شاملة لتقليص الإطار الواسع الذي تُبدد في ثقوبه السوداء، مُخصصات وموارد هائلة، كنفقات لأنشطة وبرامج وفعاليات شكلية ودعائية، مُنعدمة الأثر، تحت مُسمى العمل على ملفات الوضع في اليمن، من خلال جيش ضخم من المعلقين والمُنظرين والخبراء والمُتحدثين، في الوقت الذي تتضاعف فيه حاجة اليمن للعاملات والعاملين على الأرض، في مُختلف مناطق اليمن.
وبالطبع، فإن معالجة الوضع غير الطبيعي، وغير المُبرر، لعشرات الآلاف من اليمنيات واليمنيين، بما في ذلك شبكة يمنية كبيرة من الجهات والكوادر، تضم جيشاً ضخماً من الناشطات والنشطاء، والباحثات والباحثيين، والصحفيات والصحفيين، والإعلاميات والإعلاميين والسياسيات والسياسيين، والأكاديميات والأكاديميين، والمؤثرات والمؤثرين، اللذين طال مقامهم خارج أراضي اليمن، لا تهدف مطلقاً إلى المساس بالحقوق الأصيلة، لليمنيات واليمنيين، اللذين اختاروا بإرادة كاملة الهجرة واللجوء إلى ملاذات جديدة من أجل ضمان حياة أفضل لهم ولعائلاتهم، والتزموا بمتطلباتها ومُقتضايتها، فمحل الإصلاحات المُلحة التي يجب مباشرتها دون تأجيل، من أجل وضع حد للحمولة الثقيلة الضاغطة على الأوضاع المُتفاقمة في اليمن، والمُتمثلة بفواتير بقاء جيش ضخم من اليمنيات واليمنيين، كأفراد وجهات وكيانات وبرامج وأنشطة، في حالة غير طبيعية وغير مألوفة، وغير مُفسرة وغير مبررة وغير مقبولة، من الإقامة والإجازة الطويلة المفتوحة، في عواصم ودول الجوار، المدفوعة على حساب (الوضع في اليمن)، ولن تكون أي تُساهم في تكريسها وتطبيعها وضمان استمراريتها، سوى ضربٌ من ضروب المشاركة الفعالة والممنهجة في عمليات الفساد والإفساد.
يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.