من خلال هذه التناولة، نحاول التدقيق، في جُملة من الأحداث والمحطات والتحولات والحقائق، الرئيسية، التي أثّرت على حالة المؤسسة العسكرية اليمنية، وعلى أدوارها، والمُستنبطة من المراجع والشهادات والوثائق والأبحاث، ذات الصلة بمسائل القوات المسلحة اليمنية، على شحتها، مع مراعاة التسلسل التاريخي، والدقة والموثوقية، بدءًا من مرحلة التكوين، منتصف القرن الثامن عشر، مع الاحتلال البريطاني لجنوب اليمن والاحتلال العثماني لشماله، ومرورًا بحمولات ميراث دورات الصراع السياسي، التي أعقبت قيام ثورتي سبتمبر وأكتوبر، وانعكاسات تلك الصراعات، على حالة المؤسسة العسكرية اليمنية، ومركزها العام، وإشكالاتها، وتشوهاتها، وعلى هياكلها وعقيدتها، وأدوارها، وعملياتها، مع مقاربة لكل ذلك، بوضعها الراهن، بمقدماته، ومساره، ونتائجه.
وعلى كثافة الأحداث والتحولات التي عاصرتها اليمن طيلة العقود الماضية من تاريخها، هناك مُعضلة رئيسية تواجه أي باحث، تتمثل بشحة المراجع والدراسات المتخصصة، والتوثيق الدقيق للمعلومات والشهادات والوثائق، بما في ذلك المذكرات، حول الكثير من الأحداث، ومرد ذلك، بدرجة أساسية، تلك العُزلة القسرية التي ضُربت حول اليمن، على مدى عقود طويلة من تاريخه، ثم تليه عمليات التجريف الممنهجة، للذاكرة، المرافقة لدورات الصراع المتعددة، بالإضافة إلى عدم وجود مؤسسات وطنية معنية بالذاكرة والتوثيق، والدراسات وإنتاج المعرفة، تضافرت مع إحجام الكثير من الشخصيات اليمنية عن كتابة مذكراتها وشهاداتها إلا فيما ندر؛ إما بسب التصميت القسري من قبل بُنى التسلط، وتنكيلها، وإما تجنبًا للمساعي السلطوية لتجيير واستثمار الشهادات حول الأحداث التاريخية، أو بسبب الخوف من انتقام المتضررين من تلك الشهادات الذين عُمر نفوذهم لعقود لاحقة لتلك الأحداث، أو بسبب التطلع إلى إمكانية لعب أدوار جديدة من مواقع السلطة، حتى وفاتها، مع عدم التقليل من خطورة الجنوح الجمعي ضدًّا على المكاشفات التي تُخضع الإشكاليات العامة بكل مقدماتها ومضامينها ونتائجها للدراسة والبحث والتدقيق، في ظل عدم إدراك قيمة المعرفة والذاكرة والمكاشفة، لجهة نهضة المجتمعات.
عند البحث حول تعريفات الدولة، وأركانها، تشير الكثير من الأدبيات، والدراسات الجيوسياسية، إلى أنّ أحد أهم أركانها، يتمثل في القدرة على احتكار وسائل العنف المشروع، في إطار ما يُعرف بالمؤسسة العسكرية مدخل نظري
الدولة وأركانها، مؤشرات هشاشتها وقوتها
عند البحث حول تعريفات الدولة، وأركانها، تشير الكثير من الأدبيات، والدراسات الجيوسياسية، إلى أنّ أحد أهم أركانها، يتمثل في القدرة على احتكار وسائل العنف المشروع، في إطار ما يُعرف بالمؤسسة العسكرية، وطبقًا لتصور "ماكس فيبر" لمفهوم الدولة بوصفها "سلطة للناس على الناس قائمة على أساس أدوات العنف المشروع"، فيمكن القول، إن أخطر وأعمق تهديد وجودي، لأي دولة، ومجتمع، هو عجز مؤسساتها، العسكرية والأمنية، بدرجة أساسية، عن الاضطلاع بواجباتها الأساسية، بصورة تُهدد بانهيارها، وبتقطّع أوصالها.
ومقاربة مفهوم الدولة من خلال أحد أهم أركانها، المتمثل بالمؤسسة العسكرية، ليس تقليلًا، من أهمية بقية الأركان، اللازمة لوجود وبقاء الدولة الوطنية، المتمثلة في دولة الناس، دولة العدل والرفاه، بل محاولة للإضاءة على هذا الركن الأساسي، الضامن لوجود بقية الأركان، ولوجود وبقاء الدولة الوطنية ذاتها.
وفي سياق أوسع، لتعريف الدولة القوية، الفعالة، والتي يتأسس وجودها، على وجود عقد اجتماعي، تكسب بموجبه، سلطته الشرعية، التي تُقدّم مستويات عالية من الأمن ضد العنف السياسي والإجرامي، وتصون الحريات السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية، للمواطنات والمواطنين، وتوفر بنى تحتية مادية مُدارة بكفاءة، وتفرض حكم القانون، وهي كذلك، تضمن، النمو الاقتصادي، والتنمية البشرية، وحريات الأفراد، والشفافية، والمساءلة، والحوكمة، في أداء سلطاتها.
مؤشرات الدولة الهشة
تكمن أهمية مؤشرات هشاشة الدول، في كونها أداة تشخيصية دقيقة، تساهم في رسم السياسات الفعالة، المتعلقة بالصراع والأمن والتنمية، لذلك تصف الأممُ المتحدة الهشاشةَ، باعتبارها تحدّيًا رئيسًا أمام تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية، وكتهديد للأمن العالمي.
والدولة الهشة والفاشلة، هي تلك الدولة "غير القادرة ألبتة على الحفاظ على ذاتها كعضو في الأسرة الدولية"، والتي تفقد فيها "الحكومة المركزية احتكار استخدام وسائل العنف" -حسب تعبير الباحثين- هيلمان وراتنر- وهي دول تشهد "اضمحلال حكوماتها المركزية، وصعود المجالات القبَليّة والإقليمية، وانتشار الأمراض، والانتشار المتزايد للحرب"، حسب توصيف المُنظِّر الأمريكي، روبرت ديفيد كابلان، المتخصص في الدراسات الجيوسياسية والمستقبلية، وتتمثل أبرز سمات الدولة الهشة، كذلك، في انهيار القانون والنظام، حيث تفقد مؤسسات الدولة احتكارها لشرعية استخدام العنف، وتكون غير قادرة على حماية مواطنيها، أو أن هذه المؤسسات تُستخدم لقمع مواطنيها وإرهابهم، كما تتسم بضعف القدرة، أو تلاشيها، على تلبية احتياجات المواطنين، وتوفير الخدمات العامة الأساسية، وضمان رفاه المواطنين، أو دعم النشاط الاقتصادي، وفقدان الكيان للصِّدْقيّة، لتمثيل الدولة خارج حدودها، على المستوى الدولي.
ووفقًا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإن الدولة الهشّة، تفتقر إلى القدرة على تطوير علاقات بنّاءة متبادلة مع المجتمع، كما أنّ الدول الهشّة، تكون أكثر ضعفًا، أمام الصدمات، الداخلية أو الخارجية، مثل الأزمات الاقتصادية أو الكوارث الطبيعية.
اليمن ومؤشر هشاشة الدول
ولاختبار محددات هشاشة الدول، من خلال الحالة اليمنية، من المهم استدعاء تحذيرات التقارير الدولية المتخصصة، العديدة، من أن اليمن في طريقها لتصبح دولة هشة وفاشلة، بسبب تملص نظام صالح -الذي حكم اليمن زهاء ثلاثة عقود، مرارًا- من التزامات الإصلاحات الاقتصادية والإدارية والسياسية والهيكلية، والعسكرية والأمنية، حيث بدأت تلك التحذيرات، منذ أواخر القرن العشرين، بالتزامن مع تعمق وتوسع الأزمات، على أكثر من صعيد. كان وضع الجيش اليمني، المتداعي والمتآكل، والمؤسسات الأمنية الضعيفة، أبرز تعبيرات تلك الأزمات الصارخة.
وطبقًا لبيانات المؤشر العالمي للهشاشة، الذي يصدره سنويًّا، منذ العام 2005، صندوق السلام الأمريكي، ومجلة السياسات الخارجية، ويغطي 178 بلدًا، تتصدرها اليمن، باحتلالها المرتبة الأولى في مؤشر الدول الهشة، عالميًّا، منذ العام 2019، ولخمسة أعوام متتالية، في جميع المؤشرات، وقد سجّل اليمن، منذ العام 2006، وحتى العام 2014، تأرجحًا، من المرتبة 24 إلى المرتبة الثامنة.
ومنذ العام 2015، بدأ اليمن بالقفز إلى الأمام في مراتب الدول الهشّة، ابتداءً من المرتبة السابعة في العام نفسه، ثم المرتبة الرابعة في العامين 2016 و2017، وجاء في المرتبة الثالثة عام 2018.
ومؤشرات الدول الهشة، اثنا عشر مؤشرًا؛ تبدأ بمؤشر الأمن، ثم مؤشر انقسام النخبة، والانقسامات السياسية والاجتماعية، مرورًا بمؤشرات التدهور الاقتصادي والتنمية الاقتصادية غير المتكافئة، وهجرة الإنسان واستنزاف الأدمغة، إلى جانب شرعية السلطات، والخدمات العامة، وحقوق الإنسان، والضغوط الديموغرافية، والنازحين والمشرّدين داخليًّا، والتدخل الخارجي.
ولصلتها الوثيقة، بموضوع هذه المقاربة، يمكن استعراض أهم ثلاثة مؤشرات للدول الهشة، طبقًا للمؤشر العالمي للهشاشة، قبل أن نستطرد في عرض أهم المحطات والأحداث والاستخلاصات، لصلتها الوثيقة، بتشكيل الدولة اليمنية، وحالتها، ووجودها، بما في ذلك، موضوع هذه التناولة، المتمثل بمقاربة حالة القوات المسلحة اليمنية، وهي:
المؤشر الأول، المؤشر الأمني، ومن محدداته: التهديدات الأمنية للدولة، والتفجيرات والهجمات والوفيات المرتبطة بالمعارك، أو حركات التمرد، أو الانقلابات، أو الإرهاب، والعوامل الإجرامية الخطيرة، مثل الجريمة المنظمة وجرائم القتل، ويشمل التشكيلات العسكرية والميليشيات التي تدعمها الدولة، والدولة العميقة وغيرها من التشكيلات غير النظامية.
المؤشر الثاني، مؤشر انقسام النخبة، والذي يأخذ في الاعتبار، انقسامَ مؤسسات الدولة على أسس طبَقية أو عشائرية أو عِرقية أو دينية، والمأزق بين النخب الحاكمة، وعدم وجود قيادة شرعية تتمتع بقَبول واسع لدى الناس وتمثّل جميع المواطنين، وغير ذلك، مما يتعلق بصراعات السلطة والتحولات السياسية.
المؤشر الثالث، مؤشر الجماعات، الانقسامات بين المجموعات المختلفة في المجتمع، لا سيما الانقسامات القائمة على الخصائص الاجتماعية أو السياسية.
أبرز معايير قوة الجيوش الحديثة
ونستعرض هنا، بإيجاز، أهم عشرة معايير أساسية، من مجموعة واسعة من معايير قوة الجيوش الحديثة، مثل: الشرعية الدستورية والقانونية، الحوكمة والمساءلة، ووحدة القيادة والسيطرة، والعقيدة القتالية، والحياد والاستقلالية، وكفاءة وأهلية القوة البشرية، وجودة التدريب والخبرة، والتسليح والتكنولوجيا، وقوة نظام اللوجستيات، والقدرة الاستخباراتية.
تباعًا، تستعرض هذه التناولة، محطاتٍ وأحداثًا رئيسة، كعناوين في الأغلب الأعم منها، نظرًا لأثرها في بناء القوات المسلحة اليمنية، مع بعض التوسع في الأكثر أهمية منها، قسمتها عملية البحث، والعرض، والتحليل، إلى أربع مراحل زمنية أساسية، كمراحل لتشكل اليمن الحديث؛ تمتد المرحلة الأولى من العام 1839 والعام 1849، وحتى العام 1962 والعام 1967، وقع فيها اليمن، جنوبًا وشمالًا، تحت الاحتلالين، البريطاني والعثماني، وهي مرحلة أعاد اليمنُ خلالها استكشاف ذاته، ووجوده، وهويته، وخصائصه، كمجال تخلقت فيه الحركة الوطنية اليمنية الحديثة، وتمتد المرحلة الثانية من العام 1962، وحتى العام 1990، بدءًا من قيام ثورتي سبتمبر وأكتوبر، مرورًا بأربعة عقود من التحولات، شهدت كفاح اليمنيات واليمنيين، من أجل وضع اللبنات الأولى، للدولة اليمنية الحديثة، وعلى مهمة ردم الفجوات الهائلة الموروثة، تراكمت خلال تلك العقود، الكثير من المكتسبات المهمة، ومعها كذلك، الكثير من الإخفاقات الخطيرة، التي تركت اليمن في مواجهة تهديدات وتحديات وجودية، وتمتد المرحلة الثالثة من العام 1990، وحتى العام 2010، التي بدأت مع إعلان الوحدة، وقيام الجمهورية اليمنية، أُهدرت فيها الكثير من فرص التحول، وتعززت خلالها التشوهات والاختلالات الهيكلية والبنيوية، وتفاقمت الإشكاليات، وتصدرت خلالها اليمن، مؤشرات الهشاشة والفشل، والتي كانت مُدخلات للمرحلة الرابعة، التي تمتد من العام 2011، وحتى العام 2023، تعرضت فيها اليمن لفخاخ خطيرة، دفعت بها إلى جحيم الاحتراب والتفتيت.
تمتد جذور مرحلة تكوين المؤسسة العسكرية اليمنية، إلى الربع الثاني من القرن التاسع عشر، عندما وقعت اليمن رهن احتلالين، بشكل متزامن الأول بريطاني في الجنوب والثاني عثماني في الشمال المرحلة الأولى:
وتمتد من العام 1839 والعام 1849، وحتى العام 1962 والعام 1967
جانب من مرحلة التكوين
احتلالان، تشطير، وسلاطين وأئمة
تمتد جذور مرحلة تكوين المؤسسة العسكرية اليمنية، إلى الربع الثاني من القرن التاسعٍ عشر، عندما وقعت اليمن رهن احتلالين، بشكل متزامن؛ حيث احتلت بريطانيا مدينة عدن، ومناطق جنوب اليمن، في 19 يناير/ كانون الثاني 1839، اندلعت مع أول أيامه، موجات مقاومة وطنية مسلحة، وخلال فترة احتلال بريطانيا لجنوب اليمن، كان شمال اليمن، كذلك، يرزح تحت الاحتلال العثماني، للمرة الثانية، ابتداءً من عام 1849، الذي واجه هو الآخر موجات مقاومة شعبية، وفي العام 1914، وُقعت معاهدة بين الاحتلال البريطاني والاحتلال العثماني، قسمت اليمن إلى شمال وجنوب، لأول مرة في تاريخه، واستمر الاحتلال العثماني لشمال اليمن، حتى العام 1918، وقبل ذلك بأعوام تم التوصل إلى صلح دعان في 1911، الذي أتاح للإمام يحيى حميد الدين، تقديمَ نفسه كواجهة دينية وسياسية ستتولى لاحقًا حكم شمال اليمن بعد خروج العثمانيين.
وبسبب حاجة الاحتلال البريطاني، لتشكيلات محلية تساعده في إخضاع السكان، ذهب إلى تأسيس "الكتيبة اليمنية الأولى"، في العام 1918، تحت قيادة الكولونيل البريطاني، نيل ليك، والتي ضمّت أربعَ مئةِ جنديٍّ يمنيّ، من بينهم ثلاثة عشر ضابطًا، من جنوب اليمن وشماله، قبل أن يتم تسريحها من الخدمة عام 1925، عقب قيام الجنود اليمنيين بقتل الملازم لورانس، في جزيرة ميون، عام 1923، وغادر الجنود اليمنيون الجزيرة عقب تلك العملية، إلى منطقة جبل الشيخ سعيد في باب المندب، ومنها إلى شمال اليمن، وهو الحادث الذي جعل الاحتلال البريطاني يعيد حساباته فيما يتعلق بإخلاص الجنود اليمنيين له؛ فاتجه إلى بناء جيوش مناطقية، مثل: جيوش محمية عدن، والحرس القبَلي، والحرس الحكومي، والجيش النظامي اللحجي، وجيش المكلا النظامي، والشرطة القعيطية المسلحة، والشرطة الكثيرية المسلحة، وجيش البادية الحضرمي، في ظل تعزيز نظام السلطنات والإمارات والمشيخات، في لحج، وشبوة، والمكلا، وسيئون، وأبين، والضالع، والصبيحة، وغيرها، وانتهاء بجيش اتحاد الجنوب العربي (1959-1967)، حتى اندلاع شرارة ثورة 14 أكتوبر/ تشرين الأول 1963، وصولًا إلى مغادرة آخر جندي بريطاني، في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، بعد 128 عامًا من الاحتلال.
وبالتوازي، أسس الإمام يحيى، بدوره، "الجيش المظفر" في ديسمبر 1918، مستعينًا بضباط وجنود الإمبراطورية العثمانية، الذين لم يغادروا اليمن، ثم ذهب لبناء "الجيش الدفاعي" النظامي، بالإضافة إلى الجيش البراني (القبلي)، وخاض الإمام يحيى، حروبًا عديدة، مع القبائل اليمنية، في الشمال، والحرب مع السعودية 1934، والحروب الحدودية مع الإنجليز، وتولت قواته -بالإضافة إلى تلك الحروب- مهام الجباية، وحماية الإمام ونفوذه، وحدت طبيعة النظام الإمامي، المُتخلفة والانعزالية، من إمكانية بناء جيش نظامي قوي وحديث، وتطويره طبقًا للأصول العسكرية الحديثة، وقتئذ، شأن الجيش في ذلك، شأن كافة المؤسسات والبُنى الأخرى، للدولة والمجتمع، من الاقتصاد، للتعليم، للخدمات، للسياسة.
أواخر العام 1936، أرسل الإمام يحيى 10 طلاب للالتحاق بالمدرسة الحربية العراقية في بغداد، سيصير منهم أول رئيس للجمهورية العربية اليمنية هو عبدالله السلال، ثم أرسل في العام 1937، بعثة ثانية من 10 طلاب، ليشكّل المبتعثون، لاحقًا، نواة لحركات التحرر من نظام الإمامة. وفي العام 1940، أرسل العراق إلى اليمن بعثة عسكرية، للمساهمة في تدريب وتطوير جيش الإمام يحيى، ومع توسع دائرة الفئات المعارضة لحكم الإمام يحيى، والتي نظمت نفسها في عدن في إطار حزب الأحرار اليمنيين ابتداء من العام 1944، قام الشيخ علي ناصر القردعي ورفاقه، بتنفيذ عملية اغتيال، في 17 فبراير 1948، أودت بحياة الإمام يحيى، ورئيس وزرائه عبدالله العمري، وأحد أحفاده، وعُرفت في الأدبيات بحركة 48 الدستورية، التي شارك فيها ضباط من البعثة الأولى والثانية إلى العراق، قبل أن يتمكن الإمام أحمد من إجهاضها، بعد أن أباح صنعاء للقبائل، سبعة أيام كاملة، استُبِيحت فيها البيوت والمتاجر والمساجد، بالنهب والتدمير، وملأ الإمام أحمد سجونه بالمئات ممن شاركوا في الحركة، وأعدم 29 من القيادات البارزة فيها، منهم القائد العام للجيش العراقي جمال جميل.
وفي 30 مارس من العام 1955، حاصر أحمد يحيى الثلايا، قائد الجيش في تعز، و600 من الجنود، قصرَ الإمام أحمد في منطقة العُرضي، الذي أُجبر على التنازل عن الحكم لشقيقه عبدالله الذي انضم لتمرد الثلايا، وبينما اطمأنّ قادة حركة 55 لنهاية عهده بعد توقيعه تنازلًا مكتوبًا، تحرك الإمام أحمد للحشد في أوساط مشايخ تعز، ومشايخ المناطق الشمالية، والجيش البراني، وحرس القصر، ونجح في القضاء على الحركة، وإعدام قائدها، والفاعلين فيها، ومنهم شقيقاه عبدالله والعباس، واستعادة السلطة.
وعقب فشل حركة 1955، بدأ النشاط الفعلي لعدد من الضباط اليمنيين، الذين خططوا لعملية اغتيال الإمام أحمد، في الحديدة. وبالاستفادة من تجارب حركة 48، وحركة 55، أسس مجموعة من العسكريين، رسميًّا، في ديسمبر من العام 1961، "تنظيم الضباط الأحرار"، وضم ضباطًا من صنعاء والحديدة وتعز، بالإضافة إلى طلاب المدرسة الحربية بصنعاء، وأخذ على عاتقه الإطاحة بنظام الإمامة، وإقامة نظام جمهوري. وقبل شهرين فقط من قيام ثورة سبتمبر، وسّع تنظيم الضباط الأحرار من تواصلهم الرسمي، ليشمل الحركة المدنية السياسية الوطنية، المناهضة لنظام الإمامة.
وخلال تلك المرحلة، أعاد اليمن اكتشاف ذاته، ووجوده، وهويته، وخصائصه، وارتباطاته الداخلية والخارجية، وتخلقت خلالها، الحركة الوطنية اليمنية الحديثة، التي تولت مهمة التمهيد لثورتي سبتمبر وأكتوبر، ومهمة قيامهما.
على أهمية الأحداث والتحولات التي شهدتها اليمن منذ منتصف القرن التاسع عشر، ومطلع النصف الثاني من القرن العشرين، فإنّ ثورتَي سبتمبر وأكتوبر، شكّلتا التحول التاريخي الأبرز والأهم، على كافة المستويات. المرحلة الثانية:
من العام 1962، وحتى العام 1990
ثورتا سبتمبر وأكتوبر
كفاح اللبنات الأولى للدولة الحديثة، ودورات الصراع الدامية
على أهمية الأحداث والتحولات التي شهدتها اليمن منذ منتصف القرن التاسع عشر، ومطلع النصف الثاني من القرن العشرين، فإنّ ثورتَي سبتمبر وأكتوبر، شكلتا التحول التاريخي الأبرز والأهم، على كافة المستويات، فقد وضعتا اللبنات الأولى لإنجاز التحول نحو الدولة الحديثة المنشودة، على وجاهة كل المراجعات التي تقارب ما رافق الثورتين من أخطاء، حالت دون إنجاز وعودها الكاملة، وعلى رأسها: "بناء جيش وطني قوي لحماية البلاد وحراسة الثورة ومكاسبها"، الهدف الثاني لثورة سبتمبر، والهدف التاسع لثورة أكتوبر: "بناء جيش وطني شعبي قوي بمتطلباته الحديثة، تمكنه من الحماية الكاملة لمكاسب الثورة وأهدافها".
رغم التحديات والأزمات العديدة التي واجهت النظام الجمهوري، الذي قام على أنقاض حكم الأئمة، بعد نجاح ثورة 26 سبتمبر/ أيلول 1962، فقد كسر نظام ثورة سبتمبر جدرانَ العُزلة التي ضُربت على شمال اليمن، على مدى عقود طويلة، وشهدت الجمهورية العربية اليمنية، شمال اليمن، قفزات هائلة، في مختلف جوانب الحياة، وواجهت كذلك، جُملة من التحديات والأزمات، التي اعترضت سنواتها الأولى، حيث تعرض النظام الجمهوري الوليد، لضربات متتالية، وسلسلة من الأزمات والتحديات الداخلية والخارجية، الثقيلة، ابتداءً من مقتل قيادات ثورية بارزة، مثل علي عبدالمغني، مرورًا بتدخل القوات المصرية المساندة للثورة، وهيمنتها، ثم لاحقًا، انسحابها المباغت والمربك بعد نكسة حزيران 1967، التي تلاها انقلاب 5 نوفمبر 1967، الذي أطاح بالمشير عبدالله السلال، أول رئيس للجمهورية، (1962-1967)، بعد خمس سنوات على قيام الثورة، وتولي القاضي عبدالرحمن الإرياني، رئاسةَ المجلس الجمهوري خلفًا له.
ولعل أخطر ما واجه النظام الجمهوري، تمثل في تلك الأحداث الدامية، بين فصيلين من قوات النظام الجمهوري، يومَي 23 و24 أغسطس 1968، بعد سبعة أشهر من نجاح القوات الجمهورية، بكسر حصار السبعين يومًا، الذي فرضته القوات الملكية، على العاصمة صنعاء، ونُفيَ على إثرها مجموعة من القادة العسكريين البارزين، ثم تصفية المقدم عبدالرقيب عبدالوهاب، قائد قوات الصاعقة، ورئيس هيئة الأركان العامة، عقب عودته من منفاه في الجزائر مطلع العام 1969، وهي أحداث على خطورة أبعادها المناطقية، مثّلت كذلك، تراجعًا كليًّا عن وعود الثورة ومضامينها، حيث استحوذت مراكز القوى التقليدية على النظام الجمهوري، بعد أن تمكّنت من تصفية العديد من رموز التحديث، امتدت آثارها السلبية، على الدولة والمجتمع، لعقود لاحقة.
وقبل ذلك شهدت شمال اليمن، على مدى ثماني سنوات، حربًا واسعة؛ بين قوات النظام الجمهوري، المدعوم من مصر، من جهة، والقوات الموالية للنظام الإمامي، المدعومة من السعودية، من جهة أخرى، وانتهت بإعلان المصالحة، في مارس/ آذار 1970، بين الجمهوريين والملكيين بعد استبعاد أسرة حميد الدين، وأعقبه اعتراف السعودية رسميًّا، بالنظام الجمهوري.
مع نجاح ثورة سبتمبر، قرر المهندس قحطان الشعبي، العودةَ إلى صنعاء، وعُيّن مستشارًا للرئيس عبدالله السلال لشؤون الجنوب المحتل. وفي فبراير 1963، أعلن من صنعاء تأسيس الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل، وأصبح قحطان أمينًا عامًّا لها. وعقب مشاركتهم في القتال مع ثوار سبتمبر، ضد القوات الملكية، هاجمت قوات الاحتلال البريطاني، مجموعةً من المقاتلين العائدين من المحابشة في حجة، في منطقة ردفان، وقُتل في الهجوم، صباح 14 أكتوبر، راجح غالب لبوزة، وأحد رفاقه، وأصيب أربعة آخرون، وهو ما دفع قحطان الشعبي ونائبه ناصر السقاف؛ قادة الجبهة القومية في شمال اليمن، إلى إعلان بيان قيام ثورة تحرير الجنوب، ابتداءً من 14 أكتوبر 1963.
ومع جلاء آخر جندي بريطاني من عدن، في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، وإعلان قيام جمهورية اليمن الجنوبية، ولاحقًا (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية)، بدأت أولى مراحل بناء القوات المسلحة، النظامية، كجيش مستقل، بهياكل عسكرية مؤسسية، قادرة على تحقيق الأمن ومهام الدفاع العسكري.
في أكتوبر 1978، أُعلن في عدن، عن تشكيل الحزب الاشتراكي اليمني، بعد دمج فصائل سياسية يسارية من شمال اليمن وجنوبها بعد مشاورات طويلة استمرت لأعوام، وكان لتحالف نظام الحكم مع المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي، أثرُه الكبير في بناء أجهزة ومؤسسات الدولة والثورية، والمختلفة جذريًّا، عن محيطها الإقليمي، والتي لم تكن بمنأى عن الحرب الباردة ونتائجها، بما في ذلك الصراع مع النظام الغربي، وهيمنته، ومع النظم الحليفة له، في المنطقة، في ظل الهواجس التي تولدها رومانسيات ووعود تصدير الثورة وقيمها وأيديولوجيتها، كعامل أساسي، أبقى علاقات الدولة الاشتراكية، في توتر دائم، مع جوارها الإقليمي، وصولًا إلى انعكاسات شيخوخة النخبة الحاكمة في موسكو، وتبايناتها، حتى انهيار الاتحاد السوفيتي وتداعياته على الوضع العام في الجنوب اليمني.
ومع كل النجاحات التأسيسيّة التي أنجزها نظام الحزب الاشتراكي اليمني، ابتداءً من توحيد كافة أكثر من عشرين سلطنة وإمارة ومشيخة، وإقامة نظام مركزي فعّال، ومرورًا بالتحولات المُنجزة، خلال فترة قياسية، في مجالات التعليم والعدالة الاجتماعية والتحديث وتمكين النساء وإرساء حكم القانون، فإنّ إشكاليات الحوكمة، والصراع على السلطة، كانت السمة البارزة التي غطت على كل تلك المكتسبات، حيث شهد جنوب اليمن جولات صراع أيديولوجية دامية، باستثناء مرحلة قصيرة، تحت قيادة المهندس قحطان الشعبي، أول رئيس لجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، بدأت في 30 نوفمبر 1967، وانتهت بإزاحته واعتقاله في 22 يونيو 1969، بالإضافة إلى سنوات حكم خلفه؛ الرئيس سالم ربيع علي، التي انتهت بتصفيته في 26 يونيو/ حزيران 1978.
حروب شمال اليمن وجنوبه
على مدى سنوات، شهدت العلاقات بين شطري اليمن، توترًا مُتصاعدًا، زادت وتيرته عقب أحداث أغسطس الدامية، عقب استحواذ مراكز القوى التقليدية على الحكم في صنعاء، حيث لجأ النظام في عدن مع مطلع السبعينيات إلى تغذية الكفاح المسلح، في إطار ما عُرف بحروب الجبهة في المناطق الوسطى، من خلال دعم تشكيلات "التقدميين" من خلال "منظّمة جيش الشعب" و"منظّمة المقاومين الثوريّين"، ثم دعم "الجبهة الوطنيّة الديمقراطيّة" التي تشكلت عام ١٩٧٦، والتي كان مقرّها الرئيسيّ في عدن، بهدف إسقاط "النّظام الرجعي" في صنعاء، وتحقيق الوحدة اليمنيّة، وفي ظل سياق متوتر، اندلعت مواجهات مسلحة بين قوات النظام في الشمال، وقوات النظام في الجنوب، على حدود الشطرين، في مطلع أكتوبر 1972، وسيطرت القوات الجنوبية على مدينة قعطبة، واشتعلت مواجهات عسكرية على طول الحدود بين الشطرين، استمرت لأيام، انتهت بإعلان توقيع اتفاق القاهرة وقّعها رئيسَا وزراء الشطرين؛ محسن العيني، وعلي ناصر محمد، في 28 أكتوبر 1972، ثم تلا ذلك التوقيع على بيان طرابلس في 28 نوفمبر 1972، بين شطري اليمن (وقّعه الرئيسان القاضي عبدالرحمن الإرياني- رئيس المجلس الجمهوري، وسالم ربيع علي- رئيس مجلس الرئاسة في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، برعاية الرئيس الليبيّ معمر القذافي)، وكان ذلك أول اتفاق لتوحيد الشطرين.
بدءًا من اللقاء الذي جمعهما، في مدينة قعطبة، والذي فتح صفحة جديدة كليًّا من تاريخ اليمن، شهدت العلاقات بين شطري اليمن، تحسُّنًا غير مسبوق، خلال سنوات رئاسة سالمين والحمدي رئيسان للسلام والتنمية والوحدة
سالم ربيع علي "سالمين" وإبراهيم محمد الحمدي
بعد عام وأربعة أشهر من الاستقلال، تمت عملية اعتقالات كبيرة في صفوف الجناح المتشدد في الجبهة القومية، عرفت بحركة 20 مارس، وفي 22 يونيو 1969، قاد سالم ربيع علي "سالمين"، و"جماعة الجبل"، ما عُرف بحركة 22 يونيو التصحيحية، التي أطاحت بالرئيس قحطان الشعبي، من رئاسة جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، ونصبت خلَفًا له "سالمين"، الذي كان متأثرًا بتجربة الثورة الصينية، وارتبطت فترة حكمه بحركة تنوير المجتمع، ودعم التعليم، وتعزيز العدالة الاجتماعية، ودعم الفئات الضعيفة والمهمشة، وإنشاء التعاونيات الفلاحية ضدًّا على الإقطاع، وقاد حركة تأميم المنشآت والمساكن والمرافق الاقتصادية، وقد أثمر تواصله بالقاضي عبدالرحمن الإرياني- رئيس المجلس الجمهوري في شمال اليمن، بوقف الاحتراب، وإعلان "اتفاقية القاهرة" سنة 1972، وعقد "قمة طرابلس" بينهما في العام نفسه، تبعه لقاء الجزائر في العام التالي، ثم لقاء تعز سنة 1973، وهي سلسلة لقاءات هدفت إلى إيجاد آليات قيام الوحدة بين شطري اليمن آنذاك.
في 13 يونيو/ حزيران 1974، أعلن المقدم إبراهيم الحمدي، قيادة حركة تصحيحية، تسلم فيها رئاسة الشطر الشمالي من اليمن، خلفًا للرئيس الإرياني، بعد نحو اثنتي عشرة سنة، من التحديات والأزمات والصراعات، الداخلية والخارجية، التي واجهها النظام الجمهوري، وفي اتجاه مغاير كليًّا لما أفرزته أحداث أغسطس، باشر خطوات إصلاح بنيوية وهيكلية جريئة، وركز جهوده على بناء مؤسسات دولة النظام والقانون والبنية التحتية، والمبادرة إلى تهدئة النزاعات الداخلية، والاستقلال بالقرار الوطني، وأطلق مسارًا تنمويًّا واسعًا، في إطار ما عُرف بالتعاونيات، وأصدر في 27 أبريل/ نيسان 1975، قرارات أطاحت بالعديد من القيادات الممثلة لمراكز القوى التقليدية داخل الجيش والأمن، وإبعاد العديد من شيوخ القبائل من المناصب العليا في الدولة، وإلغاء مصلحة شيوخ القبائل، في إطار تقليص نفوذ مراكز القوى التقليدية، ومعالجة آثار الفوضى والانفلات.
وبدءًا من اللقاء الذي جمعهما، في مدينة قعطبة، والذي فتح صفحة جديدة كليًّا من تاريخ اليمن، شهدت العلاقات بين شطري اليمن، تحسُّنًا غير مسبوق، خلال سنوات رئاسة سالمين والحمدي، رفعت من تطلعات اليمنيين، للسلام والتنمية والاستقرار والوحدة، والدولة.
ورعى الرئيس إبراهيم الحمدي، قمة رباعية، على مستوى الرؤساء، للدول المطلة على البحر الأحمر، انعقدت يوم الأحد 20 مارس/ آذار 1977، في مدينة تعز، ناقشت مسألة أمن البحر الأحمر، بمشاركة رئيس السودان، جعفر نميري، والصومال، محمد سياد بري، ورئيس جنوب اليمن، سالم ربيع علي، وتغيّبت عنها السعودية ومصر، وكان من أبرز مخرجات تلك القمة، تشكيل نظام أمني وتنموي خاص بمنطقة البحر الأحمر.
وقد جعلت تلك التحولات، بمجملها، من الرئيس الحمدي، ومشروعه، هدفًا لعملية اغتيال غادرة، تشارك فيها العديد من الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين، مساء يوم 11 أكتوبر/ تشرين الأول 1977، رفقة شقيقه عبدالله الحمدي، وبعدها بأشهر قليلة، طالت عملية إعدام مُخططة، صنوه في عدن (سالمين)، يوم 26 يونيو 1978، بتهمة الضلوع في اغتيال أحمد الغشمي- رئيس اليمن الشمالي.
عام الغشمي الثقيل
تسلم المقدم أحمد حسين الغشمي، رئيس أركان الجيش، ونائب رئيس مجلس القيادة (رئاسة الدولة)، أحد المتهمين الرئيسيين باغتيال الحمدي، رئاسةَ شمال اليمن، خلفًا للرئيس الحمدي. وتتمثل أهم الأحداث التي شهدها شمال اليمن، خلال فترة رئاسته التي لم تستمر أكثر من عام، في عودة شمال اليمن إلى روحية أحداث أغسطس، وبالأخص، عقب تصفية قوات المظلات، التي كان الرئيس الحمدي قد دمجها مع قوات الصاعقة، تحت قيادة الرائد عبدالله عبدالعالم، الذي توجه بقوات المظلات من صنعاء إلى منطقة الحجرية، جنوب مدينة تعز، متمردًا على سلطة الغشمي، حيث قاد الرائد علي عبدالله صالح، قائد لواء تعز، حملة عسكرية واسعة، انتهت بانسحاب قوات المظلات وقائدها، إلى جنوب اليمن، حيث استقبله في لحج وزير الداخلية صالح مصلح، رفقة جنود وضباط من قوات المظلات الجنوبية، ثم غادر عدن، إلى العاصمة السورية دمشق، وظل متنقلًا بين دمشق وليبيا والقاهرة، قرابة أربعة عقود، حتى وفاته في القاهرة يوم 17 يناير 2022، وبحوزته الكثير من التفاصيل المهمة، حول أحداث مفصلية، من تاريخ اليمن المعاصر التي لم يفصح عنها.
في 24 يونيو 1978، حمل مبعوث رئاسي من عدن، إلى الرئيس أحمد حسين الغشمي، حقيبة مُفخخة، اغتالته في مكتبه في مقر القيادة العامة للجيش، في العاصمة صنعاء، ورغم أن الرئيس سالمين خرج على الفور متوعدًا بالانتقام من قتلة الرئيس الغشمي، وجّهت أصابع الاتهام إلى قيادة النظام، في عدن، وإثر ذلك عقدَتْ جامعة الدول العربية اجتماعًا طارئًا، على مستوى وزراء الخارجية، هدف إلى اتخاذ موقف عربيّ ضد نظام الحكم في عدن؛ لضلوعه في عملية الاغتيال، وقد أعلنت خمس عشرة دولة عربية قطع علاقاتها الدبلوماسية مع حكومة عدن، وفي اليوم التالي لعملية الاغتيال، عقدت اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني، اجتماعًا استثنائيًّا، تحت الضغط العربي، حمّلت فيه الرئيس سالمين مسؤوليةَ اغتيال الغشمي، واتخذت قرارًا بعزله، وقضت محاكمة حزبية، مستعجلة، بإعدامه مع عدد من الضباط، يوم 26 يونيو 1978.
في العاصمة صنعاء، شُكّل مجلسٌ رئاسي برئاسة عبدالكريم عبدالله العرشي- رئيس مجلس الشعب التأسيسي، وعضوية كلٍّ من: علي الشيبة، وعبدالعزيز عبدالغني، وعلي عبدالله صالح، واستمر في إدارة الأوضاع لأسابيع فقط.
وبعد أقل من ثلاثة أشهر فقط من تولي صالح رئاسة البلاد، قاد عسكريون ومدنيون، من التنظيم الناصري، يوم 15 أكتوبر 1978، محاولةً انقلابية، تمكن من إجهاضها، ومحاكمة وإعدام العشرات من قيادات التنظيم الناصري المرحلة الأولى من حُكم صالح
في الشطر الشمالي من اليمن، انتخب مجلس الشعب التأسيسي، بأغلبية الأصوات، يوم 17 يوليو 1978، الرائد علي عبدالله صالح، رئيسًا للجمهورية العربية اليمنية، وقائدًا عامًّا للقوات المسلحة، وتعيين القاضي عبدالكريم عبدالله العرشي نائبًا لرئيس الجمهورية.
وبعد أقل من ثلاثة أشهر فقط من توليه رئاسة البلاد، قاد عسكريون ومدنيون، من التنظيم الناصري، يوم 15 أكتوبر 1978، محاولةً انقلابية، تمكن من إجهاضها، ومحاكمة وإعدام العشرات من قيادات التنظيم الناصري، ففي تاريخ 27 أكتوبر 1978، أُعلن عن إعدام 8 من القادة العسكريين للانقلاب، وهم: محسن أحمد فلاح، عبدالله صالح الرازقي، محمد مبخوت الفليحي، عبدالواسع الأشعري، مهيوب علي العرفي، قاسم منصور إسماعيل الشيباني، عبدالعزيز محمد رسام، حسين عبدالله، كما أعدم في 5 نوفمبر 1978، 12 من القادة المدنيين، وهم: عيسى محمد سيف- الأمين العام للتنظيم الناصري، وسالم محمد السقاف- الأمين المساعد للتنظيم، الذي كان يشغل أيضًا منصب نائب مدير مكتب رئاسة الجمهورية، ومحمد أحمد إبراهيم نصر- عضو القيادة التنفيذية، وعبدالسلام محمد مقبل- وزير الشؤون الاجتماعية والعمل، وأحمد سيف- عضو القيادة التنفيذية، ومحمد محسن سعيد الحجاجي، وعبدالكريم ناصر المحويتي، علي محمد عباد السنباني، وناصر محمد اليافعي، ومانع يحيى سعيد التام، وحسين عبدالباري أحمد مذحجي، وعلي صالح حسين ناجي ردفاني.
وعقب فشل الانقلاب، هرب الآلاف من أعضاء التنظيم الناصري، إلى مناطق اليمن الجنوبي، الذي ساندهم في مقاومة السلطة، وأسهم في تقريب وجهات النظر بين التنظيم الناصري، وبين قوى المعارضة الأخرى، حيث سار أعضاء من التنظيم الناصري، على طريق الوحدة مع الجبهة الوطنية الديمقراطية، التي كانت تتولى قيادة نشاط مختلف القوى اليسارية والقومية في البلاد، تحت عنوان إقامة سلطة وطنية ديمقراطية في الشطر الشمالي من اليمن، على طريق تحقيق الوحدة اليمنية الديمقراطية، والتي ركزت عملياتها المسلحة، على المناطق الواقعة بين دمت، والبيضاء، وحريب، وفي مناطق وادي بَنَا، وفي الحجرية الواقعة جنوب محافظة تعز، وفي مناطق عتمة وريمة ووصاب، وسيطرت على مناطق واسعة، أخفقت الحملات العسكرية لنظام صالح، في القضاء عليها، أو وقف تقدمها في أجزاء واسعة من المناطق الوسطى، التي كانت أولى محطات تحالف نظام صالح مع فرع حركة الإخوان المسلمين في اليمن وتشكيل الجبهة الاسلامية، وبهدف مضاعفة الضغط على نظام صالح، بدأت قوات اليمن الجنوبي عملية عسكرية واسعة، في 23 فبراير 1979، انهارت أمامها دفاعات قوات اليمن الشمالي، ووصلت القوات إلى البيضاء قبل أن تتوقف الحرب بوساطة كويتية، التي استضافت قمة بين رئيسَي الشطرين: عبدالفتاح إسماعيل، وعلي صالح.
تسلم عبدالفتاح إسماعيل، خلفًا لسالمين، رئاسةَ اليمن الجنوبي، وانتُخِب في أول اجتماع للحزب الاشتراكي اليمني، في أكتوبر من العام 1978، أمينًا عامًّا للحزب، حتى استقالته في أبريل من العام 1980، من جميع مناصبه؛ لأسباب صحية، غادر بعدها إلى عاصمة الاتحاد السوفيتي، موسكو، ليتسلم علي ناصر محمد، رئاسةَ اليمن الجنوبي، خلفًا له، الذي بلغ الصراع على السلطة، في السنة السادسة من رئاسته، ذروتَه، حيث شهدت عدن، عاصمة (اليمن الجنوبي)، يوم 13 يناير 1986، أحداثًا دامية، بعد أن اندلعت اشتباكات عنيفة بين تشكيلات وقوات جناحين من أجنحة الحزب الاشتراكي الحاكم، فصيل (الطغمة)، الموالي للرئيس السابق عبدالفتاح إسماعيل، وفصيل (الزمرة)، تحت قيادة الرئيس علي ناصر محمد، قُتل في اليوم الأول من المواجهات التي استمرت أحد عشر يومًا، نحو 3800 شخص، منها قيادات وازنة من الصف الأول للحزب والدولة، وأسفرت عن سقوط آلاف الجرحى. بالإضافة إلى ذلك، أدى الصراع إلى فرار الكثير من الكوادر القيادية، العسكرية والسياسية والإدارية، انتهت تلك المواجهات الدامية بهزيمة فصيل الرئيس علي ناصر محمد، ونزحت قواته إلى شمال اليمن، ليتسلم رئاسة جنوب اليمن، خلفًا له، المهندس حيدر أبوبكر العطاس، خلال فترة حُكم "الطغمة" (1986-1990)، التي كان علي سالم البيض -الأمين العام للحزب- من أبرز قياداتها، وقد شكّلت أحداث يناير، نقطةَ تحوُّلٍ مفصلية، في تاريخ جنوب اليمن، ألقت بظلالها على الأحداث اللاحقة في اليمن عمومًا، والمنطقة.
جنوبيون في صنعاء، شماليون في عدن
من المفارقات اللافتة، عند التدقيق في وقائع وأحداث التاريخ اليمني، منذ منتصف القرن الثامن عشر، وحتى اليوم؛ حالةُ التداخل، والتناظر، والتوْءَمة، بين جنوب اليمن وشماله، في كافة التحولات، حيث يصعب أن تجد حدثًا أو تحولًا، في صنعاء، لا صلة له بعدن، والعكس كذلك، كما تجد أن شخصيات من جنوب اليمن، تتصدر المشهد، في صنعاء، وشخصيات من شماله، في قلب المشهد في عدن، وأدلة ذلك لا حصر لها؛ فقد احتضنت عدن، القياداتِ التاريخيةَ لحزب الأحرار اليمنيين (النعمان والزبيري والفضول) وعشرات الفاعلين السياسيين والنقابيين، كما احتضنت تعز، عبدالله باذيب، وصحيفته الطليعة في أواخر الخمسينيات، واحتضنت في الستينيات: سالمين وفيصل الشعبي، وعبدالفتاح إسماعيل، ومحسن الشرجبي، ومقبل، مثلما احتضنت خصومهم، مثل: محمد سالم باسندوة، وعبدالله الأصنج، وحسين عشال، وعبدالقوي مكاوي، في أوقات مختلفة.
أُعلن قيام الجمهورية اليمنية، في 22 مايو 1990، بدمج الهياكل السياسية والعسكرية والأمنية والإدارية والعدلية والتشريعية، طبقًا لمُدخلات ثقيلة من إرث دورات الصراع السياسي المرحلة الثالثة:
منذ العام 1990، وحتى العام 2010
إعلان قيام الجمهورية اليمنية
بعد جولات من المفاوضات على امتداد ثلاثة عقود، وبناءً على اتفاق عدن التاريخي الموقّع في 30 نوفمبر 1989، وعلى اتفاق الوحدة بين اليمن الجنوبي واليمن الشمالي، الموقع في 22 أبريل 1990، أُعلن قيام الجمهورية اليمنية، في 22 مايو 1990، وتم دمج الهياكل السياسية والعسكرية والأمنية والإدارية والعدلية والتشريعية، طبقًا لمُدخلات ثقيلة من إرث دورات الصراع السياسي، على مدى ما يقارب أربعة عقود، وأكثر، بالإضافة إلى آثار العديد من التحولات الإقليمية والدولية والمحلية، فقد أضافت دولة الجمهورية اليمنية، الوليدة، مُدخلاتٍ جديدةً إلى ملف "إشكالية المغايرة"، التي كانت متمثلة بقيام جمهوريَّتَي سبتمبر وأكتوبر، في محيط من الممالك والإمارات والسلطنات، فقد أعلنت اليمن الموحدة للتو، دخول نادي الديمقراطيات الناشئة، حيث شمل دستورها الجديد: الديمقراطية، والتعددية السياسية، وحرية الصحافة، وحرية الرأي والتعبير، والتداول السلمي، والانتخابات، وحرية المجتمع المدني، في محيطٍ يُصنف تلك المضامين، من كبار المحظورات والمهددات الوجودية.
وقد أعلن الاتفاق بين قيادة الحزبين الحاكمين في الشطرين؛ الحزب الاشتراكي اليمني، وحزب المؤتمر الشعبي العام، عن قيام وحدة اندماجية كاملة، تذوب فيها الشخصية القانونية الدولية لكلٍّ منهما في شخصية قانونية دولية واحدة تسمى (الجمهورية اليمنية)، ومن مفارقات "اتفاق إعلان الوحدة"، خلوّه من أي إشارة لوضع الجيش، قبل إعلان الوحدة أو بعدها، على أهمية مسائل القوات المسلحة لقيام أي دولة، ولبقائها، وبالمثل، اقتصد أول دستور لدولة الوحدة في المواد الخاصة بالقوات المسلحة، التي تضمنت إشارات مُقتضبة وفضفاضة وعابرة، لم تضع ولو الحد الأدنى من موجّهات ومحددات وضمانات بناء القوات المسلحة، مع الاكتفاء بالإحالة المُرسلة للقانون، ولمجلس الدفاع الوطني، ومجلس الرئاسة، وهي فجوات خطيرة وجّهت الكثير من الأحداث والانتكاسات اللاحقة.
عملياتيًّا، نُقلت خلال المرحلة الانتقالية، ألويةٌ عسكرية جنوبية إلى الشمال، وألوية شمالية إلى الجنوب، بصورة توافقية، مُرتجلة، وبدون خطة دمج واضحة ومدروسة، طبقًا للعلوم العسكرية الحديثة، فيما احتفظت كافة التشكيلات بهياكلها وروابطها وعقيدتها، وولاءاتها، الشطرية، والحزبية، السابقة لقيام دولة الوحدة، ومؤسساتها، وهذا أحد العوامل التي أدت لاحقًا إلى تفاقم الكثير من الإشكاليات التي أغرقت المرحلة الانتقالية؛ كالاغتيالات، والعمليات الإرهابية، والأزمات بين التشكيلات العسكرية، والخلافات حول التسليح، والتعيينات، والتداخلات في المهام والصلاحيات، وعدم الالتزام بالدستور والقوانين والنظم النافذة، بالإضافة إلى الكثير من الأخطاء والتجاوزات الخطيرة، من قبل قيادة دولة الوحدة، أدّت بمجملها، إلى تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية والسياسية، في ظل اختلالات وفجوات خطيرة في حوكمة نظام دولة الوحدة، ما أدخل اليمن في أزمة سياسية عاصفة، بعد أقل من ثلاث سنوات فقط، من قيام الوحدة.
التملص من التزامات "وثيقة العهد والاتفاق"، التي وقّع عليها شريكَا الحكم، والقوى السياسة الأخرى، عمق من الاختلالات والتصدعات، وأَشعَل شرارة حرب صيف 94 وسط تلك الأزمة، تداعت أغلب القوى السياسية، في الساحة، إلى إجراء حوارات معمقة، لإنقاذ دولة الوحدة، قاربت فيها، من خلال ما عُرف بـ"وثيقة العهد والاتفاق"، الكثيرَ من الاختلالات والتشوهات التشريعية والبنيوية والعملياتية، بصورة غير مسبوقة، وبقدر كبير من التفصيل والوضوح والمكاشفة، وعمدت إلى تخصيص حيزٍ كبيرٍ منها للإشكالات الخاصة بالمؤسسة العسكرية، بالإضافة إلى العديد من الإشكاليات الأخرى، مع تصور عملي ومُزمن لمعالجتها، ورسمت فيها، خارطة طريق دقيقة، للخروج من الأزمة، ولضمان المضي في طريق إنجاز دولة يمنية حديثة مستقرة.
غير أن التملص من التزامات "وثيقة العهد والاتفاق"، التي وقّع عليها شريكَا الحكم، والقوى السياسة الأخرى، عمق من الاختلالات والتصدعات، وأَشعَل شرارة حرب صيف 94، التي بدأت كاشتباكات مسلحة، بين العديد من الألوية، في عمران وذمار، في 27 أبريل 1994، ثم امتدت على نطاق واسع، حيث قاد صالح، تحت عنوان المحافظة على الوحدة، تحالفًا واسعًا من التشكيلات المسلحة النظامية، ومجاميع حزب الإصلاح والقبائل، ومجاميع الجهاديين العائدين من أفغانستان، بالإضافة إلى تشكيلات جنوبية من فصيل (الزمرة) الذين فروا إلى الشمال عقب أحداث 13 يناير 1986 في عدن والجنوب، في مواجهة تشكيلات قادها نائبه علي سالم البيض، تحت عنوان فك الارتباط واستعادة دولة الجنوب، وانتهت باجتياح قوات صالح وتحالفه محافظات الجنوب في 7 يوليو 1994.
ورغم توقف العمليات العسكرية، بهزيمة قوات الحزب الاشتراكي، الجنوبية، واصل صالح وحلفاؤه المنتصرون، استباحة مؤسسات الدولة وممتلكاتها، بما في ذلك الاستحوذ على الأراضي والعقارات، بالإضافة إلى عمليات تسريح واسعة، طالت كوادر المؤسسات العسكرية والأمنية والمدنية، الجنوبية، المحسوبة على الحزب، حيث تركت تلك الحرب، وما لحقها من أعمال تسريح وإزاحة وصلت إلى حد التصفية، آثارًا كبيرة على السياسة والاقتصاد والمجتمع في اليمن، ورفض نظام صالح مرارًا دعوات معالجة آثار تلك الحرب، وتُركت ملفاتها مفتوحة، تتفاعل تتفاقم، وتتسع وتتعمق دائرتها، وتزداد تعقيدًا، حتى اليوم.
وعوضًا عن المبادرة المسؤولة لمعالجة الآثار العديدة، لتلك الحرب، تشارك تحالف الأطراف المُنتصرة في تلك الحرب ومراكز القوى لأجنحة الحكم، في فوضى سباق حصاد غنائم وفواتير واستحقاقات تلك الحرب، على ما تبقى من تركة الطرف المهزوم، مع جنوح صالح، عامًا بعد آخر، إلى ركل حلفاء الحرب والحكم، سعيًا للاستفراد بالسلطة، وأبرز عناوين ذلك التحول يتمثّل في عمليات التخلص من قيادات وازنة في الجيش، مثل: العميد الركن أحمد فرج- نائب رئيس هيئة الأركان العامة لشؤون التخطيط والتسليح، والعميد محمد إسماعيل القاضي- قائد المنطقة العسكرية الشرقية، واللواء الركن أحمد حسين صالح العقيلي- مدير مكتب القائد الأعلى للقوات المسلحة، ومعهما 15 ضابطًا، قُتلوا جميعًا إثر تحطم طائرة عسكرية يوم 14 أغسطس 1999، في حضرموت، بالتزامن مع إزاحة شخصيات وازنة، مثل اللواء يحيى المتوكل، ومجاهد أبو شوارب، وعبدالإله القاضي، بالإضافة إلى بدء تقليص مساحة الشراكة مع حزب الإصلاح، وإنهاء الكثير من امتيازات الزواج الكاثوليكي مع "حزب الشدة"، وصولًا إلى ركله خارج دوائر السلطة، وأبرز عناوين ذلك المسار، قرار إلغاء المعاهد العلمية، كمنظومة تعليمية حكومية موازية للمدارس، بتمويل حكومي، نُذرت للحزب، وأيديولوجيته، وهيمنته المُطلقة، على مدى عقود، بالإضافة إلى تصميم صالح وحزبه الحاكم على حصد الأغلبية المريحة من المقاعد البرلمانية، في الانتخابات النيابية 97، والانتخابات الرئاسية 99، والانتخابات النيابية 2003، وتقليص حصة حزب الإصلاح، والأحزاب الأخرى، إلى ما لا يزيد على 15%، من قوام مجلس النواب.
استفرد صالح وحزبه بالسلطة، وعطل آليات المعارضة، وحاصر تفاعلاتها في هامش جانبي، وبعد أن نجح في حصر دور مجلس النواب في أُطر ديكورية ودعائية ومع تأمين صالح وحزبه للأغلبية المريحة في البرلمان، والتي كانت كافية لتشكيل حكومة مؤتمرية كاملة، دون أي حاجة للتحالف مع "حزب الشدة"، ودون القلق من تحفظاته منفردًا أو مؤتلفًا مع أحزاب المُعارضة الأُخرى، مثل الحزب الاشتراكي، الذي انكب على محاولات التعافي من آثار حرب 94، فاستفرد صالح وحزبه بالسلطة، وعطل آليات المعارضة، وحاصر تفاعلاتها في هامش جانبي، وبعد أن نجح في حصر دور مجلس النواب في أُطر ديكورية ودعائية، وإفراغه من أي دور رقابي فعّال، مرّر الكثير من التشريعات والاتفاقات والسياسات، مثل اتفاقية ترسيم الحدود مع السعودية، وبرامج الإصلاح الاقتصادي، واتفاقيات الغاز والنفط.
وبالتوازي، دشّن صالح، مستوى جديدًا من مستويات مشروع التوريث، بتمكين عددٍ من أفراد أسرته في قيادة المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية. أبرز عناوين ذلك المسار يتمثل في مساعي تعزيز النفوذ العسكري لنجله العميد أحمد علي عبدالله صالح، قائد الحرس الجمهوري والقوات الخاصة، ونجله الآخر صلاح علي عبدالله صالح، قائد قوات الـ(مشاة جبلي)، ونجل شقيقه، العميد الركن يحيى محمد عبدالله صالح، قائد أركان قوات الأمن المركزي، وشقيقه عمار محمد عبدالله صالح، وكيل جهاز الأمن القومي، وشقيقهم العميد طارق محمد عبدالله صالح، قائد ألوية الحماية الرئاسية، بالإضافة إلى محمد صالح الأحمر، قائد القوات الجوية، على حساب نفوذ اللواء علي محسن الأحمر، قائد المنطقة الشمالية الغربية، وقائد الفرقة الأولى مدرع، وهو ما أدى إلى بروز ملامح تصدعات في بُنية النظام، بصورة غير مسبوقة، تعمقت خلال النصف الثاني من العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، على هامش حروب صعدة، خلافًا لحالة التحالف الوطيدة على مدى عقود، سابقة لإعلان قيام الوحدة، ولاحقة لقيامها.
لقد شهدت الساحة اليمنية، خلال العقد الثاني من عمر دولة الوحدة، على امتداد السنوات العشر الأولى من الألفية الثالثة، جُملةً من التحولات وثيقة الصلة بوضع المؤسسة العسكرية اليمنية، وحالة الدولة اليمنية، ومؤسساتها الأخرى، وبالوضع الراهن لليمن، أبرزها:
انضمام اليمن لجهود مكافحة الإرهاب
عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، في العام 2001، والهجوم على المدمرة الأمريكية كول في خليج عدن، أدخل نظام صالح، اليمنَ، في نطاق عمليات مكافحة الإرهاب، ابتداءً من المُلاحقات والاعتقالات والمحاكمات، للعناصر المُتهمة بالانتماء لتنظيم القاعدة، في غير منطقة يمنية، وصولًا إلى عمليات الطائرات بدون طيار (الدرونز)، في ظل سياسة الأجواء المفتوحة، التي دُشّنت باستهداف "أبو علي الحارثي" في مأرب عام 2002، واستمرت على مدى عقدين، كشفت بمجملها، عن جانب من الفجوات الخطيرة في وضع الجيش اليمني، وأهليته، والفجوات الخطيرة في أجهزة ومؤسسات الدولة الأخرى.
إعلان تشكيل تكتل اللقاء المشترك
في 6 فبراير/ شباط 2003، أُعلن عن تشكيل تكتل اللقاء المشترك، كإطار لتحالف أحزاب المعارضة اليمنية، الرئيسية، وعلى رأسها: حزب الإصلاح والحزب الاشتراكي، والتنظيم الناصري، وأحزاب صغيرة أخرى، ليشهد حكم صالح، أولَ معارضة سياسية جدية وفاعلة، في تاريخه، حيث تبنَّى تكتل اللقاء المشترك، خطابًا سياسيًّا معارضًا بسقف مرتفع، وبزخم سياسي، غير مسبوق.
الانتخابات البرلمانية 2003
في 27 أبريل/ نيسان 2003، أُجريت انتخابات برلمانية، فاز فيها حزب المؤتمر الشعبي العام الذي ينتمي إليه رئيس الجمهورية، بأغلبية المقاعد، حيث سيطر على البرلمان، وحجز 229 مقعدًا من إجمالي مقاعد البرلمان، البالغ عددها 301، بنسبة 76% من المقاعد، فيما حصل حزب الإصلاح على 45 مقعدًا، بنسبة 14.95%، وتوزعت بقية المقاعد، على الأحزاب الأخرى، والمستقلين. وتتضح توجهات صالح وحزبه، بالنظر إلى نتائج الانتخابات البرلمانية، في العام 1997، التي حصد فيها حزب المؤتمر (223) مقعدًا، وحصد فيها حزب الإصلاح (64) مقعدًا، ونتائج الانتخابات البرلمانية، في العام 1993، التي تمخضت عن فوز حزب المؤتمر الشعبي العام، بـ(134) مقعدًا، ومن ثَمّ الحزب الاشتراكي اليمني، حيث حصل على (68) مقعدًا، يليه حزب التجمع اليمني للإصلاح، بـ(64) مقعدًا، و(7) مقاعد لحزب البعث العربي الاشتراكي. و(2) لحزب الحق، مع مرشح واحد لكلٍّ من التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري وتنظيم التصحيح الناصري، والحزب الديمقراطي الناصري.
بدأت حروب صعدة على نطاق محدود، في قرية صغيرة نائية شمال محافظة صعدة، ثم اتسعت رقعة الحرب، على امتداد ست جولات دامية، اتسمت بالعشوائية والتلاعب والتوظيف وسوء الإدارة واللا قانونية حروب صعدة الست
في 19 يونيو/ حزيران 2004، اندلعت أولى جولات حرب صعدة (شمال اليمن)، بين جماعة الحوثيين، وقوات الجيش، حيث بدأت على نطاق محدود، في قرية صغيرة نائية شمال محافظة صعدة، ثم اتسعت رقعة الحرب، على امتداد ست جولات دامية، اتسمت بالعشوائية والتلاعب والتوظيف وسوء الإدارة واللا قانونية. ومع الانتهاكات المروعة لتلك الحرب، فقد مثلت إحدى المحطات الكاشفة للحالة المُخيبة للقوات المسلحة اليمنية، ولحالة مؤسسات الدولة ككل، وإضافة إلى ذلك، فحروب صعدة، تعد واحدة من أكبر محطات عمليات التجنيد العشوائية لأبناء القبائل، وعلى نطاق واسع. فُسرت تلك الحرب، وإخفاقاتها المُتكررة، باعتبارها فخاخًا مُهندسة لإنهاك قوات المنطقة الشمالية الغربية وقوات الفرقة الأولى مدرع بقيادة اللواء علي محسن، عزز ذلك التفسير، ما كشفته في حينه، وثائق ويكيليكس، بتقديم أجهزة استخباراتية موالية لصالح، إحداثيات موقع وجود علي محسن الأحمر، خلال قيادته للعمليات العسكرية في صعدة، إلى الطيران السعودي، لاستهدافه باعتباره موقعًا لجماعة الحوثيين، لتمثل تلك الواقعة، القشة التي قصمت ظهر بعير التحالف التاريخي الوثيق،
الانتخابات الرئاسية 2006
في 20 سبتمبر/ أيلول 2006، شهدت اليمن، أول انتخابات رئاسية تنافسية، بين كلٍّ من الرئيس علي عبدالله صالح، مرشح الحزب الحاكم، والمهندس فيصل بن شملان، مرشح تكتل اللقاء المشترك، المعارض، انتزع فيها صالح الفوز بولاية رئاسية جديدة، ورغم الكثير من الإشكالات في السجل الانتخابي، واستنفار صالح والحزب الحاكم، فقد حصد ابن شملان، 22% من الأصوات، حسب البيانات الرسمية التي لم يعترف بها فيصل بن شملان الذي عدته تقارير غير رسمية فائزًا.
تقرير هلال باصرة، رصدت الكثير من تجاوزات صالح ونظامه، وطالبت بمحاسبة المسؤولين عن الخروقات في الجنوب، وحذرت من خسارة الجنوب ككل. احتجاجات الحراك الجنوبي
عقب الحراك الشعبي المعارض لنظام صالح، والذي رافق الانتخابات الرئاسية في العام 2006، انطلقت في 13 يناير 2007، تظاهرات احتجاجية (عرفت بيوم التصالح والتسامح) قادها المسرحون من الوظائف العسكرية والأمنية والمدنية التي أعقبت حرب صيف 94، ومع عدم استجابة نظام صالح لمطالبها، ومواجهتها بالقمع، ابتداءً من إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، وعمليات القتل غير القانونية، والاختفاء القسري والاحتجاز التعسفي، والمحاكمات الجائرة، وانتهاك الحريات الصحفية، صعد "الحراك الجنوبي" من مطالبه، وبدأ في العام 2008، مطالبته بانفصال جنوب اليمن عن شماله. في العام 2009، تشكلت لجنة رئاسية لمعالجة المشكلة، وأصدرت تقريرها، الذي عُرف بتقرير هلال باصرة، رصدت الكثير من تجاوزات صالح ونظامه، وطالبت بمحاسبة المسؤولين عن الخروقات في الجنوب، وحذرت من خسارة الجنوب ككل.
الانسداد السياسي
منذ العام 2005، انضمت اليمن إلى قائمة الدولة الهشة، وبعد جولات حوار بين الأحزاب السياسية المعارضة مع حزب صالح الحاكم، أعلنت التوصل إلى اتفاق بإرجاء الانتخابات النيابية، وصلت اليمن، بحلول العام 2010، إلى حالة الانسداد السياسي، مع تفاقم العديد من الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية.
وقّعت الأطراف اليمنية، في 23 نوفمبر 2011، برعاية سعودية في الرياض المبادرةَ الخليجية وآليتها التنفيذية، كإطار لتسوية سياسية، تعالج حالة الانسداد السياسي، والوضع المُعقّد الذي فاقمته الانتفاضة الشعبية في 2011. المرحلة الرابعة:
منذ العام 2011، وحتى العام 2023
فرص التحول المُهدرة
الربيع العربي في اليمن
في شهر فبراير من العام 2011، اندلعت في اليمن تظاهرات مُطالِبة بإسقاط نظام صالح، في إطار ما عُرف بثورات الربيع العربي، انخرطت فيها الأحزاب والقوى المناوئة لنظام صالح، وعلى رأسها أحزاب اللقاء المشترك، ومع تصاعد عمليات القمع والانتهاكات التي ارتكبتها قوات نظام صالح، لمواجهة موجة الاحتجاجات الشعبية، أعلن اللواء علي محسن الأحمر، في 21 مارس/ 2011، انشقاقه مع قواته عن النظام، وانضمامه للثورة المطالِبة بإسقاط النظام، وتباعًا أعلنت العديد من القوى والقيادات القبَلية والعسكرية انضمامَها لساحات الثورة، وهو ما فجّر العديد من بؤر الصراع المسلح، في صنعاء (الحصبة، وأرحب، ووسط صنعاء)، وفي مدينة تعز، وسط اليمن، وخلال ذلك، سيطرت جماعة أنصار الشريعة على زنجبار وجعار في محافظة أبين، التي تم تحريرها في عملية عسكرية لقوات من الجيش اليمني، وعقب نجاحها، سُلمت محافظة أبين إلى اللجان الشعبية بقيادة عبداللطيف السيد، كما سيطرت جماعة الحوثيين على عاصمة محافظة صعدة، كما خاضت الجماعة صراعًا داميًا مع التشكيلات التابعة لحزب الإصلاح للسيطرة على الجوف، ووسط تصاعد أعمال العنف، على نطاق واسع، استهدف انفجار في جامع دار الرئاسة، في يونيو 2011، الرئيسَ صالحًا، وعددًا من قيادات الصف الأول للنظام، أصيب فيه الرئيس صالح بجروح بليغة، وقُتل وجُرح معه عدد من القيادات السياسية والعسكرية العليا، نُقِلَ صالح إثرها إلى أحد مستشفيات السعودية، لتلقي العلاج، وتسلم نائبه عبده ربه منصور هادي المهام الرئاسية طيلة شهور علاج صالح.
المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية
المرحلة الانتقالية وإشكالاتها
مع تفاقم الأزمة السياسية، وقّعت الأطراف اليمنية، في 23 نوفمبر 2011، في قصر اليمامة بالرياض، تحت رعاية الملك عبدالله بن عبدالعزيز، ملك السعودية، المبادرةَ الخليجية وآليتها التنفيذية، كإطار لتسوية سياسية، تعالج حالة الانسداد السياسي، والوضع المُعقّد الذي فاقمته الانتفاضة الشعبية في 2011، ضد الرئيس علي عبدالله صالح، في إطار ما يسمى بثورات الربيع العربي، وتكشفت خلالها التصدعات في بُنية النظام السياسي اليمني، وهدفت المبادرة الخليجية (السعودية)، طبقًا لنصها النهائي، إلى الحفاظ على وحدة اليمن وأمنه واستقراره، وتلبية طموحات الشعب اليمني في التغيير والإصلاح، وضمان انتقال السلطة بطريقة سلِسة وآمنة، تُجنِّب اليمن الانزلاق إلى الفوضى والعنف، في إطار توافق وطني.
وعلى وجاهة كل التحفظات على بعض مضامين المبادرة الخليجية، مثل قانون الحصانة، فقد تحقّقت الكثير من الخطوات المهمة، على امتداد العام الأول للمرحلة الانتقالية، حيث تم تشكيل حكومة الوفاق الوطني، وأُجريت في 21 فبراير 2012، انتخابات رئاسية بمرشح وحيد، هو نائب الرئيس صالح، عبده ربه منصور هادي، المتوافق عليه بين الأطراف الموقعة على المبادرة، كرئيس توافقي، خلفًا لصالح، لمرحلة انتقالية، حتى 21 فبراير 2014، كما تم تشكيل اللجنة العسكرية العليا، التي لعبت دورًا مهمًّا في إنهاء مساحات الاشتباكات المسلحة، وفتح الطرقات، وإزالة المتارس والثكنات، وتطبيع الأوضاع، في العاصمة صنعاء، والمحافظات الأخرى.
لقد هيمن حزب الإصلاح، بأجنحته المختلفة، على الأغلب الأعم من مسارات العام الأول من المرحلة الانتقالية، بالتزامن مع تصاعد التباينات بين الرئيس هادي وسلفه صالح، ومع وصول فروع جماعة الإخوان للسلطة في أكثر من بلد عربي، حيث خرج الحزب مُنتشيًا بوزنه، تبعًا لأدواره في الثورة ضد صالح، مقابل حجم إسهامات القوى الأُخرى وأوزانها، مستدعيًا خبرته الأثيرة في الحكم من المقعد الخلفي، خلال مراحل تحالفاته السابقة مع صالح، فاتسم ذلك العام، بحالة من فوضى التحاصُص، من خلال عمليات الإنزال المظلي على الوظائف العسكرية والأمنية والمدنية، شملت كذلك، تعيين محافظين في الجوف وعمران وحجة ومأرب، فحفز الحزب بذلك، الكثير من هواجس وضغائن وتحفظات حلفائِه في تكتل المشترك، وفي الثورة، بالإضافة إلى نقمة صالح ومن تبقى في مركبه في المرحلة الأخيرة من رحلته.
وبالتحالف مع حزب الإصلاح، والأحزاب والقوى الأخرى، بدأ الرئيس هادي عملية لتقليم الأظافر، التي طالت عددًا من أفراد أسرة سلفه صالح، حيث أقال تباعًا محمد صالح الأحمر، ويحيى صالح، وطارق صالح، وعمار صالح، وصولًا إلى إقالة أحمد علي.
ومع بداية العام الثاني لرئاسة هادي، شهدت اليمن سلسلةً من الأحداث الخطيرة؛ ابتداءً من استهداف سلاح الجو، سواء بالتفجيرات، أو عمليات الاغتيال، أو حوادث سقوط العديد من الطائرات الحربية، مرورًا باستهداف ضبّاط الأمن السياسي بعمليات الاغتيال، وعمليات استهداف قيادات عسكرية، وموجة من عمليات الاغتيالات السياسية، والهجمات الإرهابية مثل الهجوم على مجمع وزارة الدفاع.
الندوة العسكرية لم تشخص واقع المؤسسة العسكرية، ولم تقارب أيًّا من إشكالاتها، وهدفت عمليات الهيكلة إلى حرق المراحل، من أجل الدفع للذهاب في اتجاه إجباري يقود في نهاية المطاف إلى تمديد فترة رئاسة هادي مساعي التمديد.. ما يفعله الطموح بلا كفاءة
وفي حين عمد الرئيس هادي إلى الاستفراد بإدارة دفة المرحلة الانتقالية، معتمدًا بدرجة رئيسة على وزير دفاعه، محمد ناصر أحمد، والمبعوث الأممي إلى اليمن، جمال بنعمر، حامل عصا مجلس الأمن وعقوباته، بالإضافة إلى دائرة صغيرة من التقنيين المُلحقين بمكتبه، ذهب إلى التجميد الفعلي لأعمال اللجنة العسكرية العليا، ثم إلى العمل على أن يكون مؤتمر الحوار الوطني، شكليَّ الانعقاد والنتائج، وصولًا إلى سلق عملية عبثية، بكل مقدماتها ونتائجها، تكفلت بتفكيك وتقويض الجيش، تحت عنوان هيكلة القوات المسلحة، كان من أبرز رعاتها، السفيران الأمريكي والبريطاني، والتي لم تكن في حقيقتها أكثر من عملية تحريك شكلية وسطحية، لألوية ووحدات القوات المسلحة، بناء على تصورات نظرية، تم تداولها في إطار ما عُرف بالندوة العسكرية، التي لم تشخص واقع المؤسسة العسكرية، ولم تقارب أيًّا من إشكالاتها، والتي هدفت عمليات الهيكلة إلى حرق المراحل، من أجل الدفع للذهاب في اتجاه إجباري يقود في نهاية المطاف إلى تمديد فترة رئاسة هادي، خلافًا للاتفاق الموقّع بين الأطراف السياسية، ليقدم هادي وزمرته، أنموذجًا حيًّا لما يفعله الطموح بلا كفاءة ولا رؤية ولا خطة.
إفشال المبادرة الخليجية
فخاخ التقويض وبوابات الاحتراب
وعلى الأهمية القصوى للمرحلة الانتقالية، فقد شهدت حالة فراغ خطيرة في القيادة، إذ تزامن الضعف في الرئاسة مع ضعف الحكومة، بصورة غير مسبوقة، وهي مساحة لعب فيها وزير الدفاع، محمد ناصر أحمد، أدوارًا خطيرة، برزت بصورة جلية، عقب الإطاحة بالرئيس المصري محمد مرسي ومعه حُكم الإخوان في مصر، بمساعدة إماراتية وخليجية، في يوليو 2013، حيث دُفع اليمن، قسرًا، وبشكل مباغت، إلى طريق مغاير كليًّا، كان مهندسًا بعناية، لتحقيق جُملة من الأهداف الجيوسياسية، التي يمكن قراءتها الآن، بتجميع أجزاء صورة المشهد، وأحداثه ونتائجه، بعد اكتمالها، ولو نسبيًّا، على امتداد أكثر من عشر سنوات، والتي يمكن بتتبعها وتحليلها، بناء خُلاصات متماسكة، حول العمليات المخططة التي تكفّلت بإفشال المبادرة الخليجية، وآليتها التنفيذية، كمقاربة سياسية سعودية، فعّالة، لحماية اليمن من الانزلاق لفخاخ الاحتراب.
الصراع الراهن
الحرب الراهنة وتداخلاتها المحلية والإقليمية والدولية
في ظل تساهل دولي وإقليمي، وعمل مُخطط لملء الفراغات في اليمن، وفي حين كُبلت الكثير من القوى بعصا عقوبات مجلس الأمن، تحت عنوان محاسبة معرقلي العملية السياسية، مع تصارع النخب السياسية، والتهائها بالمحاصصة، والمكايدة، ونوازع الانتقام، تحوّلت جماعة الحوثيين من جماعة صغيرة في شمال اليمن، إلى تشكيل مسلّح. عُطّلت كل الموانع الكفيلة بوقف تقدم الجماعة، منذُ أول خطواتها خارج معقلها، في جبال صعدة، بسلسلة من الحروب شمال الشمال، ابتداءً بحرب دماج، والجوف، وحجة، وعمران، مرورًا بتصريح هادي الشهير، عقب مقتل قائد اللواء 310، حميد القشيبي، وسيطرة جماعة الحوثيين على عمران، خلال زيارته له- بأن عمران عادت إلى حُضن الدولة، وصولًا إلى السيطرة على العاصمة اليمنية، صنعاء، وبقية المحافظات بالقوة المسلحة، في 21 سبتمبر 2014، في ظل تواطؤ هادي ووزير دفاعه، وبتسهيل من صالح وحلفائه من قادة قبائل طوق صنعاء، والقادة العسكريين والأجهزة الأمنية، والتزام حزب الإصلاح، المُكبل والمُستهدف، ما بعد يونيو 2013، أعلى درجات ضبط النفس، مع دخول نخب اليسار تحت تخدير فرية أن عملية جماعة الحوثيين تستهدف فقط مراكز القوى، وبيت الأحمر، والفرقة، وجامعة الإيمان، فيما نذرت العديد من وسائل الإعلام، والنخب، لمهمة الدعاية المُسخرة لصالح أجندة جماعة الحوثيين، التي أغرقت المشهد العام بالضبابية في ظل تواطؤ إقليمي ودولي، فُسّر حينئذٍ، بأنه إحدى هدايا التفاهمات الأمريكية-الإيرانية، الجانبية، والمجانية، تبعًا للاتفاق النووي، مع الارتياح الغربي لفرية قدرة جماعة الحوثيين في مهمة مكافحة الإرهاب السني، في ظل إخفاقات الهياكل الحكومية الضعيفة والمهترئة.
وتحت فوهات بنادق جماعة الحوثيين، وقّعت الأطراف مساءَ سيطرةِ الجماعة على العاصمة صنعاء في 21 سبتمبر/ أيلول 2014، على اتفاق السلم والشراكة، الذي أفضى إلى تشكيل حكومة المهندس خالد بحاح، غير أن شهر العسل بين الرئيس هادي وجماعة الحوثيين لم يدُم طويلًا، فاندلعت اشتباكات عنيفة بين قوات الحماية الرئاسية ومسلحي جماعة الحوثيين، انتهت بهزيمة الأولى، وهو ما دفع رئيس الحكومة إلى تقديم استقالته، في 22 يناير/ كانون الثاني 2015؛ احتجاجًا على تصعيد جماعة الحوثيين المُعطِّلة لأعمال الحكومة، تبعتها بعد ساعات قليلة، استقالةُ الرئيس هادي، الذي وُضع من قبل جماعة الحوثيين مع وزراء الحكومة ورئيسها تحت الإقامة الجبرية. وفي 15 فبراير/ شباط، وضع مجلسُ الأمن الدولي اليمنَ تحت الفصل السابع، بموجب القرار 2201. بعدها بأيام، تمكّن الرئيس هادي من مغافلة مسلحي الحوثيين والفرار من صنعاء يوم 21 فبراير/ شباط 2015، ووصوله إلى مدينة عدن (جنوبي البلاد).
اليمن، وبصمات إيران وأنشطتها
ومهمة تصدير الخراب
باستيلاء جماعة الحوثيين على العاصمة صنعاء، بقوة السلاح، وضعت إيران يدها على حصة وازنة من تركة "الرجل المريض"، في اليمن، في إطار لافتة تصدير الثورة، الذي ترفعه منذ العام 1979، ومن منظور مجال الأمن القومي، خاصة إيران، لتضاف اليمن إلى كلٍّ من لبنان وسوريا والعراق، إذ إنّ جُلّ ما قدمته إيران لتلك المجتمعات، عبر حلفائها ووكلائها، خليطٌ من البارود والنار والأيديولوجيا القاتلة والشعارات المُرسلة، فهذه البلدان، بالنسبة لإيران، ليست أكثر من مساحات للمناورة، بوسائل خشنة، حيث جعلت مجتمعات تلك الدول، أضعفَ وأفقر، على كل المستويات، وبكل الحسابات، شأنها في ذلك، شأنُ أنشطة كل الدول الأخرى، التي تحتكم سياساتها الخارجية إلى ميراثها الاستعماري التاريخي، مثل بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، ومثل أدواتها الإقليمية، متمثلة بإسرائيل، والإمارات، فأدوارها وتدخلاها تؤدي إلى نتيجة حتمية، تتمثل بإضعاف الدول والمجتمعات، المُصنفة -ويا لسوء حظها- كحليفة وصديقة، في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا.
في مقابلة تلفزيونية مع قناة روسيا اليوم، بثتها أوائل مايو 2023، أفصح جمال بنعمر، المبعوث الأممي إلى اليمن، وقتذاك، عن أن أحد أسباب اندلاع الحرب، يكمُن في عدم موافقة القوى السياسية اليمنية، على مقترح تخصيص منفذ بحري لإقليم آزال، في إطار تصور الأقاليم، الذي قُدم بوصفه أحد مخرجات الحوار، وتكمن خطورة ما أفصح عنه بنعمر، في أنه يُفسّر الكثير من الأحداث المُصطنعة، التي مهّدت لوضع الاحتراب، بصورة تؤكّد أنها لم تكُن تطورات طبيعية، فأفصح بحديثه ذاك، عن حقيقة المناقشات، غير المُعلنة، وقتئذ، خلال العام 2013، حين كان الحوثيون، لا يزالون قوة صغيرة في صعدة، فالواضح أن تلك المناقشات في الظلام، تضمّنت، طبقًا لما أفصح عنه بنعمر، وعودًا نذرت إقليم آزال كدويلة للجماعة، وأنّ التصور المُعلن، كمخرج من مخرجات الحوار، كان في حقيقته، قد فُرض كمُدخلات مدروسة، ومُهندسة، لتلقيح كل الأحداث اللاحقة. بالإضافة إلى ذلك، قدّمت تلك المقابلة جانبًا من حقائق تفسّر الكثيرَ من الأدوار والأحداث والتطورات، خلال الأعوام 2012-2014، التي ظلت مُلغزة بإحكام، على خطورتها وجسامتها.
ومع إعلان وصول الرئيس هادي إلى مدينة عدن، اتجهت تشكيلات جماعة الحوثيين جنوبًا، تلتهم دون مقاومة المحافظةَ تلو الأخرى، وفي طريقها إلى عدن، وعلى مقربة من قاعدة العند، احتجزت مجموعة صغيرة من مقاتلي الجماعة، بالمصادفة البحتة، وزيرَ دفاع حكومة هادي، اللواء محمود الصُّبيحي، والقائد العسكري البارز، اللواء فيصل رجب، وشقيق الرئيس هادي، رئيس جهاز الأمن السياسي في عدن، اللواء ناصر منصور، وصولًا إلى الاشتباكات في شوارع وأحياء المدينة، بين جماعة الحوثيين وقوات صالح، ومجاميع مسلحة مُفككة وغير مدربة، انتهت بهزيمة تلك المجاميع وفرار الرئيس هادي برًّا عبر الحدود مع سلطنة عُمان، وإعلان وصوله إلى العاصمة السعودية الرياض، يوم 25 مارس/ آذار 2015، الذي بدأت فيه السعودية وحلفاؤها عمليات عسكرية واسعة عرفت بعاصفة الحزم.
في 14 أبريل/ نيسان 2015، أعلن مجلس الأمن الدولي، إدراج أحمد علي عبدالله صالح، نجل الرئيس السابق، وقائد قوات الحرس الجمهوري السابق، على لائحة العقوبات، بتهمة نسف سلطة الرئيس هادي، وإفشال محاولات هادي الرامية إلى إصلاح الجيش، وعرقلة انتقال اليمن السلمي نحو الديمقراطية، وتسهيل التوسع العسكري للحوثيين، بعد أن كان قد أُدرج والده، الرئيس السابق لليمن، علي عبدالله صالح، في 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، مع قيادات في جماعة الحوثيين، بالتهم ذاتها.
عمليات التحالف، منذ اليوم الأول لها، كانت تحقق عمليًّا أهدافًا مغايرة كليًّا لأهدافه المُعلنة، وتتناقض معها، حيث دفعت اليمن لمستوى جديد من الاحتراب على حدود الدم والبارود، ودعمت بناء تشكيلات ميليشياوية، ضدًّا على قوات الحكومة المعترف بها دوليًّا وفي حين كانت قد أوشكت قوات جماعة الحوثيين وصالح، على السيطرة على كامل مدينة تعز وريفها، بالتزامن مع وصولها إلى عدن، خلال شهر مارس/ آذار 2015، خرجت مظاهرات احتجاجية سلمية مناهضة لسيطرة الجماعة على محافظة تعز وعدن، يوم الثلاثاء 24 مارس/ آذار 2015، حيث هاجم مسلحو جماعة أنصار الله (الحوثيين) وأفراد من قوات الأمن الخاصة، تظاهرتين سلميتين، منفصلتين؛ فتحوا النار على تجمّع سلميّ في جولة القصر شمال شرق مدينة تعز، وفي هجوم منفصل، فتحوا النار على تظاهرة سلمية في مدينة التربة (جنوب غرب مدينة تعز)، ودخلت تعز، منذ ذلك اليوم الدامي، في صراع مدمر، قُتِل خلاله آلاف المدنيين، وجرح الآلاف منهم، كذلك.
وفي حين تركز الصراع في تعز على السيطرة على مدينة تعز، تشكلت في مواجهة جماعة الحوثيين وقوات صالح، مجاميع مسلحة عديدة، أبرزُها تلك الموالية لحزب الإصلاح، بقيادة حمود المخلافي، فيما انتسب الجنود النظاميون إلى اللواء 35، بقيادة العميد عدنان الحمادي، وتشكلت مجاميع سلفية تحت قيادة أبو العباس، وخلال الأعوام 2015 و2016 و2017، شهدت تعز أعنف المواجهات، واستهدفت عشرات الهجمات الدامية المدنيِّينَ في مدينة تعز، وفرضت جماعة الحوثيين مع قوات صالح حصارًا خانقًا على مدينة تعز، تمكنت التشكيلات المواجهة لجماعة الحوثي وقوات صالح، من كسره من الجهة الغربية، بعد سيطرتها على الأغلب الأعم من مساحة مدينة تعز، وصولًا إلى الحجرية غربًا، فيما استماتت جماعة الحوثيين للاحتفاظ بالسيطرة على أجزاء من شرق وشمال وجنوب مدينة تعز.
فجر يوم 26 مارس/ آذار 2015، بعد يوم واحد من وصول الرئيس هادي إليها، أعلنت السعودية، بعد أسابيع فقط من تسلم الأمير محمد بن سلمان منصب وزير الدفاع، قيادةَ عمليةٍ عسكرية لتحالف من تسع دول عربية، بهدف إنهاء انقلاب جماعة الحوثيين، واستعادة سلطة الرئيس هادي، غير أنّ عمليات التحالف، منذ اليوم الأول لها، كانت تحقق عمليًّا أهدافًا مغايرة كليًّا لأهدافه المُعلنة، وتتناقض معها، حيث دفعت اليمن لمستوى جديد من الاحتراب على حدود الدم والبارود، ودعمت بناء تشكيلات ميليشياوية، ضدًّا على قوات الحكومة المعترف بها دوليًّا.
في 14 يوليو/ تموز 2015، أعلن التحالف بقيادة السعودية والإمارات، عمليةً عسكرية بحرية وجوية وبرية، بمعية تشكيلات المقاومة الجنوبية، لتحرير مدينة عدن من سيطرة قوات جماعة أنصار الله الحوثيين وحليفهم وقتذاك، الرئيس السابق صالح، تلتها عملية عسكرية لتحرير مضيق باب المندب ومديرية ذوباب في 1 أكتوبر/ تشرين الأول 2015، حيث انتُزِعت من قبضة الحوثيين وأصبحت تحت سيطرة تشكيلات يمنية موالية للتحالف بقيادة السعودية والإمارات، وفي 23 يناير/ كانون الثاني 2017، أعلنت قوات الجيش اليمني وتشكيلات المقاومة الجنوبية، بمساندة من التحالف، استعادة مدينة المخا -صاحبة الميناء الاستراتيجي على البحر الأحمر، غرب محافظة تعز- بالكامل، من قوات جماعة الحوثي والرئيس السابق صالح، وذلك بعد معارك وصفت بـ"العنيفة"، ومع تركز الإمارات على دعم تسليح المجاميع السلفية، تسللت إلى قلب مدينة عدن الحضرية، تشكيلاتٌ جهادية متطرفة، سيطرت على أحياء، مثل التواهي، وميناء الزيت، وغيرها.
وقبل أن تضع الحرب مع الحوثيين، ولو بعض أوزارها، انصرفت قوات الإمارات إلى عمليات استئصال دامية، طالت وجود حزب الإصلاح في عدن، من خلال طوفان من عمليات الاغتيال والتصفية، طالت المئات من الشخصيات السياسية والاجتماعية والدعوية، العدنية، نفذتها دولة الإمارات من خلال شركة "مجموعة عمليات سبير" الأمريكية، التي تضم جنودُا سابقين من قوات الكوماندوز من قوات البحرية الأمريكية السابقة، وهم من نخبة مقاتلي العمليات الخاصة الأمريكية، الذين تلقوا سنوات من التدريب المتخصص على يد الجيش الأمريكي، طبقًا لموقع صحيفة "بزفيد نيوز" الأمريكية، الذي أشار إلى أنّ شركة "مجموعة عمليات سبير، التي استأجرت الجنود ونفذت عمليات الاغتيال، تأسست في ولاية ديلاوير، وأسسها أبراهام جولان، وهو مقاول أمن هنغاري، ووفقًا للموقع، فإن الصفقة التي جلبت المرتزقة الأمريكان إلى شوارع عدن تم إبرامها خلال وجبة غداء في نادي الضباط داخل قاعدة عسكرية إماراتية في أبوظبي.
وفي حين كانت الإمارات تزعم أن عملياتها ضد فروع جماعة الإخوان المسلمين، في إطار مناهضتها للمتطرفين الإسلاميين، درّبت وسلّحت وموّلت، الإمارات ذاتها، تشكيلات السلفيين، في اليمن، أبرزها: جماعة "أبو العباس"، في تعز، المُدرج في قائمة الإرهاب الأمريكية، بالإضافة إلى تشكيلات بقيادة هاني بن بريك، والمحرمي، والمحضار، وحمدي شكري، وعبداللطيف السيد، وقائمة طويلة من تشكيلات السلفيين المتشددين، في عدن والمحافظات الجنوبية الأخرى، والمفارقة، أنّ القوات الإماراتية، ذاتها، كانت تحمي تشكيلات حزب الإصلاح، بقبة حديدية من بطاريات الباتريوت، في مأرب.
ومنذ الأيام الأولى لحرب التحالف في اليمن، تكفلت النيران الصديقة لمقاتلات التحالف بقيادة السعودية والإمارات، بتصفية قيادات عسكرية محترفة، من قادة قوات الحكومة المعترف بها دوليًّا، مثل الأبارة، فيما قُتل قادة عسكريون بارزون، في ظروف غامضة، مثل: الشدادي، والحمادي، والجرادي، وشعلان، وغيرهم.
وقبل أن تتعرف مدينة تعز على طريقها إلى التعافي، من الجولة الأولى من الصراع، غرقت في جولة جديدة منه، بهدف السيطرة عليها، بين تشكيلات "أبو العباس"؛ المدعوم من الإمارات من جهة، وتشكيلات الإصلاح من جهة ثانية، ووسط ذلك الصراع، تسللت إلى قلب مدينة تعز الحضرية، تشكيلاتٌ جهادية متطرفة، تركزت سيطرتها على المدينة القديمة وحي سوق الصميل والجمهوري، وأحياء أُخرى شرق وجنوب المدينة، ففي 21 أبريل/ نيسان 2018، أُعلن عن مقتل "حنا لحود"، موظف اللجنة الدولية للصليب الأحمر، في تعز، على يد متطرفين. وعلى امتداد الأعوام 2015 و2016 و2017، تركز دعم التحالف والإمارات على وجه التحديد، على تقوية وتمكين تشكيلات "أبو العباس" السلفية، على حساب تشكيلات حزب الإصلاح، بقيادة "حمود المخلافي"، والتي كانت قد نُذرت لعملية إضعاف قسرية، مع مسار إخضاع متصاعد، بقوة التحالف وهيمنته، في أحد أهم معاقل الحزب.
أواخر العام 2017، تصاعد الخلاف بين حليفَي السلطة في العاصمة اليمنية صنعاء؛ الرئيس السابق علي عبدالله صالح وحزبه، وجماعة الحوثيين، وأنهى تحالفهما الوثيق بمقتل صالح ولم تتوقف عملية الإضعاف والتحجيم التي استهدفت تشكيلات حزب الإصلاح، والتي كانت جارية ونافذة على قدم وساق، إلا مع إعلان إدراج الإدارة الأمريكية، عادل عبده فارع "أبو العباس"، في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2017، على قوائم الإرهاب الأمريكية، وتباعًا، على لوائح السعودية والإمارات، لتنفتح فرصة استثنائية أمام تشكيلات حزب الإصلاح، التي كانت جاهزة، لاقتناص تلك الفرصة، واستعادة سيطرتها ونفوذها المُطلق على مدينة تعز تحت عنوان مكافحة الإرهاب، وعقب استعادة سيطرتها المُطلقة على المدينة، أدارت تشكيلات الإصلاح ظهرها لقوات الحوثي، المتمترسة شرق المدينة، واتجهت غربًا للسيطرة على مناطق التربة والحجرية (جنوب غرب تعز).
أواخر العام 2017، تصاعد الخلاف بين حليفَي السلطة في العاصمة اليمنية صنعاء؛ الرئيس السابق علي عبدالله صالح وحزبه، وجماعة الحوثيين، وأنهى تحالفهما الوثيق، ووصل إلى المواجهات المسلحة الدامية في عدد من الأحياء المتاخمة لمنزل صالح وسطَ صنعاء، انتهت يوم 2 ديسمبر/ كانون الأول 2017، بعد أيام قليلة، بإعلان مقتل صالح، وعدد من قادة حزبه، وفرار نجل شقيقه العميد طارق صالح.
في منتصف فبراير/ شباط 2018، سُجل في مدينة المخا، أول ظهور للعميد طارق صالح، الذي سبق أن تولى قيادة الحرس الخاص واللواء الثالث حرس رئاسي، خلال السنوات الأخيرة لحكم عمه "صالح". وتاليًا، أعلن عن تأسيس تشكيلات مُسلحة جديدة بقيادته، تحت مُسمى المقاومة الوطنية/ حراس الجمهورية، بدعم من الإمارات، مُكنت من السيطرة على مدينة المخا ومرفَئِها الاستراتيجي، كطرف جديد في الحرب. ولاحقًا، أُشركت تلك التشكيلات، مع قوات عسكرية أخرى، فيما يُعرف بالقوات المشتركة، في عملية عسكرية واسعة النطاق، أُطلقت في 19 أبريل/ نيسان 2018، للسيطرة على معسكر خالد بن الوليد، شرق مدينة المخا، والتحكم بمنعطف طريق رئيسي بين مدينة المخا الساحلية ومدينة تعز، وأسهم ذلك لاحقًا في التقدم نحو مدينة الحديدة شمالًا، في عملية عسكرية سُمّيت بـ"النصر الذهبي"، في يونيو/ حزيران 2018.
وفي إطار التنافس السعودي الإماراتي على النفوذ والسيطرة، وبالتزامن مع تصعيد واسع النطاق في جبهات مأرب وشبوة، أعلنت تشكيلات حراس الجمهورية أو المقاومة الوطنية، التي يقودها طارق صالح، والمدعومة من الإمارات، يوم الخميس 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، عملية انسحاب أحادية ومُفاجئة، من مواقع سيطرتها المتقدمة جنوبي مدينة الحديدة، بمساحة تقدر بنحو 100 كيلو على الساحل الغربي، ولم يكن لعملية الانسحاب أي علاقة باتفاقية ستوكهولم، كما أنها تمت دون علم الأمم المتحدة أو أيٍّ من مكاتبها ووكالاتها، كما أنها تمت دون علم الحكومة المعترف بها دوليًّا أو أيٍّ من سلطاتها المحلية المعينة، ولم تكن عملية الانسحاب كذلك، منسقة مع التشكيلات المسلحة المحلية الأخرى، الموالية للحكومة المعترف بها، وانحصر التنسيق فقط في حدود ضيقة بين القوات المشتركة والمجلس الانتقالي، المدعومة إماراتيًّا، في حين دفع الحوثيون بتعزيزات عسكرية لملء الفراغ قبل يومين من الانسحاب، حيث سيطروا على كافة المساحات المنسحب منها دون قتال.
في العام 2019، قال وزير خارجية الإمارات، أنور قرقاش، إنّ بلاده سلّحت ودرّبت 90 ألف مقاتل، جنوبَ اليمن، في إطار تشكيلات غير نظامية، تضم الأحزمة الأمنية، وتشكيلات النخب العسكرية، التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي، بالإضافة إلى تشكيلات سلفية في إطار ما يُعرف بقوات العمالقة، بقيادة عبدالرحمن المحرمي، والتشكيلات في الساحل الغربي بقيادة طارق صالح، وتشكيلات دفاع شبوة. من جانبها، دعمت السعودية تشكيلات حزب الإصلاح في مأرب وتعز وسيئون، بالإضافة إلى قوات الحكومة المعترف بها دوليًّا.
في أواخر أغسطس/ آب 2019، اندلعت اشتباكات عنيفة، في مدينة عدن، بين تشكيلات وقوات عسكرية وأمنية تابعة للحكومة المعترف بها دوليًّا، مدعومة من السعودية، من جهة، وتشكيلات تابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي، المدعومة من الإمارات، من جهة أخرى، انتهت بسيطرة تشكيلات المجلس الانتقالي الجنوبي، على كامل مدينة عدن، تلاشى معها الوجود الرمزي والمحدود للحكومة المعترف بها دوليًّا، التي سبق أن أعلنت مدينة عدن عاصمةً مؤقتة للبلاد.
عمدت الإمارات إلى سلسلة من العمليات المُباغتة لفرض واقع جديد وفق منظورها المحتكم إلى هواجس ترى في أي استقرار في اليمن والسعودية، والمنطقة مقوضًا لمصالحها، فزرعت الكثير من الألغام، من خلال تغذية النزعات الجهوية والمناطقية في 29 أغسطس/ آب 2019، هاجمت مقاتلات إماراتية، تشكيلات عسكرية تابعة لقوات الحكومة المعترف بها دوليًّا، في عدن وأبين، قتلت وجرحت المئات، وفي حين ناشد الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، السعوديةَ وقفَ ما وصفه بالتدخل الإماراتي السافر في بلاده ودعم الانفصاليين الذين يقاتلون للسيطرة على العاصمة المؤقتة عدن، وندّدت الحكومة اليمنية بغارات الإمارات على قواتها- أكّدت الخارجية الإماراتية، في بيان لها، شنَّها غارات جوية على العاصمة اليمنية المؤقتة، عدن، مستهدفة "ميليشيات إرهابية"، وعلى حساب القوات الحكومية، التي كبدتها تلك الهجمات خسائرَ فادحة، رجحت هجمات الإمارات كفة تشكيلات المجلس الانتقالي، التي سيطرت على العاصمة المؤقتة عدن، وطوت فعليًّا صفحة حكم الرئيس هادي.
وابتداءً من أحداث أغسطس/ آب، ومرورًا بالمفاوضات التي أفضت إلى توقيع "اتفاق الرياض" في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، وصولًا إلى مساعي تنفيذ الاتفاق، واجهت السعودية، اختبارات كاشفة، لقوة نفوذها، في مواجهة النفوذ الإماراتي المتصاعد، برزت معه ملامح التنافس السعودي الإماراتي، بوضوح، تمثلت أبرز عناوينه، في الصراع الطويل، في منطقة الشيخ سالم في أبين؛ بين قوات الحكومة المعترف بها دوليًّا، المدعومة من السعودية، من جهة، وبين تشكيلات المجلس الانتقالي، المدعومة من الإمارات، من جهة أخرى.
نص اتفاق الرياض
على امتداد سنوات الحرب، عمدت الإمارات إلى سلسلة من العمليات المُباغتة لفرض واقع جديد وفق منظورها المحتكم إلى هواجس ترى في أي استقرار في اليمن والسعودية، والمنطقة مقوضًا لمصالحها، لذلك استثمرت في خلق ضمانات عدم الاستقرار، وزرعت الكثير من الألغام، من خلال تغذية النزعات الجهوية والمناطقية، وبالإضافة إلى قائمة طويلة من الأحداث المُتسلسلة، يمكن الاستدلال بعمليتها المباغتة التي كسرت الوضع في الشيخ سالم، وصولًا إلى تفجير الوضع في شبوة والسيطرة عليها، وفرض واقع جديد فيها، ثم مغامرتها بالاتجاه إلى المكلا عاصمة حضرموت، بشهية مفتوحة لالتهام حضرموت الوادي ومناطق شرق اليمن، على حساب السعودية في آخر مساحات نفوذها، في اليمن.
وقد أُفشلت كافة محاولات هيكلة وإدماج كافة التشكيلات المدعومة من قبل التحالف، تحت قيادة موحدة، التي كانت آخرها اللجنة التي رأسها اللواء هيثم قاسم، والمُكلفة بدراسة وضع كافة التشكيلات، وإعداد خطة لهيكلتها ودمجها، من قبل مجلس القيادة الرئاسي، الذي أُعلن عن تشكيله من الرياض، في 7 أبريل/ نيسان 2022، وطوى صفحة الرئيس هادي الذي كان قد تسلّم الرئاسة في 21 فبراير/ شباط 2012، خلفًا للرئيس صالح، في إطار المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية.
إنّ مشكلة سلاح المجموعات في اليمن، هي إحدى المشكلات الأساسية والجذرية المؤثرة على كيان الدولة، وعلى حاضرها ومستقبلها، وتُمثل وحشًا يلتهم أكبر المكتسبات وأصغرها
سلاح المجموعات في اليمن
إنّ مشكلة سلاح المجموعات في اليمن، هي إحدى المشكلات الأساسية والجذرية المؤثرة على كيان الدولة، وعلى حاضرها ومستقبلها، وتُمثل وحشًا يلتهم أكبر المكتسبات وأصغرها، حيث فاقمت الحرب في اليمن، مشكلة سلاح المجموعات، في ظل تعامل إقليمي ودولي، اتسم بالخفة والارتجالية، وأحد أبرز ملامحه دعمُ جماعاتٍ مسلحة في مواجهة جماعات مسلحة مقابلة، وهو ما خلق جماعات مسلحة متعددة الولاءات والصلات والارتباطات الإقليمية، في إطار الحروب بالوكالة.
وبعد ما يزيد على تسع سنوات من الحرب، فإن أبرز الأطراف التي باتت تتصدر المشهد، تتمثل في جماعة أنصار الله (الحوثيين)، والمجلس الانتقالي، وتشكيلات حزب الإصلاح، وتشكيلات السلفيين، وتشكيلات طارق صالح، والحكومة المعترف بها دوليًّا، بالإضافة إلى المجلس الوطني الحضرمي، الذي أُعلن عن تشكيله عقب زيارة قيادة المجلس الانتقالي الجنوبي، إلى المكلا، بقواته ومدرعاته، وعقد اجتماع الجمعية الوطنية فيها، في حين هُمشت الأحزاب والقوى السياسية المدنية.
لقد أمنت الأطراف الإقليمية المتورطة في حرب اليمن، وفي أزماتها، كافة الإمكانات والموارد الضامنة لاستدامة هذه الكيانات والجماعات، لتصبح فاعلًا حقيقيًّا لضمان ديمومة الحرب وتوسيع دائرة آثارها الكارثية، وبذلك أنجزت -كأبرز ما أنجزت- بلدًا ممزقًا إلى كنتونات تسيطر عليها جماعات مسلحة مختلفة، تحكم كلٌّ منها مئات الآلاف من السكان بأساليب بدائية، في تراجع عن كل ما ناضلت من أجله أجيال الحركة الوطنية اليمنية، على امتداد عشرات السنين، وما كان اليمن قد راكمه من أجهزة ومؤسسات، ومن مكاسب تجربته الديموقراطية الناشئة، وهامش الحقوق والحريات وحرية المجتمع المدني.
إنّ وضع تشكيلات الأطراف اليمنية على الأرض، وعلى طاولة السياسة، الذي فرضته الأطراف الإقليمية بالقوة، على مدى تسع سنوات من الحرب، لا يمثل الأوزان الفعلية والحقيقية للأطراف، طبقًا لقوتها الذاتية، بل يعكس تصور القوى الإقليمية والدولية ليمن مُفتت يُلائم تصورها لحماية مصالحها، كمحدد لخطوط التماس، وحدود السيطرة، وحركة المصالح، وللأوزان.
الاستخلاصات
بتتبع حالة الدولة اليمنية، بمختلف مراحلها، تبرز العديد من الإشكاليات ذات الصلة بوضع القوات المسلحة، كعنوان رئيس، يتصدر جميع الإشكالات الأخرى، بما في ذلك تشوهات الوضع الراهن الذي تعيشه اليمن، بكل مقدماته ونتائجه، حيث لم يقتصر أثر ضعف القوات المسلحة اليمنية وتشوهاتها وانقساماتها، على الوضع السياسي للدولة، اقتصاديًّا وسياسيًّا وأمنيًّا وعسكريًّا واجتماعيًّا، وحسب، بل تعدى ذلك، ليقوض وجود كيان الدولة والمجتمع، وأبعد من ذلك؛ جعل من اليمن، مصدر تهديد إقليمي ودولي، وهو ما يجعل مقاربة مسائل وضع القوات المسلحة اليمنية، ابتداءً من المراجعة والبحث والدراسة المعمقة، بهدف التشخيص الدقيق لكافة الإشكالات، كمقدمة لازمة لتصور عملية إعادة بناء القوات المسلحة اليمنية، بصورة علمية حديثة، من التشريعات، إلى الهياكل والبُنى، إلى الحوكمة، والمأسسة، ووحدة القيادة، والضبط والربط، إلى عملية صهر القوة البشرية، إلى العقيدة القتالية، إلى الكليات الحربية والعسكرية ومناهجها، وتحديث تسليحها وآلياتها وعملياتها، وآليات المُحاسبة والامتثال، وصولًا إلى ضمانات حياديّتها كمؤسسة مستقلة عن الصراع السياسي، وعن السلطة التنفيذية، بالتزامن مع مباشرة إصلاحات في قطاع الأمن، على الصعيدين الوطني والمحلي، كأولى أولويات استعادة اليمن، إلى مسار التعافي والاستقرار، وكسبيلٍ نحو تحويل اليمن إلى كيان سياسي "فعّال" و"شرعيّ".
لقد كانت القوات المسلحة، لنظامي ثورتي سبتمبر وأكتوبر، ناتجةً عن عمليات توحيد بدائية للمجاميع والتشكيلات المسلحة التي شاركت في الثورتين، والتي احتكمت بدرجة أساسية إلى العشوائية والارتجال، والحاجة الآنية المُلِحّة للتجييش، بمعزل عن كل ما تتطلبه عمليات بناء جيش وطني محترف، وفق خطط علمية مدروسة، في إطار محددات ومعايير العلوم العسكرية الحديثة، من صهر وإدماج وإعادة تأهيل، وتسليح وهيكلة، وتوزيع للقوات، وعقيدة قتالية وطنية؛ ولذلك بقيت المجاميع والتشكيلات المسلحة الشعبية، محتفظة بولاءاتها لمراكز القوى والنفوذ، المتعددة، خارج إطار المؤسسة العسكرية النظامية، مع استحكام وهيمنة الموجهات العصبوية، الجهوية والمناطقية والقبَلية، والأيديولوجية، والمذهبية، والطائفية، التي رافقت جولات الصراعات الدامية.
لقد عاشت اليمن بشطريها، ما بين العام 1962، والعام 1990، في ظل نظامَين جمهوريَّين، عملا على مُراكمة مكاسب عديدة، وواجها معًا -وإن بنسب متفاوتة- إشكالية المُغايرة عن محيطهما الإقليمي، ثم إشكاليات دورات الصراع الدامية على السلطة، وعدم الاستقرار، حيث حكم شطرَي اليمن، خلال نفس الفترة، خمسةُ رؤساء في الشمال، وخمسةُ رؤساء في الجنوب، الأغلب الأعم منهم من العسكريين، فضلًا عن عددٍ من الحكومات المُتعاقبة، كان العنف، خلال تلك الفترة، هو آلية التنافس على السلطة، وآلية معارضتها، وآلية مساءلتها ومحاسبتها، وهو آلية تغييرها، في ظل تسيد نُظم شمولية، عاجزة عن استيعاب التنوع، وإدارته، وعجز النظام السياسي، عن تأمين آليات لإدارة التنافس والتباين السياسي والثقافي، وإدارة دورات حياة تحولات الدولة والمجتمع، وآليات حيازة السلطة، ومحاسبتها، وتداولها، بطرق سلمية.
وبالمثل، كانت عملية بناء المؤسسة العسكرية، منذ إعلان قيام الوحدة اليمنية، في 22 مايو 1990، وحتى العام 2010، مُجرد رحلة طويلة من المُراكمة العشوائية، المُثقلة بحمولات ملفات ميراث الصراعات السياسية السابقة لإعلان قيام الوحدة بين الشطرين، بالإضافة إلى ملفات جديدة، كآثار حرب صيف 94، وملفات حروب صعدة الست وآثارها، وملفات الانسداد السياسي، من التوريث، إلى اعتلالات السجل الانتخابي، وإشكالية نزاهة وموثوقية الانتخابات، وفشل النظام الرئاسي، بالإضافة إلى ملفات الفشل الإداري والاقتصادي، إلى عدم كفاءة الخدمات والمؤسسات والأجهزة، وارتفاع نسب البطالة والفقر، واستشراء الفساد المالي والإداري الذي كان ينخر أجهزة ومؤسسات الدولة.
على مدى عقود، أُهدرت العديد من الفرص الاستثنائية، لبناء دولة المؤسسات، وعلى رأسها مؤسسة الجيش، تحت ضغط هواجس البقاء في السلطة، والاستفراد بها، ثم تحت نوازع توريثها، كموجِّه أساسي لعمليات بناء القوات المُسلحة، التي انحصرت وظيفتها في حماية السلطة الحاكمة، لا حماية الدولة والمجتمع، وهي عوامل تضافرت في مُراكمة هياكل خاوية، رغم الموارد الضخمة التي كانت تلتهمها الثقوب السوداء؛ لذا فقد تخلقت جيوش متعددة الولاءات، تتباين جذريًّا في عقيدتها القتالية، وفي موازناتها ومخصصاتها المالية، وفي معايير وشروط التنسيب فيها، وفي فرص التدريب، وحتى في نوعية التغذية، وفي الصورة الذهنية المُصدرة، وتعدد الولاءات الـ(ما دون) وطنية، بالإضافة إلى تقاسم مختلف أجهزة ومؤسسات الدولة، العسكرية والأمنية والمدنية، حيث شهدت موجات من التجنيد الوهمي، مع عرقلة نظام البصمة لمنتسبي وزارتي الدفاع والداخلية، وتقديم الأرقام العسكرية كهبات ومجاملات، في ظل خضوع الترقيات والتعيينات والتقاعد للمزاج السياسي وليس لمحددات قانون الخدمة العسكرية، مع بروز ظاهرة الألوية الموهوبة التي عززت الجيوب الميليشياوية والقبَلية داخل المؤسسة العسكرية، وسُلح الجيش من أسواق خردة الحرب العالمية الثانية، وعلى ندرة الأسلحة الأحدث، فقد أُعدمت في عمليات إتلاف تحت إشراف أمريكي، في ظل عدم وجود أي خطة لدى الدولة لاحتكار السلاح ووسائل القوة المشروعة، مع تزايد حيازة المجموعات القبَلية والتشكيلات غير النظامية، والأفراد، للأسلحة، بمختلف أنواعها، على نطاق واسع، مع تعطيل مراكز النفوذ، لمسار مناقشة وإقرار قانون حيازة السلاح منذ مطلع التسعينيات.
بالإضافة إلى كل ذلك، تتمثل أبرز الإشكاليات، التي أثّرت على وضع المؤسسة العسكرية، في مختلف المراحل، في أزمة شرعية ومشروعية السلطات الحاكمة، وحالة التقادم والتهالك في الرؤى والتصورات، وفي البُنى والهياكل والآليات، في ظل قصور حوكمة المؤسسة العسكرية، في التشريعات واللوائح، والهياكل والبُنى، وإقصاء الكفاءات المتخصصة، التي كان يمكن أن تساهم في مهمة البناء المؤسسي للقوات المسلحة، مع عدم بناء أكاديميات ومدارس عسكرية وحربية، حديثة ومهنية ومحترفة.
وقد كان للتدخلات الإقليمية والدولية، أثرها البالغ على المؤسسة العسكرية، وبالأخص مع جنوح العلاقات الخارجية إلى التبعية والإذعان، الذي كان من أبرز تعبيراته، خوضُ الصراعات والحروب والأزمات بالوكالة، بالتضافر مع افتقار النظام السياسي للاستقلالية، وللقيادة والرؤية، وفق خطط وأهداف استراتيجية، مُحتكمة إلى محددات ومعايير العلوم العسكرية الحديثة، ومنظور وطني مُتجرد.
إن استمرار المراهنة على تطبيع وترسيم حدود الدم والبارود والحرب، وعلى مواصلة عملية جزرنة اليمن، المُخططة، وجهود تعقيد الوضع، ومُفاقمة المشكلات، حيث سُخّرت الكثير من الموارد، لخلق ورعاية التشكيلات المسلحة غير القانونية، وعمليات التجنيد والتسليح والتدريب والتمويل والتشغيل، طبقًا لمحددات جُزر متنافرة، على حدود من الدم والبارود، قد شكل تعزيزًا للمساحات المُقتطعة التي ملأتها التنظيمات الإرهابية، وجماعات العنف، والتي وجدت في الحرب فُسحة لإعادة بناء تشكيلاتها في غير منطقة يمنية، والتي تتحين الفرص، لأقلَمة ودولنة نشاطها.
وبرغم دورات الصراع السياسي، المدمرة، بأحداثها الكثيرة، فالمخيب بقاء العوامل والعناصر والمُدخلات، المُحفزة والمغذية لتلك الصراعات، بمعزل عن التوثيق والبحث والتدقيق والدراسة، بصورة لم تسمح بالاستفادة من دروسها، وبمعالجتها، وبمنع تكرارها، مع عدم وجود خطط وأهداف استراتيجية تستند على أسس منهجية وعلمية حديثة، تحكم توجهات وعمليات المؤسسة العسكرية، وتضمن قدرتها على القيام بالمهام والمسؤوليات المناطة بها، تحت جميع الظروف؛ ولذلك ظلت الكثير من الأحداث، مُلغزة، ومنذورة للتخمينات والتأويلات المُرسلة، مهما كانت درجة أهميتها البالغة.
مراجع ذات صلة:
التاريخ العسكري لليمن (1839-1967) - كتاب - سلطان ناجي
مجموعة كتب الدكتور سيد مصطفى سالم عن تاريخ اليمن
مذكرات القاضي عبدالرحمن الإرياني
شهادة محسن العيني - حوارات مُتلفزة
ذاكرة وطن - علي ناصر محمد
شهادة حيدر أبو بكر العطاس - حوارات مُتلفزة
شهادة علي ناصر محمد - حوارات مُتلفزة
مذكرات جار الله عمر - كتاب
كتابات الدكتور أبو بكر السقاف - مقالات
اليمن الجمهوري - عبدالله البردوني - كتاب
مذكرات يحيى الشامي. خيوط
مذكرات حاتم أبو حاتم. خيوط
(22 مايو) التعثّر ومشاريع التقويض! ملف خيوط
https://www.khuyut.com/issues/may-22
https://www.khuyut.com/blog/fragilestatesindex-yem
https://belqees.net/articl es/أحداث-أغسطس-68-من-هنا-بدأ-إفراغ-النظام-الجمهوري
https://www.khuyut.com/blog/yahya-al-shami-memoirs5
في تشريح أزمة الدولة الوطنية: ملاحظات على النقاش العالمي - عمرو حمزاوي
https://carnegie-mec.org/2010/12/16/ar-pub-42153
https://www.shorufatcenter.com/4432/مؤشر-الدول-الهشة-%E2%80%8F-fragile-states-index-fsi%E2%80%8E/
اليمن تتصدر قائمة الدول الهشّة - صفية مهدي - خيوط
https://www.khuyut.com/blog/fragilestatesindex-yem
"Yemen and the Search for Stability: Power, Politics and Society after the Arab Spring" by Ginny Hill
"The International Politics of the Yemen Civil War 1962-68" by Noel Brehony
"Yemen Divided: The Story of a Failed State in South Arabia" by Noel Brehony
"The Battle for Yemen: Al-Qaeda and the Struggle for Stability" by Gregory D. Johnsen
يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.