مؤامرات الغرب

أكتوبر وبعض المؤامرات السرية

الإثنين, 18 نوفمبر / تشرين الثاني 2024

أحمد سنان

أحمد سنان

في 22-24 أكتوبر من العام 1956، وبسرية تامة تم عقد تحالف خطير بين ثلاث دول، هي: فرنسا، وبريطانيا والربيبة الصهيونية، وكانت مهمة مثلث التحالف هذا وضع خطة بعيداً عن الأعين؛ لمعاقبة مصر وعبد الناصر بالتحديد بعد قراره تأميم قناة السويس.

والآن وبعد مرور 68 عاماً، لا يزال جوهر التآمر يتم بالطريقة نفسها، وعلى الحال نفسه. إذ في حينها كان اللقاء في (سيفرز) الفرنسية، وسيفرز هذه كانت دوماً وكراً للتآمر. ففي ذلك الوقت عام 1920، اجتمعت القوى الاستعمارية لتتقاسم تركة الرجل المربض. وحينما لا يتعظ الناس يكرر التاريخ بعض أحداثه أحياناً بصورة ساخرة، ونحن لا نتعظ، إذ إن الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والدويلة إياها اليوم، يتآمرون مجدداً لمحو ما بقي من المنطقة، في حين يدعون في الظاهر إلى السلام. 

 قناة السويس

في العام 1869 تم افتتاح قناة السويس، ومنذ افتتاحها كانت تمثل قيمة استراتيجية كبيرة لبريطانيا؛ لأنها سهّلت إلى حد كبير التواصل بينها وبين الأجزاء البعيدة من الإمبراطورية البريطانية، وفي القرن العشرين، اكتسبت القناة أهمية إضافية؛ لأنها سهّلت الطريق من أوروبا إلى حقول النفط في الخليج، حين لا زال وعد تشرشل قائماً. 

وبعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، أعلنت بريطانيا أن مصر محمية لها، ومن أملاكها، وفي فبراير 1915، اقتربت القوات التركية من القناة، ولكن تم صدها من قبل البريطانيين، الذين شنوا هجوماً واستولوا على سيناء وفلسطين. وفي عام 1918 انهارت الإمبراطورية العثمانية، وتم تقسيم ممتلكاتها العربية بين إنجلترا وفرنسا. 

تأميم القناة 

اشتدت التوترات بين بريطانيا ومصر مع صعود تيار القومية العربية، واندلعت ثورة يوليو 1952، في مصر. وفي فبراير 1955، رفضت بريطانيا العظمى بيع الأسلحة لمصر، مما أدى إلى تدهور العلاقات بين البلدين. فلجأت مصر إلى عقد اتفاقية لتوريد الأسلحة مع الاتحاد السوفييتي. وفي يوليو 1956، تفاقم تدهور العلاقات بين البلدين أكثر؛ لأن بريطانيا العظمى والولايات المتحدة، اللتين وعدتا عبد الناصر بالمساعدة في تمويل بناء سد أسوان، لم تفيا بتعهدهما بتمويل المشروع بسبب اتفاقية السلاح مع الاتحاد السوفياتي. ورداً على هذا الرفض، أعلن عبد الناصر في 26 يوليو 1956، عن تأميم قناة السويس من أجل استخدام عوائدها لبناء السد.

بروتوكولات سيفرز 

كان تأميم قناة السويس بمثابة خطوة مفاجئة لإنجلترا وفرنسا، اللتين لم يكن لديهما قوات يمكن أن تشارك على الفور في السيطرة على القناة، في حين كان الرأي العام العالمي يقف إلى جانبهما. وقد كان لفرنسا وحدات عسكرية كبيرة في الجزائر، وكان لإنجلترا وحدات عسكرية كبيرة في الأردن. وقد أتاح هذا الوضع لمصر اتخاذ موقف أكثر مرونة بشأن مسألة نظام استخدام القناة على وجه الخصوص، إذ ذكر أن مصر تضمن حق مرور السفن من قناة السويس دون عوائق (باستثناء السفن الإسرائيلية)، وفي ظل هذه الشروط، لن تحظى العملية العسكرية التي تقوم بها إنجلترا وفرنسا بدعم المجتمع الغربي.

وقد تم عقد اجتماع سري في سيفرز (فرنسا) في 22 أكتوبر 1956، مثّل إسرائيل فيه كلا من رئيس الوزراء بن غوريون، ورئيس الأركان العامة موشيه ديان، والمدير العام لوزارة الدفاع شيمون بيريز، ومثّل فرنسا وزير الدفاع موريس بورجيس مونوري ووزير الخارجية كريستيان بينو ورئيس الأركان العامة موريس شال؛ ومثّل الجانب البريطاني وزير الخارجية (الوزير) سيلوين لويد ومساعده السير باتريك دين.

واستمرت المفاوضات 48 ساعة، انتهت بتوقيع بروتوكول سري. وبحسب الخطة الموضوعة، كان من المقرر أن تهاجم إسرائيل مصر، ثم تغزو إنجلترا وفرنسا منطقة قناة السويس، موضحة أن تصرفاتهما تهدف "إلى حماية القناة والفصل بين الأطراف المتحاربة". وكان من المفترض أنه في نهاية الحرب، ستضم إسرائيل سيناء بأكملها، أو على الأقل ثلثها الشرقي على طول خط العريش - شرم الشيخ. وتعهدت إسرائيل في الوقت نفسه بعدم مهاجمة الأردن، وتعهدت بريطانيا العظمى بعدم تقديم المساعدة للأردن إذا هي هاجمت إسرائيل.

واقترح بن غوريون في البداية خطة لإعادة رسم الحدود في الشرق الأوسط، حسب مفهوم الشرق الأوسط الجديد الذي بشر به حاييم وايزمان من قبل. وكان من المقرر، بحسب هذه الخطة، تفكيك الأردن، بحيث يضم الجزء الشرقي من نهر الأردن إلى العراق، وينقل الجزء الغربي من نهر الأردن إلى إسرائيل. ووفقاً لهذه الخطة، فإن الجزء الجنوبي من لبنان حتى نهر الليطاني سيذهب إلى إسرائيل، وسيتعين على لبنان أن يتخلى عن بعض ممتلكاته ذات الأغلبية المسلمة، وأن يصبح جمهورية ذات أغلبية مسيحية متحالفة مع إسرائيل. لكن الفرنسيين والبريطانيين لم يوافقوا على هذه الخطة وأقنعوا بن غوريون بالتركيز على مصر.

وبعد توقيع اتفاقيات سيفرز، بدأت بريطانيا العظمى وفرنسا في تركيز قواتهما في المناطق التي يمكن أن تضرب منها الساحل والمطارات المصرية، وتم تسليم كميات كبيرة من الأسلحة إلى إسرائيل بشكل عاجل. وبدأ الجيش الفرنسي بالهبوط في المطارات الإسرائيلية، واتخذت السفن الفرنسية مواقعها قبالة سواحل فلسطين. وأعلنت إسرائيل تعبئة واسعة النطاق لقوات الاحتياط، بذريعة "احتمال دخول القوات العراقية إلى الأردن".

وقد أطلقت إسرائيل على عمليتها في سيناء اسم (قادش) في 29 أكتوبر 1956، وبوصفها جزءا من عملية قادش، هاجمت القوات الإسرائيلية مواقع الجيش المصري في شبه جزيرة سيناء، وفسرت إسرائيل غزوها لمصر بالحاجة إلى وقف هجمات الفدائيين من غزة.

ولم تتوقع القيادة المصرية هجوماً إسرائيلياً، إذ في يوم الهجوم، كان رئيس الأركان العامة المصرية عبد الحكيم عامر وعدد من كبار الضباط المصريين يجرون محادثات في الأردن وسوريا. وفي ليلة 28 أكتوبر، أسقطت مقاتلة إسرائيلية طائرة تقل وفداً عسكرياً مصرياً، كانت في طريقها من سوريا إلى مصر. وأدى ذلك إلى مقتل 18 ضابطا من هيئة الأركان المصرية، لكن عامر لم يصب بأذى، الذي عاد إلى مصر على متن طائرة أخرى لاحقاً.

وبعد اتفاق سري مع إسرائيل، استخدمت إنجلترا وفرنسا حق النقض (الفيتو) ضد قرار في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة اقترحته الولايات المتحدة يدعو إسرائيل إلى وقف عدوانها على مصر، وطرحت إنجلترا وفرنسا مطالبهما الخاصة، ودعتا طرفي الصراع إلى سحب القوات على بعد 30 كم من قناة السويس. لكن مصر رفضت الامتثال، وبدأ البلدان عملاً عسكريًا ضدها.

وفي حديثه أمام الكنيست في 7 نوفمبر1956، أعلن بن غوريون أن "حملة سيناء هي الأعظم والأكثر مجدًا في تاريخ الشعب الإسرائيلي" وأن الجيش الإسرائيلي احتل سيناء، التي كانت في السابق جزءًا من مملكة سليمان، وامتدت من جزيرة - تيران في البحر الأحمر إلى تلال لبنان، وأعلن أن "جزيرة يطفات- بالعبرية- (جزيرة تيران في جنوب سيناء) أصبحت مرة أخرى جزءًا من مملكة إسرائيل الثالثة". وألمح بن غوريون إلى احتمال ضم إسرائيل لسيناء، قائلاً إن الجيش الإسرائيلي "لم يجتاح الأراضي المصرية" وأن "العملية اقتصرت على شبه جزيرة سيناء فقط"، وأن حدود وقف إطلاق النار لعام 1949 لم تعد صالحة. 

وانتقدت عدد من الدول تصرفات بريطانيا وفرنسا وإسرائيل نقداً خجولاً، في حين كان موقف الاتحاد السوفييتي فعالاً بشكل أوضح، إذ هدد الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف بريطانيا وفرنسا وإسرائيل بإجراءات حاسمة، بما في ذلك استخدام الضربات الصاروخية على أراضي هذه البلدان، ومثل هذا التطور للأحداث كان سيؤدي حتماً إلى حرب نووية بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، لهذا طالبت الولايات المتحدة الأمريكية حلفاءها بوقف العدوان في الشرق الأوسط، وطالبت الجلسة الطارئة للجمعية العامة للأمم المتحدة في 2 نوفمبر 1956، بوقف الأعمال العدائية، وانسحاب قوات الدول الثلاث من الأراضي المصرية وفتح قناة السويس.

وأجبر التهديد بالعزلة الدولية والحرب العالمية بريطانيا العظمى وفرنسا على سحب قواتهما من مصر في ديسمبر 1956. وانسحبت إسرائيل من الأراضي التي استولت عليها في مارس 1957 تحت ضغط من الولايات المتحدة، التي هددتها بالعقوبات في حين "أكد الرئيس الأميركي أيزنهاور على أن انسحاب إسرائيل من سيناء لا يعني ضمناً حق مصر في إغلاق جديد لمضيق تيران أمام السفن الإسرائيلية، وأنه إذا انتهكت مصر شروط الهدنة فإن ذلك يجب أن يترتب عليه رد فعل قاسٍ من الأمم المتحدة". وكان الموقف الأمريكي هذا مراوغاً للغاية، أو كما يقال انحناء أمام العاصفة وهذا ما بينته حرب أكتوبر 1973، على الأقل.

وقد تم إيقاف الحملة العسكرية المذهلة من خلال الجهود المشتركة للولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي. ومن الأمثلة النادرة على الإجماع بينهما في تلك السنوات أسباب مختلفة، فمن جهة كما في الحالة السورية الراهنة، لم يكن الاتحاد السوفييتي مستعداً لمشاهدة حليفه يُدمر على يد "عدو محتمل"، ومن جهة أخرى، كانت الولايات المتحدة قد قررت "منع" حلفائها في الناتو إلى الأبد عن التصرف ضد إرادة واشنطن. وبالمقابل فقد تمت عرقلة محاولات إثارة القضية في مجلس الأمن باستخدام حق النقض من قبل بريطانيا وفرنسا، ثم انعقدت جلسة طارئة للجمعية العامة، تقرر فيها سحب جميع القوات الأجنبية وإدخال قوة حفظ سلام إلى مصر. وبعد أن تم دعم هذا القرار بتصريحات لا لبس فيها من الاتحاد السوفييتي حول "الإجراءات الحاسمة" ضد المعتدين، بدأ انسحاب القوات. إذ سحبت إنجلترا وفرنسا قواتهما بحلول 22 ديسمبر 1956، وإسرائيل في مارس 1957. ومنذ 15 نوفمبر 1956، كان هناك 3300 من ذوي الخوذ الزرقاء يتمركزون في منطقة القناة.

وحسب "خبير الشرق الأوسط" أندريه أوستالسكي في مقابلة له مع بي بي سي، كانت هذه هزيمة كاملة لإنجلترا وفرنسا، لكن إسرائيل ما زالت تحصل على الفوائد من الحرب، إذ تم رفع الحصار والحظر المفروض على مرور السفن الإسرائيلية عبر قناة السويس ومضيق تيران. وفضلا عن ذلك، وخلال وجودها في شبه جزيرة سيناء، نهبت إسرائيل من هناك كل ما له قيمة. وفي بروتوكول سيفرز اتفقت القوى الثلاث، ببرود ومعرفة تامة بما كانوا يفعلون، على غطاء زائف تماماً للغزو. وبالضبط تكرر الأمر مع العراق، إذ كان بوش وبلير يصران أن صدّام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل.

ووفقاً للاتفاقية السرية، كان من المفترض أن تكون إسرائيل أول من يبدأ الأعمال العدوانية، ظاهرياً فقط لقمع الهجمات التي يشنها الفدائيون المتمركزون في سيناء، وسوف تتدخل بريطانيا وفرنسا في الصراع بوصفهما قوة محايدة وغير متحيزة لوقف الهجمات، ولضمان أمن قناة السويس، وفي الواقع، قامت القوى الثلاث في البداية بتنسيق أعمالها وحددت هدف الإطاحة بعبد الناصر وتغيير النظام في البلاد. وكانت إسرائيل تبحث عن فرصة للقيام بذلك، وقررت استغلال الوضع والتوصل إلى اتفاق مع البريطانيين والفرنسيين، والتخلص من سوء الفهم القديم لأغراض عملية.

وبالنسبة للفرنسيين، ففضلا عن اهتمامهم بقناة السويس، كان هناك عامل آخر ربما أكثر أهمية بالنسبة لهم، فقد كانت مصر داعمة رئيسة للثوار الجزائريين. وكانت حرب التحرير مستمرة في الجزائر، ولم تكن باريس مستعدة للاعتراف بالهزيمة ومغادرة الجزائر. وكانت هذه هي المشكلة الوطنية الرئيسة لفرنسا، وبدت فكرة إضعاف مصر، وربما التخلص من عبد الناصر تماماً، جذابة لها للغاية.

كل شيء واضح مع البريطانيين. فقناة السويس هي أهم شريان تجاري، وطريق إمداد نفط الشرق الأوسط إلى أوروبا، والسيطرة عليها هو دور ومكانة الإمبراطورية. لقد أدت الهزيمة العسكرية السياسية ليس فقط إلى انهيار حكومة أنتوني إيدن، ولكن أيضاً لاستراتيجية الحفاظ على الإمبراطورية البريطانية بأكملها. 

إن الصراع حول السويس كان بمثابة نقطة تحول في تاريخ العالم، وفي تاريخ بريطانيا بالدرجة الأولى. ففي عام 1956 تم حسم مسألة تصفية الاستعمار والإمبراطورية دون قيد أو شرط.

يمكن لإسرائيل، التي كانت لديها خلافات قوية إلى حد ما مع إنجلترا، (كما قيل حينها) أن تنهي هذا الخلاف عبر اتفاقية سرية مع بريطانيا بشأن ضربة عسكرية لمصر وأن تختبر عدوانيتها ضد العرب من خلال ذلك. وفي نظر المجتمع الدولي، يبدو أن إسرائيل ليست المسؤولة.

على أية حال، كم سمعتم من النواح الغربي حول اتفاقية سيفرز والدور الخسيس لإنجلترا وإسرائيل في مهاجمة مصر الأعزل؟ ليس هناك نواح. لكن كل ما تسمعونه يدور حول نوع من العلاقات التي يرغب الغرب في تثبيتها مع العالم العربي والإسلامي وهي مستمرة وفعالة، لذا، هذه المرة عندما يصرخ فيها الغرب بشأن إبرام روسيا معاهدة مع كوريا الشمالية، تأكدوا من سؤالهم عن نكث العهود والمواثيق، وعن اتفاقيات سايس- بيكو وسيفر السرية والاتفاقية البريطانية الألمانية الجديدة.

content

يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.