المرأة اليمنية في التشريع (الفقه الإسلامي)، والعرف القبلي غايةٌ في القسوة والتعقيد والتخلف، وهي في الواقع وفي الأمثال الشعبية أكثر قسوة. فهناك ترافد وتأثر وتأثير بين كُلِّ هذه المستويات.
في البدء لا بُدَّ أنْ ندركَ أنَّ الفقه الإسلامي بصورة عامة: آراء الصحابة، أو التابعين، أو أئمة المذاهب- هي آراء شخصية باعتراف أئمة المذاهب أنفسهم، والخلفاء، وكبار الصحابة قبلهم. فما يقوله الأئمة هو عبارة عن فهمهم للنصوص، سواءٌ أكانت قرآنًا أم حديثًا، والخلافات حول الأحاديث كثيرة، ولم يعمل الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان إلا ببضعٍ منها، واعتمد في فقهه على الرأي والقياس.
ويقول الإمام مالك بن أنس: "كُلٌّ مِنَّا مأخوذٌ من قوله ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر". وأشار إلى قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم.
ويقول الإمام أبو حنيفة: "هذا رأيٌ رأيناه، فَمَنْ أتانا بأحسنَ منه أخذنا به". ويقول الإمام محمد بن إدريس الشافعي: "رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب".
ويتناول المؤرخ جواد علي في «المفصل في تاريخ العرب»، قضايا الزواج، وكفاءة النسب، والإرث، والديات. وحقًا، فإنَّ التمييز والتفاوت الاجتماعي داءُ المجتمعات البشرية منذ القدم.
ويورد المؤرخ الآيتين: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق). [الأنعام: 151]. (ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانًا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا). [الإسراء: 33]، ويشير إلى أنَّ أهل الجاهلية كانوا إذا قتل رجلٌ رجلاً؛ عمدَ ولي القتيل إلى الشريف من قبيلةِ القاتل، فقتله بوليه وترك القاتل (1).
وعلى هذه النظرية الطبيعية بنوا أثمان الديات؛ أي ثمن الدم. فدية الملوك في الجاهلية أغلى ما دفع ثمنًا عن دم؛ إذ جُعلت دية الملك ألفًا من الإبل؛ فعرفت لذلك بدية الملك.
يليها في الثمن ديات الأشراف وسادات القوم؛ حسب الشرف والمنزلة، حتى تصل إلى ديات المغمورين المطمورين؛ فتكون أقلها ثمنًا؛ إذ تبلع خمسًا من الإبل، وقد تنقص عن ذلك. وعلى هذه النظرية القائمة على الفوقية والتحتية قُدِّرتْ فدية الأسرى أيضًا (2).
ويجري التمييز في تزويج بنات الأشراف والأسر من رجال هم دون البنت في المنزلة؛ وهو عرف يراعونه، ويحافظون عليه إلى يومنا هذا، ويزدرون من شأن الخارج على التكافؤ بين البنت والولد في الزواج، وقد يرفضون زواج رجل ثري مكتنز للمال من امرأة فقيرة شريفة الأصل؛ إذا كان الرجل من أصل ذابل؛ كأنْ يكون أبوه أو جدُّهُ «صانعًا»، أو «خضَّارًا»؛ لأن الأصل في نظر العرب فوق المال (3).
ويشير المؤرخ إلى رفض النعمان ين المنذر طلب كسرى الزواج من إحدى بناته. وللموضوع ارتباط بما يسميه الفقه الكفاءة. ومعنى الكفاءة عند الذين رأوها في الزواج أن يتساوى الرجل مع المرأة في الأشياء التي تحددها المذاهب الفقهية.
وقد تم تحديد الكفاءة في الرجال دون النساء؛ لأنَّ الرجل لا يُعيَّر بزواج مَنْ هو أدنى منه بخلاف المرأة.
وقد اتفق الحنفية والشافعية والحنابلة على احتساب الكفاءة في الإسلام، والحرية، والحرفة، والنسب، واختلفوا في المال واليسار، فاحتسبته الحنفية والحنابلة، ولم تحتسبه الشافعية.
أمَّا الإمامية والمالكية فلم يحتسبوا الكفاءة إلا في الدين (4). ويقينًا فإنَّ مسألة الكفاءة في الفقه لا علاقة لها بجوهر الدين الإسلامي، وهي مرتبطة أو آتية من قيم الأعراف القبلية وعاداتها وتقاليدها، ولها تعلق بالإرث، وانتقال المال، أو تملك الأرض؛ وسوف يتم تناول الأعراف القبلية في هذا المقام.
لم يقف التمييز في الكفاءة في الزواج عند تخوم الاعتقاد وقضايا الإيمان، بل امتد إلى الأنساب، والأحساب، والصنائع، والحِرَف، والأصل، والفصل. فالإمام أحمد بن سليمان حرَّم زواج الهاشمية من غير هاشمي، وقصة الخلاف بين المهاجرين الحضارم: العلويين والإرشاديين في الجُزُر الإندونوسية معروفة وشائعة.
وقد وصل الأمر ببعض الفقهاء إلى القول بأنَّ زواج غير الهاشمي من الهاشمية إساءة إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم!
ويناقش المفكر المستنير أحمد علي الوادعي - شفاه الله - في كتابه «حقوق المرأة اليمنية بين الفقه والتشريع» نصين؛ هما: "اليمنيون متساوون في الحقوق والواجبات العامة"، و"النساء شقائق الرجال"؛ فيقول: "فهذان النصان لا يمكن استنفاد طاقتهما المضمونية دون الأخذ بهذه الوجهة من النظر؛ ولعلَّ هذه الوجهة تبلغ درجة عالية من التأكيد والوثوق إذا أخذنا في الحسبان النهج الذي سلكته التشريعات اليمنية في معالجتها لقضية التمييز.
وهذا النهج يتجسد في سياسة الوضوح والفصل بشأن المسائل التي تشتبك فيها حقوق الرجال والنساء؛ وذلك بأن يذكر القانون حكم المرأة في كل مرة يريد إفرادها بحكم خاص، ويسكت عند أن يتغيَّا بقاء الحكم على إطلاقه وشموله للمرأة والرجل على السواء.
ففي العلاقات الزوجية مثلاً أجاز القانون للرجل أن يتزوج امرأة غير مسلمة؛ إذا كانت من بَنَى بها كتابية، ولم يُجِز لليمنية المسلمة التزوج بغير المسلم، ولو كان كتابيًّا". محيلاً إلى المادة (26) مِنْ «قانون الأسرة» (5).
وفي المواريث: إذا مات الزوج ورثت الزوجة مثل نصف ما يرث الزوج لو هي ماتت؛ حسب المواد: (12/ 1)، و(13/ 1)، و(14/1) مِنْ قانون الأسرة (6).
والملاحظ أن الموقف من المرأة يتسم بالدونية والتمييز في التشريع الفقهي، والقوانين الرسمية، وحتى دساتير الجمهورية العربية اليمنية -إذا ما استثنينا دستور ثورة سبتمبر 1962، ودستور دولة الوحدة المُسْتَفتي عليه- فإنَّها لا تقر بالمساواة، وتلجأ إلى الصيغ الملتبسة.
ثم إنَّ الأعراف القبلية، وإن اتسمت بقدرٍ من الدونية والانتقاص حد فرض القيود على الزواج خارج القبيلة بسبب التوريث ونقل ملكية الأرض- إلا أنَّها أوضح.
كُلُّ اليمنيين لا يورثون المرأة. ففي الريف والمناطق القبلية تُحْرَم المرأة من الإرث. أمَّا في المدن فيتم التحايل على توريث النساء؛ فحكيم المزارعين علي وَلْد زايد؛ وهو آتٍ من ريف مدينة يريم؛ المنطقة الحضرية؛ يقول: "قتل البَزِيْ قبلْ يكبرْ؛ إذا كبر عَذَّبَ الخال". والبزي ابن الأخت. فهو يدعو ويحرض على قتله؛ حتى لا يطالب بإرث أمِّه من خاله.
ولا يقتصر الفقه والقوانين والأعراف القبلية على ازدراء المرأة والتمييز ضدها؛ فهناك العشرات من الأحاديث: صحيحة، وحسنة، وضعيفة، ومرسلة باصطلاح المحدثين- لا تخلو من التمييز حد التحقير.
ومن الأحاديث التي تعرضت للنقد والشكِّ بصحتها حديث رواه البخاري عن أبي بكرة قال: "لقد نفعني الله بكلمة أيام الجمل. إذ لمَّا بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ فارسًا ملكوا عليهم ابنة كسرى، قال: لن يُفلِح قومٌ ولوا أمرهم امرأة". «البخاري»: (5 /136). وجاء مكررًا في (8/97).
يعقب الأستاذ فوزي في كتابه «تدوين السنة»: "والذي يؤكد أنَّ هذا الحديث موضوع هو الظرف الذي رُوِيَ فيه الحديث، وكذلك الكذب في متن الحديث" (7).
فأمَّا الظرف فقد رواه أبو بكرة في البصرة بعد انكسار جيش الأمويين الذي كانت تقوده عائشة لمحاربة علي بن أبي طالب. فقد أراد أبو بكرة أنْ يعلل سبب انكسار هذا الجيش بأنَّ الذي كان يقوده امرأة.
وأمَّا الكذب في متن الحديث فهو القول بأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لما بلغه أنَّ الفرس ولوا عليهم ابنة كسرى؛ في حين أنه ليس في تاريخ الفرس أنهم ولوا عليهم ابنة كسرى ولا أي امرأة أخرى" (8).
وقد تعرضت لهذا الحديث السيدة المغربية فاطمة المرنيسي في كتابها «النبي والنساء»، الذي نُشِرَ باللغة الفرنسية ضمن جملة من الأحاديث التي جاءت في الصحيحين ضد المرأة كحديث: "أكثر أهل النار من النساء"، وحديث يقول بأنَّ: الشؤم في المرأة، وحديث يقضي بأنَّ شهادة المرأة نصف من شهادة الرجل بسبب نقصان عقلها... إلخ.
وتساءلت السيدة المرنيسي بشيءٍ من الشك: "لماذا كان محمد ضد المرأة، وهي امرأة مسلمة ومؤمنة؟!" (9).
وكان لهذا الحديث: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) أثرٌ كبير في إقصاء المرأة عن المجتمع الإسلامي. وقد انقسم المسلمون فيه قديمًا وحديثًا إلى فريقين. فالذين رأوا أنه صحيح، قالوا: لا يجب تولية المرأة القضاء ولا غيره من شؤون الدولة، وأمَّا الذين لم يأخذوا به، فقد أجازوا تولية المرأة القضاء وغير ذلك من شؤون الدولة؛ ومنهم الإمام الطبري (10).
ويقول: "وفي أيامنا هذه بعد أن تعلمت المرأة، وبرزت في شتى العلوم، ما يزال الأصوليون (جماعة علم أصول الدين) يتمسكون بهذا الحديث الباطل، ويحاولون إقصاء المرأة عن المجتمع وحبسها في بيتها، ويعارضون انتخابها للمجالس التشريعية والمحلية، وأنْ تتبوأ المناصب الحكومية في الدولة كما رأينا في كثير من الدول العربية الإسلامية" (11).
وهكذا يتضح بأن هناك انتقاصًا وتمييزًا ضد المرأة يبدأ من التأويل، والأحاديث، والفقه، والقوانين والتشريعات، وتظل العادات والتقاليد البالية، والممارسات الواقعية أشدُّ قسوةً وظلمًا وتمييزًا.
المرأة في العُرْف القبلي
يتناول الدكتور فضل أبو غانم في أطروحته للدكتوراه «البنية القبلية في اليمن» العُرفَ القبلي بوصفه سلطة من سلطات المجتمع تتعلق بالمعتقدات التي تسري بين أفراد ذلك المجتمع الذي يقوم العُرف فيه بوظيفة القانون الوضعي؛ إذ يعد الجانب التقنيني للتقاليد والعادات الجمعية وآداب السلوك العامة.
ويرى الدكتور غانم أن دراسة النظام العُرفِي في المجتمع القبلي في اليمن مبحث مهم وضروري، لا لمعرفة نُظُم الضبط والتنظيم الاجتماعي القبلي فحسب، بل لفهم نوع السلطة التقليدية ومعرفتها أيضاً، وشكل الإدارة السياسية الرسمية في المجتمع القبلي موضوع الدراسة القائم إلى الآن (12).
وفي مقدمته لكتاب «قواعد الملازم»، يشير جان لامبير إلى: أنَّ الباحث البريطاني بول دريش في دراسته لـ «قواعد الملازم» (دراسة وثائق عرفية وقبلية من برط) القواعد؛ وهي أهم مبادئ وشرائع العرف القبلي. "فهي نتاج عمل دؤوب ومجتهد من الكاتب الذي اكتشف بنفسه واحدًا من النصوص الثلاثة المقدمة في نهاية السبعينات، الذي شكل مُلحقًا لرسالته في العام 1985، كما استخدمت نسخ منه في أعمال الباحثين الاجتماعيين اليمنيين مثل: فضل أبو غانم 1985، ورشاد العليمي 1986، ولكن بالاستعانة بالتحقيق المرفق بهذا الكتاب" (13).
ويرى صعوبة التوصل إلى هذه النصوص المتوجب تفسيرها بشكل مستمر؛ إذ إنَّ هذه النصوص التي تعبر في الوقت نفسه عن ثقافة شفهية مكتوبة بلغة عربية ذات مصطلحات عُرفِية.
ويرى صاحب المقدمة إنَّ بول دريش لم يقم بهذه التفسيرات المتعددة إلا بفضل خلفيته ومعرفته الواسعة عن القضاء القبلي المعاصر، ومن خلال القيام بتحقيق طويل دامَ أعوام (14).
إنَّ إحدى المشكلات المرتبطة بدارسة القضاء القبلي هو كونهُ غيرَ منفصل عن المفاهيم الرئيسة من جهة، والمفاهيم الأخلاقية الإنسانية "للذات" القبلية من جهة أخرى. ولهذا السبب من الصعب مقارنته بالأنظمة القضائية المكتوبة، ومناقشة ميزاته الخاصة (15).
و«قواعد السبعين» والقواعد المتفرعة عنها تعبر عن الضوابط الاجتماعية المتعارف عليها في العلاقات والمعاملات بين الأفراد والجماعات القبلية المختلفة؛ إذ تتمثل أهميتها في أنها الأساس الذي تستند عليه الأحكام والقرارات الخاصة ببعض المنازعات (16).
ويُعَدِّد الدكتور أبو غانم الضوابط في الآتي:
1- إنَّ العرف القبلي يمثل القانون العام المتعارف عليه مِنْ قِبَل كل أفراد المجتمع القبلي، سواء في غياب سلطة الدولة وقوانينها، أم في وجود الدولة ونظمها وقوانينها.
2- إنَّ العرف يمثل نظامًا اجتماعيًّا عرفتهُ القبائل اليمنية منذ زمن طويل كما يتضح في هذه الدراسة.
3- إنَّ العرف يمثل نظامَا ثابتَا قويًّا يتبعه الناس بطريقة منظمة، ويتضمن قواعد ومعايير محددة وله صفة الاحترام.
4- إنَّ العرف يُعد قانونًا مُلِزمًا. وهذا هو الشرط المهم الذي يميز العرف عن العادة. وهذا يعني أنَّ أفراد المجتمع مُلزمون باتباع ذلك، وأنهم معتقدون بوجود جزاء قانوني يجب تطبيقه عند مخالفة الشخص أو الجماعة لأيٍّ من القواعد العرفية.
5- لا يتضمن العُرْف أيَّ مخالفة للقانون، أو الآداب، والنظام العام في المجتمع؛ بل يُنظر إليه بأنه سلطة قوية تعمل على ضبط القيم الروحية والخلقية ورقابتها ورعايتها من خلال ما يتضمنه من أحكام زجرية على السلوك والأفعال التي يؤديها الأفراد (17).
المرأة في قواعد الملازم
في نص القاعدة (3): "وكان فعل الشُّوفَة (فعل المرأة) ما فيه سنة، إلا إذا بِهْ أفعال في رِجَّالْ، واعتذر فاعل الشوفة أنها غاربة؛ فعنده دين العمد، وكان فيها شرعها (كان يسوق شرعها). وإذا فعل الليل؛ فكان فيه دين العمد" (18).
يفسر الدكتور العليمي القاعدة بأنَّ الاعتداء إذا كان خطأً؛ فيُلزم الجاني اثنين وعشرين يمينًا أنهُ لم يقصد الاعتداء، وإنْ رفضَ تقديم الأيمان؛ فحكم الاعتداء على المرأة تُضَاعف فيه العقوبة إلى أربعة أضعاف. وفي حالة الاعتراف بالاعتداء؛ فعليه مضاعفة العقوبة إلى ضعفين، مع تقديم بعير سُبَاعي (جمل من أحسن الجمال)، وسُبَاعِّية (سبعة مذارع قماش)، وبعدها له الصلة (19).
وتتناول الأعراف القبلية قضايا الزواج، والقتل، والإرث، والدية، والزنا، والاغتصاب، والاعتداء، وتترك قضايا الخطبة، والمهور، والطلاق، وخصومات الزوجين للشريعة الإسلامية والمحاكم الشرعية.
ففي قضايا الزواج يُفضَّل الزواج من القريب، وفي حال عدم وجوده أو بُعْدِه، تُعْطَى الأولوية للجار.
ويرى الدكتور غانم أنَّ رجال القبائل لا تفرض الزواج الداخلي فيما بينهم إلا في بعض الحالات النادرة؛ لأنَّ الزواج المفضل هو من الأقارب، وأعضاء الُّلحْمَة (القسم)، وكذلك من القبيلة نفسها (20).
ويؤكد على ارتباط الزواج بالعمل في الأرض؛ فهم يفضلون عند الزواج الارتباط بالجار من الارتباط بالأقارب الذين يسكنون في أماكن بعيدة؛ وهم يعبرون عن ذلك ببعض الأمثلة المحلية؛ ومنها: "جارك القريب ولا أخوك البعيد" (21).
المواريث
سبقت الإشارة إلى قصة توريث المرأة في المجتمع، سواء في القبيلة أم في الأرياف والمدن. وترتبط قضية الإرث بالزواج أيضًا. فإذا تزوجت المرأة من رجل خارج العشيرة أو القبيلة، فإن قضية توريثها يثير كثيراً من المشاكل للبَدَنة أو العشيرة التي تنتمي إليها تلك المرأة (22).
ولعلَّ أبرز تلك المشكلات دخول شخص غريب من قبيلة أو بدنة أخرى إلى أملاك العائلة أو البدنة التي تنتسب إليها الزوجة الوارثة. لذلك يلجأ كثيرون إلى استخدام الحيلة في عدم توريث النساء، كما يلجأ بعضهم، وربما كثيرون، إلى أنْ يكون الزواج داخليًّا لأسباب قرابية واقتصادية في الوقت نفسه؛ وهو عدم توزيع الملكيات الزراعية (23).
ويذهب الدكتور العليمي إلى أنَّ العامل الفردي أو الشخصي يلعب دورًا محوريًّا؛ فعدم توريث النساء يعد سُلوكًا شخصيًّا يختلف من فردٍ إلى آخر (24).
إلا أنَّ الواقع، وطبيعة المجتمع الأبوي، والأسرة الممتدة، والحدود، وغلبة الملكية العامة، والسيطرة الذكورية لا يزكي مثل هذا الرأي الذي قد يكون معقولاً في بعض الأرياف والمدن.
وقد عادَ الدكتور العليمي ونقضه بقوله: "إلا أنَّ إصرار القبائل على عدم توريث النساء قد ورد في كتابات تاريخية. فيحدثنا محمد بن علي الشوكاني في القرن الثالث الهجري عن إصرار القبائل على عدم توريث النساء، وإصرارهم على هذا الأمر (25).
وقضية مواجهة الإمام يحيى وحملته ضد حاشد لعدم توريث النساء، وتسميته بالطاغوت معروفة.
دية المرأة والقصاص
في كُلّ القُبُل اليمنية والمجتمع اليمني تقريبًا لا يقاصّ الرجل بقتله المرأة، وتتطابق الأحكام الشرعية في المذاهب الشافعية، والزيدية، والمالكية في عدم القصاص، ولكن الحنفية وبعض الاثني عشرية يقولون به.
ويناقش المحامي والباحث أحمد الوادعي «الإعلان العالمي للقضاء على التمييز ضد المرأة»، ويدرس مدى تصادمه مع الشريعة والقوانين اليمنية. فالمادة السابعة من الإعلان العالمي للقضاء على التمييز ضد النساء تنص على أنْ: "تُلْغَى جميع أحكام قوانين العقوبات ضد المرأة".
ويعلق الوادعي عليها: "هذه المادة تعمق مبدأ المساواة أمام القانون، لكنها تركز على مبدأ المساواة في مجال قانون العقوبات، وتدعو إلى إلغاء النصوص التي تتضمن تمييزًا ضد المرأة. والتمييز ضد المرأة هنا يتخذ شكلين من عدم المساواة؛ هما:
- أن يُفرِّق بين الرجل والمرأة في العقوبة على فاعل الجرم في أيٍّ منهما؛ بحيث يعاقب الجاني على المرأة بأخفَّ من العقوبة التي تُوقع على فاعلة ذات الجرم في الرجل. مثلًا: في آراء بعض علماء الفقه الإسلامي أنَّ المرأة إذا قتلت الرجل عمدًا استحقت القصاص كالرجل، واستحقت – فضلاً عن ذلك- دفع نصف دية الرجل إلى ورثة القتيل؛ لعدم الكفاءة في حرمة دم كُلٍّ منهما؛ وهو رأي قاله الهادي يحيى بن الحسين، وابن عباس، والقاسم، والناصر. وإذا قتلَ الرجل امرأةً قُتِلِ بها، ولكن على ورثة المرأة المقتولة دفع نصف دية إلى ورثة القاتل الرجل. وهو رأي فقهي لدى الفقهاء جميعًا ما عدى عثمان البتِّي؛ وهو المُطبَّق في المحاكم اليمنية (26).
- يضيف أنه: لو قتل رجلٌ مائةَ امرأة؛ فيُقتصُّ منه؛ وعلى ورثة النساء المائة دفع نصف دية لورثة القاتل فقط.
وهكذا تكاد المذاهب الإسلامية تجمع - باستثناء الأحناف وعثمان البتِّي- الذي أشار إليه المحامي الباحث أحمد الوادعي - على عدم قصاص الرجل بالمرأة. ويتميز الفقه الحنفي، وأيده العلامة محمد رشيد رضا في تفسيره «المنار» في التصدي للقائلين بهذا الرأي استنادًا للآية الكريمة: (النفس بالنفس)، وبالحجاج المقنع (27).
أمَّا أئمة الفقه الشافعي فيبالغون في تفاصيل التراتب والتمييز. فالإمام النووي في كتابه «منهاج الطالبيين»؛ وهو عمدة الشافعية، يقول: "والمرأة والخنثى كنصف رجل نفسًا وجُرْحًا. ويهودي ونصراني ثلث مسلم. ومجوسي ثلثا عُشْر مسلم، وكذا وثنيٌ لهُ أمان. والمذهب أنَّ مَنْ لم يبلغه الإسلام إنْ تَمسَّك بدينٍ لم يبدل؛ فدية دينه، وإلا فكمجوسي" (28).
أمَّا الأعراف والتقاليد القبلية اليمنية، فتُجْمِع «قواعد الملازم» على عدم قتل الرجل بالمرأة، وتعامل المرأة بمعاملة الطفل نفسها في العقوبة. ذلك أنَّ القواعد العرفية تعد الاعتداء على المرأة أو مقاومتها أمرًا مُخّلاً بكل قواعد العرف ومبادئ القبيلة، لكن في حالة اعتدائها؛ تتحمل العشيرة أو الأسرة التعويض المادي فقط دون أنْ يلحقها أيُّ عقوبة جسيمة أو اجتماعية (29).
ومن الواضح من خلال هذه «القواعد» أنَّ المرأة لا تُقتل بالرجل، ولا يقتل الرجل بالشوفة (المرأة)، لكن في حال قتل الرجل امرأة فغاربة، وتضاعف العقوبة؛ كما تنص عليه قواعد الملازم، ويطبقه العرف القبلي.
والعُرْف هنا وإنْ كان لا يُقِرّ بقصاص الرجل في قتل المرأة إلا أنه أرحم كثيرًا في عدم القصاص بها، ثُمَّ جعل ديتها نصف دية الرجل، وفي حال القصاص تُلْزم بدفع نصف الدية؛ بحسب المذاهب الفقهية المشار إليها، وتعمل بها القوانين الرسمية.
ثم إنَّ «قواعد الملازم» تتشدد في الإساءة إلى المرأة، وتتشدد أكثر في الزنا، والاغتصاب بإرغام المعتدي على الزواج منها، ودفع مهرها وافيًا، ومثل قيمة المهر؛ يُدفع كنوع من الأدب (عقوبة).
وفضلاً عن ذلك يقوم بـ«التهجير»؛ أي إرضاء أقاربها؛ بحيث يُعطِي لكلِّ واحد من إخوتها «هَجَرْ»؛ وهو رأس من الأبقار أو الأغنام؛ وذلك زيادة على تهجير أبي البنت (30).
ويُلاحظ أنَّ هذه الأعراف تتوافق وتختلف مع الآراء الفقهية والقوانين المستمدة من الفقه؛ وهي تعبر عن روح البُنَى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، كما أنَّ للإرث القديم حضورٌ بمستوى معين، وكذلك انهيار الدولة، والعودة إلى المكونات الأولى لهما أثرهما الكبير.
ويشير الدكتور فضل أبو غانم إلى أولئك الفلاحين الذين تحولوا من حياة البداوة، وعدم الارتباط بالأرض إلى وحدات سكانية مستقرة مزارعة في مناطق محددة.
وهذا وصفٌ دقيق لهذه البنية. ثم يعقب قائلاً: "إلا أنَّ ذلك لا يمنعنا من الاستعانة ببعض المصادر التاريخية الموثوق بها؛ وهذه المصادر على الرغم من قلتها عبارة عن بعض النقوش التي تَمَّ اكتشافها من قبل بعض الباحثين المستشرقين الغربيين في بعض المناطق القبلية الشمالية والشرقية، التي أظهرت أنَّ المجتمع القبلي القديم في جنوب جزيرة العرب كان يتميز عن القبائل الشمالية في شبه الجزيرة العربية بمزاولة مهنة الزراعة التي كانت تشكل العمود الفقري للحياتين: الاقتصادية، والسياسية للدولة والمجتمع، كما أنَّ التنظيم الاجتماعي والاقتصادي والقانوني الذي عاشته القبائل اليمنية القديمة كان يتم وفقًا لمتطلبات الحياة الاقتصادية الزراعية للبلاد" (31).
وتدل المصادر المستندة على النقوش والآثار على وجود دور للتجارة إلى بلدان عدة، لاسيما في بلاد الشام، ومصر، واليونان.
كما يتناول الدكتور غانم نظام الملكية والحيازة في اليمن بعد الإسلام ويربطها بالظروف البيئية المناخية، وبالأوضاع الاجتماعية والتاريخية، والتطورات، وحيازة الناس للأرض، وفكرة ملكية الدولة، والله المالك لكل شيء، وأنَّ السلطة الموزِّع الوحيد للمال.
ويميِّز بين الفكرة العامة لملكية الدولة، والملكية الخاصة للمزارع (مالك الأرض). ومعروف أنَّ اليمن ليست أرضًا مفتوحة؛ وهو ما يناقشه الدكتور باستفاضة ناقلاً عن المؤرخ يحيى بن الحسين بن القاسم في تاريخه «غاية الأماني في أخبار القطر اليماني».
فهذا المؤرخ المهم يرى – محقًا - أنَّ اليمن - خِلافًا للأقطار الأخرى خارج بلاد العرب- لم تدخل في الإسلام، ولم تخضع للدولة الإسلامية عن طريق الفتح؛ كما هو الحال بالنسبة لباقي البلدان العربية والإسلامية؛ ولذلك احتفظ اليمن بكثير من النظم والأعراف التي كانت موجودة قبل مجيء الإسلام، كما بقيت الأراضي الزراعية في يد مزارعيها الأصليين (32).
ورأي المؤرخ يحيى بن الحسين هو الواقع، كما أنَّ تحليل الدكتور صائب. فاليمن تُصنَّف ضمن بلدان ما اصطُلِحِ على تسميته بـ «نمط الإنتاج الآسيوي»، الذي تنبه إليه ماركس وإنجلز، ودرسهُ عميقًا باحثون كثر من أهمهم: أحمد صادق سعد، وإلياس مرقص، وأبو علي ياسين.
الهوامش:
1- جواد علي، المفصل في تاريخ العرب: 4/ 542، بتصرف..
2- المصدر السابق، الصفحة نفسها.
3- المصدر السابق: 4/ 543.
4- الفقه على المذاهب الخمسة، محمد جواد مغنية، ص326.
5- حقوق المرأة اليمنية بين الفقه والتشريع، أحمد علي الوادعي، ص 27، و28.
6- المصدر السابق، ص28.
7- تدوين السنة، إبراهيم فوزي، ص247.
8- المصدر السابق، الصفحة نفسها.
9- المصدر السابق، ص 247.
10- المصدر السابق، ص 248.
11- المصدر السابق، الصفحة نفسها.
12- البنية القبلية في اليمن، فضل أبو غانم، ص253.
13- المصدر السابق، الصفحة نفسها.
14- قواعد الملازم، وثائق عرفية وقبلية من برط "اليمن"، بول دريش، ص 1. بالحرف اللاتيني.
15- قواعد الملازم (مصدر سبق ذكره)، ص1. بالحرف اللاتيني.
16 المصدر السابق، ص2. بالحرف اللاتيني.
17- البنية القبلية (مصدر سبق ذكره)، ص253- 254.
18- قواعد الملازم (مصدر سبق ذكره)، ص177.
19- القضاء القبلي في المجتمع اليمني، رشاد العليمي، ص 118.
20- البنية القبلية (مصدر سبق ذكره)، ص 232.
21- المصدر السابق، ص 100.
22- القضاء القبلي في المجتمع اليمني (مصدر سبق ذكره)، ص 61.
23- المصدر السابق، الصفحة نفسها.
24- المصدر السابق، الصفحة نفسها.
25- القضاء القبلي في المجتمع اليمني (مصدر سبق ذكره)، ص 60- 61.
26- حقوق المرأة بين الفقه والتشريع (مصدر سبق ذكره)، ص 128- 129. نقلا عن صاحب البحر الزخار، أحمد بن يحيى المرتضى.
27- تفسير المنار: 2/ 101.
28- منهاج الطالبين وعمدة المفتين، ص 483.
29- القضاء القبلي في اليمن (مصدر سبق ذكره)، ص 72- 73.
30- البنية القبلية في اليمن (مصدر سبق ذكره)، ص292.
31- البنية القبلية (مصدر سبق ذكره)، ص153. يسوق أبو غانم هذا النص الطويل نسبيًّا نقلاً عن لينكولوس رودو كاناكايس، «الحياة العامة للدول العربية الجنوبية»، من كتاب «التاريخ العربي القديم»، ترجمة فؤاد حسنين علي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، عام 1958.
32- البنية القبلية في اليمن (مصدر سبق ذكره)، ص159.
يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.