جدلية العلاقة بين القبيلة والدولة

من القبيلة إلى الدولة أم من الدولة إلى القبيلة

الأربعاء, 25 سبتمبر / أيلول 2024

د.حمود العودي

د.حمود العودي

أكاديمي وكاتب واستشاري يمني

العلاقة بين القبيلة والدولة واحدة من بين أكثر القضايا السياسية والاجتماعية إثارة للجدل في تاريخ تطور الفكر السياسي والاجتماعي عبر التاريخ القديم والوسيط والمعاصر. وتأكيداً منا باختزال خلاصة كل ذلك إلى الحقيقة والواقع بعيداً عن جدل التفاصيل، وتفاصيل التفاصيل العبثية بين من يرى أن القبيلة هي أصل البداية وهي النهاية لكل شعوب الأرض في الماضي والحاضر والمستقبل، وأن العالم "كله قبائل" على طريقة الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر ومذهبه (رحمه الله) ومن على شاكلته من جهة، وبين من لا يرى في القبيلة إلا رمزاً للتخلف والهمجية ولا يرى في وجودها أي مجال للتقدم والتطور على طريقة بعض الشخصيات الشوفينية المتطرفة من جهة ثانية. وبين من قد يرى فيها خليطاً من هذا وذاك فهي القبيلة وهي الدولة، وهي التقدم والتخلف، وهي النظام والقانون في آن واحد. وكل له رأيه، وأغراضه السياسية والاجتماعية والأيديولوجية التي لا علاقة لها بالعلم.

وللخروج من هذه المتاهة يمكن اختصار الرؤية الاجتماعية الموضوعية والعلمية المحايدة لجدلية العلاقة بين القبيلة والدولة من المنظور الاجتماعي في الآتي:

أولاً: المفاهيم

يقال بأن الأشياء تعرف بمسمياتها لكنها لا تفهم إلا بتعريفها وشرح مفاهيمها، فمن السهل معرفة اسم شخص كمحمد، أو مكان كمكة، لكن فهم أي منها لا يتأتى ألا بتعريفهما وشرح مضامين كل منهما، فمحمد هو النبي صلى الله عليه وسلم، ومكة هي مكان الدعوة وبيت الله الحرام ... إلخ، وكذلك هما اسما القبيلة والدولة من حيث التسمية، أما ماهي القبيلة وماهي الدولة بالضبط؟ فلا إجابة لمثل هذا التساؤل المنهجي إلا بتعريفهما اجتماعياً، وإبراز خصائص كل منهما، وهي على النحو الآتي:

1- مفهوم مجتمع القبيلة

هي مجموعة عشائر قرابية في مجتمعات ما قبل الزراعة والدولة تاريخياً، ومن أهم خصائص القبيلة أنها غير مستقرة في المكان (التنقل وراء الصيد والماء والكلاء) وتعتمد على إنتاج فائض القوت اليومي أو الموسمي على الأكثر (الرعي، والصيد، والالتقاط، والغزو)، ولا تنتج فائض ريع لنفسها أو لغيرها، والمسؤولية فيها جماعية وليست فردية (الفرد يتماهى في الجماعة، والجماعة تتماهى في الفرد)، ولا تنقسم القبيلة إلى بناء فوقي وبناء تحتي (أغنياء وفقراء، حكام ومحكومين، ريف وحضر... إلخ). والسلطة فيها للحكمة والمكانة، وليس للمال أو القوة وهي تنساب من أسفل إلى أعلى وليس العكس، وهي في الأخير تنتمى- على سبيل الافتراض أكثر من كونها حقيقة- وتنحدر من أصل "أثني" أو جد واحد (حاشد، بكيل، قحطان، عدنان، ...الخ) لتعزز بذلك نسيج وحدتها الداخلية.

2- مفهوم مجتمع الدولة

على خلاف مفهوم مجتمع القبيلة وخصائصها أو بعكسها تقريباً، يتميز مفهوم مجتمع الدولة بالاستقرار في المكان (قرى، مدن، زراعة، ريف، حضر) وينقسم إلى بناء فوقي (طبقات الحكام، ورجال الدين، ومُلاك الثروة)، وبناء تحتي (العبيد والأقنان قديماً، والفلاحون، والعمال، والحرفيون، والجنود حديثاً... إلخ) ويتيح فائض القوت الزراعي القوتي لنفسه، وفائض الريع الزائد عن القوت لغيره من طبقات البناء الفوقي (الخراج، الضرائب، المكوس التجارية والإتاوات...إلخ) والمسؤولية فيه فردية وليست جماعية (فكرة المواطنة) وانسياب السلطة من أعلى إلى أسفل (قوة القانون أو الغلبة) كما يتميز مجتمع الدولة بتقسيم العمل رأسيا (ريف وحضر، أغنياء وفقراء، حكام ومحكومون) وأفقياً (عمال وحرفيون، تجار ومزارعون، جنود وموظفون).
 

ثانياً: جدلية التغيير والتطور من القبيلة إلى الدولة أو العكس

1- مرحلة القبيلة ما قبل الدولة

بإجماع كل الدراسات التاريخية والانثروبولوجية فإن التطور الاجتماعي بدأ بالعشائر القرابية لجماعات الصيد والالتقاط البري، فالقبيلة المكونة من عشائر عدة مع مرحلة استئناس الحيوان والرعي وحتى البدايات الأولى للزراعة، وهذه المرحلة من تاريخ العشيرة والقبيلة هي أطول مراحل التاريخ والتطور البشري التي تمتد وفقاً لأغلب التقديرات إلى ما يقرب من مائتي ألف سنة من حياة الصيد، والالتقاط، والرعي، والتنقل وراء الماء والكلاء، وتلك هي مرحلة ما قبل الدولة وما قبل الزراعة المستقرة، الأمر الذي يعني بالضرورة أن مرحلة القبيلة بكل مفاهيمها وخصائصها الآنفة الذكر هي مرحلة ما قبل الدولة كونها حتمية تاريخية لكل المجتمعات والجماعات البشرية على وجه الأرض.

2- دور الزراعة المستقرة في تطور القبيلة إلى الدولة

أ- الصراع على الفائض

اكتشاف الإنسان للزراعة قبل مالا يزيد عن عشرة آلاف سنة أحدث انقلاباً جذرياً في جدلية التطور الاجتماعي من مجتمع القبيلة إلى مجتمع الدولة بكل مفاهيمه وخصائصه الآنفة الذكر، والمغايرة بالضرورة لخصائص مجتمع القبيلة ومفاهيمها السابقة؛ لأن الزراعة تقتضي الاستقرار في المكان وتتيح إنتاج فائض اقتصادي أكبر يتجاوز مجرد القوت اليومي إلى الريع الذي يمكن اجتزائه من وقت إلى آخر، وتبادله مع الآخرين، وكثيرا ما كان يشتد الصراع بين القبائل على مساحات الأراضي الخصبة سواء من أجل الرعي أم لاكتشاف المكان الأهم للزراعة والاستقرار. وكان لابد من غالب ومغلوب في ذلك الصراع على الأرض ومواردها الزراعية وغير الزراعية الذي بدأ ولم ينته حتى اليوم، وكانت الجماعة أو القبيلة الغالبة في البداية تقتل المغلوبين، لا حباً في القتل بل حرصا على الانتفاع بما لديهم من الفائض المنتج (مخزون الغداء، قطعان الماشية، وحتى الأرض) اعتقاداً منهم بأن بقاءهم على قيد الحياة يقتضي أن يتوفر لهم الأكل والشرب، ما يقتضي بالضرورة توحيد أكثر من قبيلة واندماج بعضها مع بعض، إما للدفاع عن أنفسهم بصد الآخرين أو غزو الآخرين، وبالتالي بداية ذوبان القبيلة في مجتمع جديد أوسع نطاقاً.

ب- آلية تطور مجتمع القبيلة إلى مجتمع الدولة

إن كل تغيير أو تغير اجتماعي مشروط بالضرورة بوجود آلية تغير موضوعي في واقع المكان والزمان، ومن ثم فإن بداية توحد الجماعات القبلية واندماجها في كيان مركب جديد كان من أجل الدفاع أو الهجوم كما سبق ذكره، إذ اكتشف المنتصرون أن قتل المهزومين ليس هو الأجدى بتحقيق المنفعة الأكبر بقدر منفعة الإبقاء عليهم ليكونوا قوة عمل منتجة للقوت الذي يبقي على حياتهم وقدرتهم على العمل، وكذلك فائض الريع الذي يكرهون على تسليمه ليكونوا عبيدا للمنتصرين السادة الذين يتفرغون للحرب والسلطة مقابل إبقاؤهم على قيد الحياة، وكان عقداً مجزياً للطرفين، وبهذا الفعل ذاب مفهوم القبيلة القديم، وبرز مفهوم الدولة أو مرحلة العبودية الجديدة في الغرب، وشبه العبودية الإمبراطورية في الشرق، فالدولة أو المرحلة الإقطاعية وحتى الرأسمالية ... إلخ، مما يعني بالضرورة بدون ما لا يدع مجالا للشك أسبقية القبيلة على الدولة، وتطور مجتمع القبيلة إلى مجتمع الدولة.

ج- شروط استمرار القبيلة أو زوالها

قد تتبادر إلى الأذهان تساؤلات من قبيل إذا كان قانون التطور الاجتماعي العام قد اقتضى حتمية تطور القبيلة إلى نقيضها الدولة بحكم تطور قوى الانتاج وأدواته (من الصيد والالتقاط إلى الزراعة والصناعة ... إلخ)، فكيف يمكن تفسير استمرار نظام القبيلة في أكثر من مكان حتى اليوم؟ بل ولماذا تختفي القبيلة في بعض المناطق الصحراوية الشهيرة كجزيرة العرب وتبرز الدولة؟ أو تختفي الدولة وتبرز القبيلة، ويؤثر كل منهما في الآخر كما في اليمن والمغرب العربي وآسيا الوسطى؟

الجواب ببساطة وباختصار شديد يتمحور حول طبيعة كمية وكيفية وجود الموارد الطبيعية في المكان، فحينما تقل الوفرة الطبيعية للموارد "التربة الخصبة والمياه الكافية للزراعة، والمناخ المعتدل" كشمال جزيرة العرب قبل النفط وغيرها من مناطق الجدب الصحراوية والقطبية تظل القبيلة موجودة بالضرورة؛ لانعدام أو تدني شروط تطورها إلى مجتمع الدولة، يؤكد ذلك أنه حينما توفر مورد النفط مؤخراً في الصحراء العربية انتهت القبيلة، وبرزت الدولة، في حين أن الوفرة الطبيعية المفرطة في الخصب والفائض الطبيعي المباشر من الخيرات الطبيعية على امتداد خط الاستواء قد يعيق تطور القبيلة إلى الدولة لتدني دافع الخوف من الندرة، إذ ما هو الدافع لسكان الأمازون وخط استواء أفريقيا وآسيا أن يزرعوا الأرض، وهي تثمر غابات دون جهد يذكر؟ بل ولماذا يقومون ببناء السدود وقنوات الري والأمطار تهطل عليهم على مدار اليوم والسنة، بخلاف كل مناطق شمال خط الاستواء وجنوبه، وما قبل قطب الثلج الشمالي والجنوبي، حيث تسود معادلة التناسب الطردي بين ما يتوجب بذله من العمل مع ما يتم توفيره من الفائض لتلبية الحاجة والعكس صحيح؟
 

مع ملاحظة أن كل هذه المسلمات والحقائق التاريخية والاجتماعية هي حصراً لمرحلة ما بعد اكتشاف الزراعة وما قبل الثورة الصناعية على مدى عشرة آلاف سنة، وقد تغير كل شيء جذرياً اليوم بعد الثورة الصناعية وتكنولوجيا المعلومات، وصيرورة العالم إلى قرية صغيرة كبيرة يتأثر الجزء فيه مع الكل، والكل مع الجزء بعمق، إذ لم يعد الحديث عن القبيلة مجرد تاريخ فحسب، بل إن الدولة نفسها آيلة للزوال نحو مجتمع تقنيات ما بعد الدولة.

رابعاً: اليمن مجتمع دولة وليس قبيلة

ربما كان الهدف الأهم من هذه المقالة هو معرفة أين تقع اليمن من كل هذا وذاك؟ وهل اليمن مجتمع قبيلة أم دولة؟، واستناداً إلى كل الحيثيات والمعادلات التاريخية والاقتصادية والاجتماعية السابقة لا يمكن تصنيف مجتمع اليمن إلا بوصفه مجتمع دولة بالدرجة الأولى وليس قبيلة، لا لمجرد أن فكرة الدولة وواقعها يتجذر ويمتد في حياة الأرض والإنسان عبر التاريخ فحسب، بل لأن اليمن قد شكلت رقماً حضارياً بارزاً من أبهى أرقام الحضارات البشرية وأنصعها على الإطلاق، واستحالة القول بوجود قبيلة ودولة في آن واحد، فما بالنا بحضارة متكاملة.

ذلك على الصعيد المنطقي، أما على الصعيد الموضوعي، فهو التأكيد على حقيقة أن أكثر من عشرين ألف نص من خطوط المسند الصخرية ووثائقه التي تم تحقيقها حتى الآن لم يرد فيها، أو أي منها قط كلمة "قبيلة" بوصفه مسمى لجماعة أو منطقة، وأن ما ورد من تسميات للمناطق والجماعات المحلية في خطوط المسند هي كلمة "شعب" مثل شعب أم خولهم، شعب أم بعدنم" أي شعب خولان أو شعب بعدان...إلخ، وأن كلمة القبيلة لم تكن ترد في المسند إلا عند الحديث عن "الأعراب" المغيرين في أطراف حدود الدولة وما خلفها، مما يعني واقعياً أن المجتمع اليمني هو مجتمع دولة وتنطبق عليه كل مفاهيم مجتمع الدولة وخصائصه السابق الإشارة إليها، ولكنه قد يتأثر جزئياً ببيئة القبيلة المحيط به من شمال الجزيرة العربية وشرقها في أقصى مناطق شمال الشمال والشرق.

والسؤال الأخير إذن هو من أين جاءت كلمة قبيلة في اللغة المعاصرة، ووصف اليمن بأنه مجتمع قبلي في بعض مناطقه الشمالية والشرقية على الأقل، هذا باختصار هو ما تسبب به المستشرقون منذ القرن السادس عشر في تحريفهم لكلمة "شعب" وترجمتها إلى كلمة "قبيلة" ونقل ذلك عنهم المؤرخون العرب واليمنيون على السواء مع الأسف الشديد، كما أن ظروف التخلف وتراجع دور الدولة أو غيابه كما حدث في المناطق الشرقية بعد انهيار سد مأرب قد عزز مفهوم القبيلة ليكون بديلا عن الدولة في مالا يتجاوز 15% من مساحة مناطق شمال الشمال والشمال الشرقي لليمن، وشيوع مفهوم القبيلة في بعض المناطق ليمثل مفهوما أيديولوجيا للمزايدة السياسية لا أكثر، يؤكد ذلك تلاشي مفهوم القبيلة في الشرق، وبروز مأرب اليوم عاصمة حضرية لليمن كله بدلاً من كونها موطنا للقبيلة البدوية بالأمس القريب، أما التغير في واقع المكان اقتصادياً فهو دائماً المتغير الحاسم للوجود الاجتماعي لمجتمع القبيلة أو مجتمع الدولة، كالندرة والتخلف الذي يساوي قبيلة، والوفرة مع التقدم الذي يساوي دولة.

مع التأكيد على أشارتنا السابقة بأن متغيرات ما بعد الثورة الصناعية والتكنولوجية، وتحول العالم إلى قرية صغيرة كبيرة شديدة التأثير بعضها ببعض لم تجعل من مفهوم القبيلة مجرد تاريخ فحسب، بل وجعل الدولة نفسها تتآكل وتذوب فيما هو عام من مجتمع ما بعد الدولة القادم والمنظور.

content

يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.