قبل أن تضع الحرب أوزارها، وقبل أن تبدأ اليمن أولى خطواتها خارج مجال الحرب، لتبدأ رحلة التعافي والإعمار والسلام، تسارعت خطوات مجتمع المانحين في طريق تقليص الدعم المُخصص للتدخلات الإنسانية والتنموية في اليمن، ابتداءً من مَقُولات إعادة التوجيه إلى برامج التنمية، عوضاً عن برامج الإغاثة الطارئة لمواجهة آثار استخدام التجويع كسلاح حرب، ومروراً بحملات الدعاية الحربية ضد العمل الإنساني والحقوقي والتنموي العامل داخل اليمن، من خلال شيطنة قيادات العمل الإنساني والحقوقي والتنموي ومؤسساته، واتهامها بالفساد، وإطلاق سلاسل طويلة من الأحكام الموجهة بعناية.
ومن أبرز المقولات المُخلَّقَة في مزارع ومُختبرات الدعاية الحربية: عدم وجود أثر للتدخلات الإنسانية والحقوقية والتنموية، وتوظيف التمويلات لدعم طرف من أطراف الحرب، واستحالة العمل في الداخل، وافتقار الجهات العاملة في الداخل للأهلية والجدارة والنزاهة والأخلاقية والحيادية والاستقلالية، وزيف مؤشرات نجاح تنفيذ الأنشطة، وأثر التدخلات في التغيير الإيجابي للعمل في الميدان، والتصنيف القسري لكل عمل ميداني، وغير ذلك من أشكال التنميط والوصم وحملات التشهير والتلفيق والترهيب والتحريض.
ومن أجل إكساب مقولات طبقة "البرجوازية الناشئة" -التي تخلَّقت منذ اندلاع الحرب في جيوب مخملية خارج اليمن- موثوقية، وخلق أسس وحوامل تعزز من فُرص تمريرها إلى صُناع قرار مُجتمع المانحين، استغلت طبقة الأوليغارشية المخملية وجودها الدائم خارج اليمن، على مقربة من آذان صناع قرار مجتمع المانحين، لضخ أكبر قدر من المقولات والسرديات غير الدقيقة وغير النزيهة، بدوافع الانتهازية والنفعية الطُفيلية، من خلال جيش من المُجندين لمهمة رسم صور ذهنية مُفبركة في مطابخ الدعاية الحربية ضد العمل الإنساني والحقوقي العامل في الداخل؛ فعمدت إلى تفريخ وتنويع المصادر والألسن والصيغ، لتبدو عينات تمثيلية متعددة تحاكي الواقع اليمني.
ومن أجل عزل العمل الإنساني والحقوقي والتنموي العامل في الميدان، والتشويش على جهوده وتدخلاته وإسهاماته، نجحت عناصر من خلايا الدعاية الحربية بالتسلل إلى وظائف مؤثرة في مواقع مُتقدمة في قمرات قيادة مُجتمع المانحين، ونشطت من داخل مجتمع المانحين في تسريب المعلومات الخاصة بشراكات مجتمع المانحين مع مُجتمع العمل الإنساني والحقوقي والتنموي العامل في الميدان، إلى شبكات الدعاية الحربية من أجل مساعدتها في هندسة حملات دعاية سوداء تقوض تلك الشراكات أو تشوش عليها كحد أدنى، وتمرير فبركات مطابخ الدعاية الحربية ضد العمل الإنساني والحقوقي والتنموي إلى صناع القرار في مُجتمع المانحين، باعتبارها حقائق ويقينيات، بل إن تلك العناصر ذهبت إلى أبعد من ذلك، حين وجدت أن قيادات مُجتمع المانحين لم ترضخ لحيلها وتنفيذ غايات رعاتها الحربية، فانتقلت إلى مستوى متقدم؛ لتبدأ رحلة تسريبات موجهة استهدفت تأليب الرأي العام والصحافة والمشرعين وصُناع القرار في عواصم مجتمع المانحين، بهدف ممارسة أقصى درجات الابتزاز والضغط على صُناع القرار في مجتمع المانحين الذين يُمارسون عملهم من خارج اليمن بسب الحرب.
لقد نجحت لوبيات الضغط خارج اليمن، إلى حد بعيد، في إثارة الكثير من الهواجس وسط مُجتمع المانحين، ونجحت كذلك في تمرير الكثير من أسئلة الريبة والاشتباه حول مُبررات الوجود والعمل في الميدان، والتي تبدو ظاهرياً ذات وجاهه، غير أن تلك الهواجس والأسئلة لن تصمد ولو لبرهة أمام أي عملية تدقيق في مضامينها؛ فالأسئلة الذكية والهواجس البَدَهِية، يتوجب طرحها على العمل على الوضع في اليمن من خارج اليمن: لماذا تُمول وتُنفذ تلك التدخلات والأنشطة خارج اليمن؟ حيث تُهدر فيها كلف باهظة، كان يُمكن أن تُحرك داخل المجال اليمني على أرض أي منطقة من مناطق اليمن.
إن ما ليس من الطبيعي البتة، أن يكون الأصل في نشاط المُجتمع المدني (المهاجر) خارج مجال اليمن، والاستثناء المحدود للغاية، المرور العابر بين الفينة والثانية، ولا يمكن فهم دعم وتعزيز تلك الحالة إلا في إطار من المحسوبية و"الشللية" والفساد، حيث يتم التواطؤ مع احتفاظ جيش من (المُهاجرين) اليمنيين، بمنافع وامتيازات وفُرص إعادة التوطين في ملاذات آمنة، مع منحهم أيضاً حصة وازنة من موارد وامتيازات ومنافع مُخصصة لتدخلات الاستجابة الإنسانية والحقوقية والتنموية في اليمن.
على سبيل المثال، فوجئ الوسط الصحفي داخل اليمن، بأن كل الصحفيين اليمنيين الذين شاركوا في إحدى ورش التدريب التي أُقيمت في إحدى المحطات الوسيطة خارج اليمن حول مُتطلبات ومهارات سلامة العمل الصحفي الميداني خلال الحروب، كانوا قادمين من مواطنهم الجديدة في غير مدينة أوروبية، وهناك آلاف (المهاجرين) من سعير الحرب، يعيشون فعلياً، في إطار ثلاث مظلات من (الإعالة)، وثلاثة مسارات حياتية متوازية في مُدن المهجر، وفي المحطات الوسيطة، وداخل اليمن، يحتفظون بمنافعها وامتيازاتها جميعاً، ومتحللين من التزاماتها ومُتطلباتها القانونية والأخلاقية، مع وجود يمنيات ويمنيين في المهجر-كما في الداخل- في غاية العصامية والامتثال والنزاهة والمُثابرة.
إن العمل الإنساني والحقوقي والتنموي ليس مُنزَّهاً من القصور والأخطاء، وحتى أسمى وأنبل الأعمال الإنسانية عُرضة لجائحة الفساد والاستغلال، وليست مُحصَّنة من النقد والمساءلة العامة، لكن الآليات الصحيحة للوصول إلى الحقائق والوقائع بدقة وموضوعية، لا تكون بتقليص أو تعليق أو وقف دعم تدخلاته المُلحة والضرورية لصالح ملايين السكان المدنيين في مُختلف مناطق اليمن، بل بالاستثمار في الحوكمة والإدارة الجيدة والبناء المؤسسي، وبتعزيز آليات الرقابة والتدقيق الداخلية والخارجية، وبتعزيز عمليات تقييم الجودة والجدوى والأثر، وعمليات مُكافحة الفساد والاستغلال والإثراء غير المشروع ومضاعفة دعم البُنى والتدخلات الفعالة، المُمتثلة لأفضل المعايير.
إن مما يتوجب على قادة مجتمع المانحين في اليمن، كأولوية مُلحة ودون إبطاء، مُباشرة إجراء تقييمات فعالة للموظفين اليمنيين من مُجتمعات الهجرة والاغتراب والجهات اليمنية (المُهاجرة)، وجدوى وجودة أنشطتها وتمويلاتها المُنفذة خارج اليمن، لجهة ضمان سلامة ودقة وموضوعية معلومات ومُدخلات واستنتاجات تضع أُسس منظور قرارات وتفاعلات مجتمع المانحين، بمعزل عن الانطباعية والدعاية السوداء والبيضاء والتوجيه الحربي المُهندسة بعناية، وبمعزل عن ضغط اللوبيات، وبمعزل عن حالات تضارب المصالح الناشئة في ظل التنافس على الموارد والفُرص والتقديرات والغايات، ولجهة تعزيز استنارة قادة مجتمع المانحين بكافة حقائق مجال توجيه وتخصيص أموال دافعي الضرائب، ولجهة حالات تضارب المصالح الماثلة للعيان، بين يمنيي المهجر والداخل اليمني، ولجهة أمن وسلامة العمل الإنساني والحقوقي والتنموي العامل داخل اليمن، كبيانات ومعلومات، وككوادر عاملة، وكشراكات وقضايا وغايات، لأن التسريبات المُنفلتة من داخل مجتمع المانحين، والتي تتصاعد وتيرتها من جولة إلى أُخرى، تضاعف من تلك المخاطر وترفع من درجتها.
يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.