خارطة السلام في اليمن

الموجهات التكتيكية والإستراتيجية للجهود السعودية الرامية للحيلولة دون استئناف العمليات العسكرية

الجمعة, 26 يوليو / تموز 2024

عبدالرشيد الفقيه

عبدالرشيد الفقيه

رئيس مركز خلاصات للأبحاث ودراسة السياسات

عقبَ جُملة من التطورات، ذات الصلة بتأثيرات المنظور السعودي على الوضع في اليمن، من بينها: توقيع الهدنة، وإيقاف العمليات الحربية، وجهود خفض التصعيد، وبدء مشاورات، بدت أكثر جدية من سابقاتها، وإعلان التوصل لإطار خارطة الطريق لإنهاء الحرب في اليمن، وصولاً إلى المساهمة الفاعلة في وضع حد للتصعيد في القطاع المصرفي والإقتصادي، وإعلان التراجع عن الخطوات الأحادية بشأنه، فقد صار الان ملموسًا، أكثر من أي وقتٍ مضى، أن ثم تحوّلُ جذري، في مقاربة القيادة السعودية، لملف الحرب في اليمن، بالعودة إلى السياسة، والمفاوضات، والوساطات، عوضًا عن الخيار العسكري، وهو تحول وثيق الصلة، بجُملة من المتغيرات الجذرية، المُنجَزة في بنية النظام السياسي السعودي، الدالة، كذلك، على تخلق رؤية جديدة، كليًّا، لمجال أمنها القومي، ولسياساتها الخارحية، وعلى جانب من الموجهات التكتيكية والإستراتيجية لمنظورها للوضع في اليمن.

رؤية السعودية 2030

شهدت السعودية، في السنوات الأخيرة، قفزات تنموية وتحديثية هائلة، على أكثر من مستوى، في إطار رؤية السعودية 2030، كمشروع نهضوي وتنموي، سيقفز بالسعودية، كما هو ثابت من الخطوات المُنجزة منها خلال السنوات القليلة الماضية، قفزة المئة عام، والتي ستعيد صياغة تعريف السعودية، بصورة تختلف كليًّا، عن كل تلك التعريفات النمطية السائدة قبلاً، لدى أصدقاء السعودية وخصومها على حدٍّ سواء، وعلى أهمية الأبعاد التنموية والاجتماعية لتلك التحولات العميقة، فإن لها كذلك، أبعادًا سياسية واقتصادية وأمنية وعسكرية، على المستوى الإقليمي والدولي، تبعًا لأهمية موقع السعودية، في صدارة دورة الاقتصاد العالمي، بكل ما يرتبه ذلك على السياسة الدولية، وخلال سنوات قليلة، باتت المملكة، في ظل قيادة شابة، مُدركة لعناصر قوتها، وتمتلك الإدراك والإرادة والطموح والرؤية والكفاءة، لحماية مجال مصالحها، بكل حدوده وأبعاده، لذلك، يمكننا اعتبار رؤية السعودية 2030، إحدى أهم الموجهات التكتيكية والإستراتيجية الرئيسية، للجهود السعودية الفاعلة للحيلولة دون استئناف العمليات العسكرية في اليمن.

منظور جديد لمجال الأمن القومي

تبعًا لحقائق وجود قيادة سعودية جديدة، تعمل على تحقيق رؤية طموحة وواعدة، وإن كفرضية، بالحد الأدنى، فإن من البديهي طرح افتراض آخر، تبعًا لتلك الفرضية، بأن من يُحرك دفة ذلك التحول، بكل أبعاده وتعقيداته، بالضرورة، يمتلك رؤيةً استراتيجية للسياسة الخارجية، بمجال جيوسياسي استراتيجي، يعتمد على موجهات تكتيكية وإستراتيجية لمنظور جديد، لمجال الأمن القومي السعودي، كأحد المسارات اللازمة، لحماية مشروعها النهضوي، ولتوجيه دفة تفاعلاتها الإقليمية والدولية، وتتصدر أولى أولوياتها مهمة إطفاء الحرائق المُشتعلة على أكثر من جهة لخاصرتها، ومنها شمال وجنوب وشرق اليمن، والتي شهدت عملية تقاسمٍ لكعكة اليمن، تركة “الرجل المريض”، يستأثر بشمالها حلفاءُ إيران، ويستفرد بجنوبها وشرقها وغربها حُلفاءُ الإمارات، في حالة من تقاطع وتخادم المصالح، على الطريقة المكيافيلية، وفي إطار نظرية الواقعية السياسية، والتي بدأت مع حالة شهر العسل، التي أعقبت التفاهمات الدافئة، مع إدارة أوباما، السابقة واللاحقة، لإعلان توقيع الاتفاق النووي الإيراني، بين (مجموعة 5 + 1)، وهي الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وهي الولايات المتحدة وروسيا والصين والمملكة المتحدة وفرنسا بالإضافة إلى ألمانيا، وبين وإيران، والذي دخل حيز التنفيذ في يناير/كانون الثاني 2016، بعد سلسلة طويلة من المفاوضات، والذي كان له انعكاسات مُتعددة الأبعاد على التفاعلات القُطرية والإقلية والدولية.

وبالإضافة إلى تراكم ثقيل بوقائع الأدوار الإماراتية النشطة، في غير بلد عربي، منها اليمن، والتي تُمثّل بمُجملها، محاكاةً واقعية للنموذج الإيراني في أدواره التقويضية خارج حدوده، تحت لافتة تصدير الثورة، وفي إطار من التخادم والتهادي الإماراتي الإيراني، الذي تصاعدت وتيرته، عقب الهجمات التي طالت سُفنًا في ميناء الفجيرة الإماراتي، في 13 مايو/آيار 2019، كردّ فعل عكسي، متسق مع حساسيتها العالية، حصرًا، تجاه مصالحها، حيث بدأت الإمارات بالإفصاح عن توجهٍ جديد، عنوانُه خفضُ التصعيد مع إيران، تلاه إعلانُ وصول مسؤولين إماراتيين إلى طهران، لمناقشة آليات خفض التصعيد، وفي أعقاب الهجوم الإيراني المزعوم، على البنية التحتية الحيوية لإنتاج النفط السعودي، في سبتمبر/ أيلول 2019، ومرة أخرى، بعد مقتل الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، التابع للحرس الثوري الإيراني، وجّهت الإمارات العربية المتحدة دعوات علنية لوقف التصعيد، وفي إطار سلسلة من الخطوات، المتسقة مع مطالبها بخفض التصعيد مع إيران، أعلنت الإمارات، موقفًا أُحاديًّا، بإعادة بناء علاقتها مع نظام بشار الأسد.

معادلات جديدة للعلاقات الخارجية السعودية

لدينا الان، سلسلة من المحطات، تصدّت فيها السعودية، بفاعلية، لمسائل الأمن القومي خاصتها، من منظورٍ حسّاس لخطوط التماس بين التفاعلات المحلية، والإقليمية، والدولية، والأبعد من ذلك، مبادرة قيادتها المدروسة باستنارة، للتعرف على مصالح السعودية ومقوضاتها، بمقاربة جديدة كليًّا، ومن مؤشرات ذلك: حِياكة أنماط علاقات جديدة، مع الفاعلين المحليين، والإقليميين، والدوليين، وإعادة تعريف الحُلفاء والخصوم، وعلى رأسها علاقات السعودية بالولايات المتحدة الأمريكية والصين، ومقاربتها للحرب الأوكرانية الروسية، من خلال (أوبك)، ومسائل الطاقة، والعلاقات مع تركيا والهند، والعلاقات مع إيران وقطر، ومراجعة علاقاتها مع الإمارات، والاستجابة الفاعلة مع مختلف المُتغيرات.

العلاقات السعودية الأمريكية

تبعاً للمتغيرات الدراماتيكية التي طرأت على السياسة الخارجية الأمريكية المتماشية مع التزامات الإتفاق النووي الإيراني، الموقع خلال فترة إدارة أوباما، بين (مجموعة 5 + 1)، وهي الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وهي الولايات المتحدة وروسيا والصين والمملكة المتحدة وفرنسا بالإضافة إلى ألمانيا، وبين وإيران، والذي دخل حيز التنفيذ في يناير/كانون الثاني 2016، بعد سلسلة طويلة من المفاوضات، بمعزل عن علم الحليف السعودي، والذي شكل مُنعطفاً رئيسياً في مسار العلاقات السعودية الأمريكية، بعد أن تناوبت الإدارات الديموقراطية والجمهورية في واشنطن على ابتزاز السعودية، ومنذُ وصوله إلى البيت الأبيض، تحدث ترامب بصفاقة عن غنائم الولايات المتحدة الإمريكية من ثروات السعودية والخليج، والذي انتزع بدوره، تحت الإبتزاز، عقوداً مع السعودية وحدها، تزيد قيمتها عن 400 مليار دولار، وهي صفقة باعتبارها الأعلى في التاريخ، وفي مايو/ أيار 2018، سحب الرئيس ترامب بلاده من الاتفاق وأعاد فرض العقوبات على إيران، بعد أن كان يرى أنها "أسوأ صفقة رأيتها يتم التفاوض عليها على الإطلاق" حتى قبل فترة طويلة من وصوله إلى البيت الأبيض، وسخر منها مراراً واصفاً إياها بـ "المروعة والمثيرة للسخرية"، وعلى امتداد ولاية ترامب، كانت السعودية في مرمى الإبتزاز أيضاً من قبل قوة ضاربة لوسائل الدعاية التابعة للحزب الديموقراطي، الذي استخدم حرب اليمن التي اندلعت برعاية إدارة أوباما الديموقراطية حين كانت على الحكم في البيت الأبيض، ثم تجندت حشود ذات الحزب لاستخدام لاستهداف وابتزاز السعودية من دكة المعارضة بجلابيب التوبة.

وانتقلت العلاقات السعودية الأمريكية، إلى أسوء مراحل تدهورها، مع إعلان فوز جو بايدن، على منافسه دونالد ترامب، في الإنتخابات الرئاسية نوفمبر/تشرين الثاني 2016، والذي توعد خلال حملته الإنتخابية بجعل السعودية دولة منبوذة، قبل أن تُجبر الحرب الروسية في أوكرانيا، بايدن نفسه، بعد أشهر قليلة من فوزه، على استجداء مساندة السعودية، ضد روسيا، من خلال أوبك، وأبعد من ذلك، اضطرته إلى السفر إلى السعودية، حضر خلالها القمة العربية الأمريكية، والقمة السعودية الأمريكية، والتي لم يكن فيها ما يستحق التوقف عليه، بما في ذلك: مسائل الوضع في الشرق الأوسط، والصين، وطريق الحرير. ولعل أهم نتائجها تمثلت في سؤال ذلك الصحفي الأمريكي، الذي صرخ في وجه بايدن، هل "السعودية منبوذة؟"، وفي دلالات الصور التذكارية المُلتقطة، والتي توثق مرحلة من انعدام الفاعلية، والافتقار للمبادرة والتأثير والتفاعل، التي باتت تستوطن البيت الأبيض.

وبسبب التراكم السلبي على امداد عقود من دورات الإبتزاز الأمريكي، الذي قوض الثقة السعودية بالولايات المتحدة الأمريكية كحليف حقيقي، تمنعت السعودية عن مجاراة متغيرات المزاج الأمريكي بشأن اليمن، على خلفية حرب غزة والتصعيد المرتبط به في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، ورغم تواتر الأخبار بشأن اقتراب التوقيع على اتفاق أمني سعودي أمريكي، خلال الأشهر الأخيرة من رئاسة بايدن، يتضمن تطبيع المملكة مع إسرائيل، واستعادة مسار علاقات سعودية أمريكبة استراتيجية، مع خفض مستوى العلاقات مع الصين، إلا أن السقف العالي للمطالب السعودية، التي تشترط بناء مُفاعل نووي، للأغراض السلمية، مع التسليح بأنظمة دفاعية وهجومية متطورة تنقل القوات السعودية إلى مستوىً جديد من الجاهزية، على أن يتضمن الإتفاق التزاماً أمريكياً بالدفاع عن السعودية في حال تعرضها لأي تهديدات كأنها أرض أمريكية في إطار شبيه بالتزامات الدفاع المشترك لدول حلف الناتو.

العلاقات السعودية الصينية

بانعقاد القمة العربية الصينية، تحت رعاية سعودية، والقمة السعودية الصينية، واتفاقيات التعاون المشترك، الموقَّعة بين البلدين، كأهم شريك في الشرق الأوسط، للصين، وصولاً إلى إعلان انضمام السعودية، إلى مجموعة البريكس، التي باتت تمتلك حصة وازنة من حجم الاقتصاد العالمي، تكُشفت تباعاً جُملة من حقائق ووقائع انتقال العلاقات السعودية الصينية، إلى طوراً مُتقدماً، غير مسبوق، في تاريخ العلاقات بين البلدين، في إطار تتكامل فيه رؤية السعودية 2030، مع مضامين طريق الحرير، من منظور الصين.

وشهدت العلاقات السعودية الصينية، ازدهاراً متصاعداً، وقفزت إلى أعلى وأعمق مستوياتها على حساب العلاقات السعودية الأمريكية التي شهدت بدورها تدهوراً غير مسبوقاً في تاريخ العلاقات الثنائية بين البلدين. في ظل تطابق وجهات نظر حمائم وصقور الجمهوريين والديموقراطيين، في مقاربة كل ما يمت للصين بصلة، ويمكن إدراك ذلك، من خلال تتبع السياسة الخارجية الأمريكية، تجاه الصين، لآخر ثلاثة رؤساء: أوباما، ترامب، بايدن، من خلال عدة ملفات رئيسية، منها: ملف العقوبات، وملف تايوان، وملف تقنيات الاتصالات الصينية، وملف طريق الحرير، بصورة تُعرف تعامل الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأمريكية، مع الصين، وتصاعد نفوذها، وإن بوسائل الاقتصاد، كأخطر تهديد سيادي، استراتيجي، تبذل جهودًا متواصلة، للتعامل معها، مع الأخذ بكل التدابير الكفيلة بمنع أي احتمالية للاصطدام، على الأقل، في الوقت الراهن.

العلاقات السعودية الإيرانية

وغير بعيد عن مسائل العلاقات السعودية الصينية، أُعلن في 10 مارس/آذار 2023، من العاصمة الصينية بكين، بصورة مُفاجئة، توقيع الاتفاق السعودي الإيراني، بوساطة صينية، تضمنت بنوده: استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما وإعادة فتح سفارتيهما وممثلياتهما، والتأكيد على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وتفعيل اتفاقية التعاون الأمني بينهما، الموقعة في 17 أبريل/نيسان 2001، والاتفاقية العامة للتعاون في مجال الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب، الموقعة بتاريخ 27 مايو/أيار 1998، والحِرص على بذل كافة الجهود لتعزيز السلم والأمن الإقليمي والدولي، ثم تلت الإتفاق العديد من الخطوات، في إطار مسار غايته إطفاء الكثير من الحرائق في المنطقة، منها الحرب في اليمن.

متغيرات العلاقات السعودية والإماراتية

بعد أن انتقلت العلاقات السعودية الإماراتية من طور التحالف والشراكة، أطوار مُتقدمة من التباين والتنافس، وصولاً إلى الصراع في ظل حالة حادة من تضارب المصالح، برزت أولى المحطات العلنية، التي أفصحت عن متغيرات جذرية في منظور السعودية للوضع وتطوراته في اليمن، عقب ما نشرته صحيفة وول ستريت جورنال، حول حديث ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، لفريق من معاونيه، عن تعرضه للطعن في الظهر، من قبل الإمارات، الحليف للسعودية، ظاهريًّا على الأقل، بعد أن دفعت الإمارات إلى تفجير الوضع في السودان،الذي دخل في 15 أبريل/ نيسان 2023، صراعاً مُسلحاً، بين الجيش السوداني المدعوم من السعودية من جهة، وبين قوات الدعم السريع، المدعومة من الإمارات من جهة ثانية، ورغم قصر تلك الجُملة، المنسوبة للأمير محمد بن سلمان، فإن دلالاتها وأبعادها ومضامينها الكثيرة، تتطابق مع حقائق صارت تباعاً، ثابتة وجلية، تضيء على الكثير من الأدوار الإماراتية، في اليمن والسودان، بالإضافة إلى عددٍ من البلدان في المنطقة.

ويمكننا التعرف على ماهية تلك الأدوار الإماراتية وطبيعتها وأهدافها، من خلال التدقيق في الكثير من الوقائع، منذ بدء عمليات التحالف بقيادة السعودية والإمارات في 26 مارس/آذار 2015، حيث مرت العلاقات السعودية والإماراتية، في اليمن والمنطقة، بعدة مراحل، بدأت بالتحالف الوثيق، ثم انتقلت إلى التباين، ثم إلى التنافس، وصولًا إلى الصراع، في ظل حالة من تضارب المصالح، من أبرز محطاتها: فرية إعلان انسحاب الإمارات من الحرب في اليمن، في 8 يوليو/تموز 2019، بعد سنوات، من إدارة الظهر للحوثيين، جمدت خلالها كافة جبهات قتالها معهم، عقب سلسلة طويلة من عمليات فرض أمر واقع، ابتداءً من استنساخ ما حدث في 21 سبتمبر/أيلول 2014، بسيطرة جماعة الحوثيين على العاصمة اليمنية صنعاء ونطاق واسع من شمال اليمن، من خلال دعم الإمارات لعملية تقويض وجود الحكومة المعترف بها دوليًّا، في عاصمتها المؤقتة عدن، في 24 أغسطس/ آب 2019، وتمكين وإحلال تشكيلات المجلس الانتقالي، بديلاً لها، إلى الحرب الطويلة في آل سالم، وإفشال اتفاق الرياض، مروراً بإعلان تشكيلات حراس الجمهورية أو المقاومة الوطنية، التي يقودها طارق صالح، والمدعومة من الإمارات، يوم الخميس 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، عمليةَ انسحاب أحادية ومُفاجئة، من مواقع سيطرتها المتقدمة جنوبي مدينة الحديدة، بمساحة تقدر بنحو 100 كيلو، على امتداد الساحل الغربي، المُشاطئ لخطوط الملاحة الدولية في البحر الأحمر، لصالح قوات جماعة أنصار الله (الحوثيين)، بالإضافة إلى تطورات عديدة، أعقبت هجمات الحوثيين على الإمارات في 31 يناير/كانون الثاني 2022، وهو الهجوم الثالث، خلال نفس الشهر، وكان الهجوم الأول في الـ17من يناير/كانون الثاني 2022؛ أما الهجوم الثاني فكان بعد ذلك بأسبوع، وهي أول وآخر، الهجمات الحوثية، على الإمارات، منذ إعلان عمليات التحالف في 26 مارس/آذار 2015.

في 26 ديسمبر/كانون الأول 2021، تمكنت الإمارات من الإطاحة بمحافظ شبوة القوي، محمد بن عديو، المدعوم من السعودية، تمهيداً لانتزاع التشكيلات الموالية لها، بعملية مباغتة وخاطفة، محافظة شبوة، في 11 أغسطس/ آب 2022، بعد انتزاعها محافظة أبين، وفرضها واقعًا جديدًا في المحافظتين، أزاحت فيه القوات الحكومية المدعومة من السعودية، وأحلت التشكيلات الموالية لها، بديلًا، مستغلةً التفاعلات التي خلقتها الحرب الأوكرانية الروسية، إلى مساعيها الحثيثة لإفشال مجلس القيادة الرئاسي، والحكومة المُعترف بها دولياً المدعومة من قبل السعودية، وصولاً إلى مغامرتها الخطيرة بتحريك التشكيلات المسلحة التي تدعو إلى الانفصال، بدعم من قِبل دولة الإمارات العربية المتحدة، عقب إعلان التحاق القياديَّين البارزَين: فرج البحسني، وعبدالرحمن المحرمي، بالمجلس الانتقالي الجنوبي، تحرك المجلس، بقياداته وقواته ومدرعاته، إلى مدينة المكلا، عاصمة محافظة حضرموت، حيث عُقدت يومَي 21 و22 مايو/ أيار ٢٠٢٣، اجتماعات الجمعية الوطنية، في ظل معارضة العديد من الشخصيات والمكونات الحضرمية، في مسعى لفرض واقع جديد، تمهيداً لاستكمال بسط نفوذها، على المحافظات الشرقية لليمن، من أبين إلى شبوة إلى حضرموت الساحل والوادي، والمهرة، المُشاطئة لبحر العرب وخليج عمان، وصولًا إلى جزيرة سقطرى في قلب المحيط الهندي، بعد إحكام سيطرتها على كامل مجال خليج عدن وصولًا إلى مضيق باب المندب وجزيرة ميون وميناء المخا وشريط ساحلي طويل على البحر الأحمر، على كل ما يُمثله ذلك المسار، من خطر بالغ وفوري على الأمن القومي القومي السعودي.

وابتداءً من مساء 22 مايو/آيار 2023، تجلت بوضوح، ملامح تغيرات جذرية، في العلاقات السعودية الإماراتية، من خلال التعامل السعودي الحازم والفاعل، مع مُهدِّدات الاستقرار شرق اليمن، المدعومة من قبل دولة الإمارات المتحدة، فرعت السعودية، مشاورات موسّعة بين طيف واسع من الشخصيات والمكونات الحضرمية الوازنة، انعقدت في الرياض، طيلة شهر كامل، أفضت إلى إعلان تشكيل مجلس حضرموت الوطني، في 21 يونيو 2023، تلتها زيارة رئيس مجلس القيادة الرئاسي، رشاد العليمي، الذي أعلن عن منح الإدارة الذاتية الكاملة، لمحافظة حضرموت، ودشن رفقة وفد سعودي، خطة تنموية واسعة، وهي خطوات فعالة، جمدت التصعيد الإماراتي، ووضعت كوابح ثقيلة على اندفاعتها المُنفلتة، وجنّبت وادي حضرموت وساحلها وكامل شرق اليمن، ويلات صراعٍ كان اندلاعه وشيكًا، وقدمت صورة جديدة، للسياسة الخارجية السعودية، تعرف مجال أمنها القومي، وكل ما يهدّده، بمضامين ومحددات، تختلف كليًّا عنها تحت قيادة محمد بن سلمان ذاته قبل العام 2023.

ثم برزت تباعاً، سلسلة طويلة من علامات الاستفهام بشأن طبيعة العلاقات الإماراتية والسعودية، نقاط الاتفاق، ونقاط الافتراق، حقائق التنافس والصراع، وحالة تضارب المصالح، وحقيقة الأدوار الإماراتية، على امتداد سنوات الصراع في اليمن، والتي كانت باستمرار، ضدًّا على التوجهات السعودية، المُعلنة، على الأقل، وضدًّا على المصالح السعودية، واقعياً، بالإضافة إلى التهديدات المباشرة لخاصرتها الجنوبية، حيث سيطرت الجماعات المسلحة بالقوة على الشريط الحدودي شمال اليمن، ليشكل هذا الوضع قلقاً تهديداً بالغاً للسعودية، مُتمثلاً بتشكيلات تخدم مصالح الأطراف المعادية، وفي مقدمتها إيران والإمارات، الساعيتان للتوسع في المنطقة.

يوم الأربعاء 17 يناير/ كانون الثاني 2024، ووسط التركيز على الحرب في غزة وتطوراتها، والعمليات الحوثية في البحر الأحمر والتطورات ذات العلاقة بها، شهدت حضرموت شرق اليمن، تطورات خطيرة، على خلفية تحرك قوة عسكرية من خمسين طقم مسلح وخمس عربات (كشكش) من قوات درع الوطن المُشكَّلة حديثًا، والمدعومة من السعودية، من سيئون في وادي حضرموت إلى منطقة حصيحصة في المكلا عاصمة المحافظة، طبقًا لتوجيه محافظ حضرموت؛ مبخوت بن ماضي، غير أنّ قوة من معسكر جول القراشم التابع لقوات النخبة الموالية للإمارات، اعترضت مسارها وأوقفتها في منطقة جول القراشم (الدار البيضاء) بمديرية وادي العين وحورة، وهي المنطقة الفاصلة بين المنطقة العسكرية الأولى والمنطقة العسكرية الثانية، ما خلق حالة من التوتر العسكري، استدعت تدخل قائد قوات التحالف؛ اللواء سلطان البقمي، الذي التقى قيادات التحالف بمطار الريان، ثم التقى بمحافظ محافظة حضرموت مع وكلاء المحافظ وقيادات أمنية وعسكرية، في حين عبّر المجلس الانتقالي الجنوبي بمحافظة حضرموت عن رفضه المطلق لاستقدام أي قوة إلى ساحل حضرموت، داعيًا أبناء المحافظة إلى مؤازرة قوات النخبة الحضرمية، والتصدي للمؤامرات التي تستهدف إضعافها وإسقاطها والتعدي على صلاحياتها في حماية وتأمين مدينة المكلا ومديريات الساحل، كما حمّل انتقالي حضرموت كامل المسؤولية الجهةَ التي منحت اليوم الإذن بدخول قوات إلى المكلا، متوعدًا بالتصعيد، إذا لم تنسحب تلك القوات. وبالتوازي مع تلك التطورات في حضرموت، أعلنت العديد من الشخصيات الوازنة في شبوة، في 16 يناير 2024، عن تشكيل مجلس شبوة الوطني العام، على غرار المجلس الوطني الحضرمي، وفي الأثناء، واصل المئات من المحتجين، بدعم من المكونات القبَلية، اعتصامَهم السلمي في منطقة العقلة بشبوة، للمطالبة بتخفيض أسعار المشتقات النفطية، رغم تعرض المحتجين لهجوم مسلح أسفر عن سقوط عدد من الجرحى.

تطورات السياق الإقليمي والدولي*

في جميع الأحوال، فإنه لا يمكننا مُقاربة التفاعلات المُحتدمة في المشهد اليمني، خلال النصف الأول من العام 2024، بمعزل عن السياق الدولي والإقليمي المُعقد، وعن تداخلاته العديدة، بما في كافة التطورات التي أعقبت هجوم الفصائل الفلسطينية على المستوطنات الإسرائيلية في منطقة غلاف غزة، في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، مروراً بالحرب الإسرائيلية التي استهدفت قطاع غزة، والتي ارتكبت خلالها قوات الإحتلال الإسرائيلي طوفاناً من الفظاعات، طالت عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين، وسط تخاذل وتواطؤ المجتمع الدولي عن واجبات حماية الفلسطينيين ووقف الجرائم الإسرائيلية، إلى سلسلة الهجمات التي تشنها من اليمن، جماعة أنصار الله (الحوثيين)، المتحالفة مع إيران والفصائل الفلسطينية، على سُفن الملاحة المُتجهة من وإلى إسرائيل، عبر مضيق باب المندب والبحر الأحمر، منذً 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، إلى سلسلة هجمات عملية (حارس الإزدهار)، التي يشنها التحالف الأمريكي البريطاني، مُنذُ 11 يناير/ كانون الثاني 2024، على عشرات المواقعَ في صنعاء والحديدة والبيضاء وتعز، وغيرها من المناطق اليمنية، الواقعة تحت سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين)، بهدف وضع حد للهجمات الحوثية في البحر الأحمر، كجزء من مساعٍ إسرائيلية وأمريكية وبريطانية، لحماية إسرائيل أثناء عملياتها العسكرية وفظاعاتها المروعة ضد الفلسطينيين، تحت عنوان عدم السماح بتوسيع الصراع إلى مدى إقليمي أوسع، وحصر الصراع بين إسرائيل وحماس، في نطاق قطاع غزة، والأراضي الفلسطينية المُحتلة، وسط تأكيدات مُتكررة أعلنها المسؤولون الأمريكيون بوقف تلك العمليات بمجرد وقف الجماعة لهجماتها التي أعلنت الجماعة أنَّ وقفَهَا مرهونٌ بإنهاء الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، وبالتوازي مع العمليات العسكرية الأمريكية البريطانية في اليمن وإعلان إعادة إدراج جماعة أنصار الله على لائحة الإرهاب الأمريكية، وفرض العقوبات، وغيرها من الضغوط الدبلوماسية، أفصحت إدارة "بايدن" عبر سفيرها في اليمن، عن مناهضتها لمسار السلام الذي سبق وأعلن المبعوث الأممي عن إطاره، طبقاً للمقاربة السعودية الجديدة للوضع في اليمن، والتي جنحت معها المملكة إلى السياسة والمفاوضات وخفض التصعيد، خلافاً لإدارة بايدن التي عَمِدتْ إلى المجازفة بالتضحية بنتائج التقدم المهم المُحرز في جهود السلام، منذُ هُدنة إبريل/ نيسان 2022، وما تلاها من تفاهمات خفض التصعيد ووقف العمليات العسكرية المباشرة، مع بَذْل إدارة بايدن، لِجهودٍ مُتصاعدة للدفع بالأوضاع في اليمن إلى جولة جديدة من التصعيد غير المدروس، والذي يفتقر إلى الحد الأدنى من مُتطلبات أي منظور استراتيجي متوسط وبعيد المدى، وصولاً إلى أول هجوم تشنه جماعة الحوثيين على تل أبيب، بطائرة مسيرة، وإلى أول هجوم شنته المقاتلات الإسرائيلية، مساء يوم 20 يوليو/تموز 2024، على منشآت بنية تحتية مدنيِّة ميناءي الحديدة والصليف ومحطة الطاقة الكهربائية في مدينة الحديدة (شمالي غرب اليمن)، والتي قال الجيش الإسرائيلي إنها كانت رداً على الهجمات التي نُفذت ضد إسرائيل خلال الأشهر السابقة، وصرح وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت بعد الضربات الإسرائيلية على الحديدة، بالقول: "يمكن رؤية النار المشتعلة حاليا في الحديدة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، والرسالة واضحة: في المرة الأولى التي ألحقوا فيها الأذى بمواطن إسرائيلي، ضربناهم. وسنفعل ذلك في أي مكان قد يكون مطلوبا فيه".

خياري الحرب والسلام

الدفع باليمن مجدداً إلى مُفترق طُرق

بعد أن كان اليمن قاب قوسين أو أدنى من توقيع الأطراف على خارطة طريق لإرساء السلام، بعد توقف العمليات العسكرية وعلى رأسها الهجمات الجوية للتحالف بقيادة السعودية والإمارات، خلال فترة الهدنة الموقعة بين الأطراف، في 2 أبريل/نيسان 2022، برعاية الأمم المتحدة، والتي أدت إلى إعلان مبعوث الامين العام للأمم المتحدة إلى اليمن، هانس غروندبرغ، في 25 ديسمبر/ كانون الأول 2023، عن توصل أطراف النزاع في اليمن إلى اتفاق يقضي بالالتزام بمجموعة من التدابير التي تشمل تنفيذ وقف إطلاق نار يشمل عموم اليمن، والمُضي بإجراءات لتحسين الظروف المعيشية، ودفع جميع رواتب الموظفين في القطاع العام، واستئناف صادرات النفط، وفتح الطرقات في تعز وأجزاء أخرى من اليمن، ومواصلة تخفيف القيود المفروضة على مطار صنعاء وميناء الحديدة، بالإضافة إلى حُزمة من تدابير وإجراءات بناء الثقة، تمهيدًا لاستئناف عملية سياسية جامعة تحت رعاية الأمم المتحدة، من شأنها التأسيس لسلامٍ دائم في اليمن، وهو أهم اتفاق، بعد نحو عقد كامل من الحرب التي اندلعت مع سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين) على العاصمة اليمنية صنعاء في 21 سبتمبر/أيلول 2014، وإعلان عمليات التحالف بقيادة السعودية والإمارات في 26 مارس/آذار 2015، دُفعت اليمن مُجدداً، خلال النصف الأول من العام 2024، من بوابة الإقتصاد، إلى مُفترق طرق، يقود أحدها إلى خطوات تصعيد تدفع باليمن، إلى جولة جديدة من الحرب، ويتيح الآخر مواصلة السير في مسار السلام، من خلال البناء على التقدم المُحرز فيه، والتي يتوجب الحفاظ عليها، والبناء على ما ترسخ منها للمضي بإنجاز المزيد من الخطوات الإضافية، لتحقيق مكاسب إضافية لصالح عموم اليمنيات واليمنيين، على طريق غايته النهائية بناء سلام شامل وعادل ومستدام.

قرارات البنك المركزي في عدن

من جانبها، رأت الأطراف اليمنية المناوئة للحوثيين، المنضوية في إطار مجلس القيادة الرئاسي والحكومة المعترف بها دولياً، في المتغير التكتيكي الطارئ على المزاج والخطاب الأمريكي بشأن اليمن، فرصةً غير مسبوقة لتحقيق أكبر قدر من المكاسب منه، يتصدر مكاسبها المأمولة مساعيها لتعديل موازين القوى المُختل على أرض الواقع، عسكرياً وأمنياً وسياسياً واقتصادياً، تبعاً لذلك المتغير الذي طرأ تحت عنوان مواجهة التصعيد الحوثي في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، حيثُ لم تكتفِ الأطراف اليمنية المناوئة لجماعة الحوثيين بالدعوة إلى حشد أكبر دعم لها ولتعزيز قدراتها الدفاعية والهجومية والمالية والاقتصادية، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، بمبادرتها إلى تقديم عروضٍ سخية -منفردةً ومجتمعة- لتمكينها من التصدي للتهديد الذي شكلته هجمات جماعة الحوثيين على الملاحة الدولية، ولإسقاط الجماعة التي يتصاعد نفوذها عسكرياً وسياسياً ومالياً واقتصادياً، ليس على المستوى اليمني وحسب، بل وعلى المستوى الإقليمي.

وفي ذلك الإطار، أصدر محافظ البنك المركزي في عدن، أحمد غالب المعبقي، حُزمة من القرارات الرامية من ظاهرها، إلى استكمال تنفيذ عملية نقل مركز القرارات المالية والاقتصادية إلى عدن، والتي ما كان لها أن ترى النور في هذا التوقيت الحرج والحساس، لولا رفع "الڤيتو" الأمريكي الذي كان نافذاً ومتكفلاً بتجميدها منذ إعلان الرئيس عبد ربه منصور هادي، المُعترف به دولياً، في 18 سبتمبر/ أيلول 2016، قرار نقل البنك المركزي اليمني من العاصمة صنعاء إلى مدينة عدن، المُعلنة كعاصمة مؤقتة للحكومة المعترف بها دولياً، (رغم كل ما ترتب على ذلك القرار من انقسام للقطاع المصرفي وللعملة الوطنية، ومن توقفٍ لدفع مرتبات مئات الآلاف من الموظفين الحكوميين)، إلاّ أنَّ "الڤيتو" الأمريكي تكفَّل -عبر المؤسسات المالية الدولية- بتأمين قنوات اتصال وتنسيق ظلَّتْ مفتوحةً بين بنكي صنعاء وعدن حتى وقت قريب.

ورغم الخطورة المُحتملة لتلك القرارات، لم يكن هناك ما يُشير إلى وجود خُطة استراتيجية مدروسة، للتعامل مع كل تداعياتها على القطاع المصرفي في عموم البلاد، وعلى أوضاع الأفراد والكيانات، وعلى مسار السلام، والتي يُمكن أن تُمثِّل -في تلك الحالة- ركلةً مُباغتة تدفع بالأوضاع الهشة إلى أُتون جولةٍ صِفرية من التصعيد، من شأنها أن تُباعد أكثر بين اليمن والسلام، ورغم الإشكالات الكثيرة التي خلقتها تلك القرارات في الواقع، فإنها كانت قد تُساهم، في حال كانت تلك القرارات، تتأسس على خطة استراتيجية مدروسة، في خلق قواعد جديدة للتفاوض بين الأطراف اليمنية، تحوْل دون استفراد طرفٍ واحد بامتياز إملاء وفرض الشروط الأُحادية على طول الخط، ليعود اليمن في تلك الحالة إلى مضمار التسويات الداخلية التي تتأسس على قدر معقول من التوازن البنَّاء، بعد أن ظلّ مُغيباً عن المشهد الوطني على امتداد عقد كامل من عمر الصراع الحالي في اليمن.

إن من الأهمية بمكان، استعراض أبرز العوامل وثيقة الصِلة بحالة اختلال التوازن في إطار السياق الأوسع للمشهد اليمني، بكل ارتباطاته الإقليمية والدولية، وبكافة أبعاده السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، والتي جعلت البنك المركزي المُصدر لتلك القرارات، يقف في حالة انكشاف، على أرضية هشة، في اختبار لم تتوفر الحد الأدنى من الشروط الأساسية لخوضه، ومن أهم تلك العوامل:

• تواجه مجموعةُ من الأطراف المُتنافرة المُنضوية في إطار مجلس القيادة الرئاسي والحكومة المعترف بها دولياً، ككتل غير مُتجانسة، متعددة الرؤوس، والولاءات، والمرجعيات، ضمن خارطةٍ مُشطَّرة تفتقر إلى أي روابط ذاتية بينها سوى رابط إرادة "التحالف، الطرف المقابل، المُتمثل بمكوِّنَ جماعة أنصار الله (الحوثيين) المتماسك؛ بقيادة واحدة ورؤية واحدة، ويبسط سيطرته على جُغرافيَّةٍ واحدة. • تُهيمن على علاقات الأطراف المنضوية في إطار مجلس القيادة الرئاسي، جُملة من التباينات العميقة، الكُلية والأساسية والفرعية، حدَّ التصارع؛ وجُملة من التشوهات الهيكلية والبنيوية والعملياتية والنظرية لكافة المسارات الأمنية والعسكرية والمالية والاقتصادية والسياسية، في جميع مستويات بُنى سلطة مجلس القيادة الرئاسي والحكومة المعترف بها دولياً، والذي أخفق في إحراز أي تقدم في عملية صهر التشكيلات الأمنية والعسكرية المُختلفة في إطار عمل مؤسسي متجانس وفاعل، في ظل وزارتي الدفاع والداخلية. • فشل مجلس القيادة الرئاسي في القيام بمسؤوليات تأمين الحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم لملايين السكان الخاضعين اسميًّا لسلطة مجلس القيادة الرئاسي والحكومة المعترف بها دولياً. • فشل مجلس القيادة في تقديم أنموذج خلاَّق في السياسة والإدارة والقيادة، كأحد متطلبات حيازة قبول الناس بسلطته والتفافهم حوله، كأساس لاكتساب شرعية ومشروعية تمثيلهم وتمثيل مصالحهم وتطلعاتهم. • تصاعد حالة الصراع الإماراتي السعودي في أكثر من ملف، أحدها ملف النفوذ وحالة تضارب المصالح والأهداف والتصورات في اليمن، بعد أن تسللت الإمارات إلى مساحات كانت في قلب مجال الأمن القومي السعودي، جنوب وشرق وغرب اليمن. • مُتطلبات والتزامات مسار التهدئة السعودية مع إيران في المنطقة برعاية صينية. • الخبرة السلبية السعودية والإماراتية والخليجية عموماً مع تقلبات مزاج السياسات الأمريكية الخارجية في المنطقة وحول العالم، والتي أدت إلى تلاشي الثقة بها كحليف، ولذلك فقد امتنعت السعودية عن الانضمام للتحالف الأمريكي البريطاني ضد الحوثيين، واكتفت السعودية بتكرار دعواتها الباردة للأطراف بضبط النفس وخفض التصعيد في اليمن. • ارتفاع سقف المطالب السعودية والإماراتية والخليجية في سبيل التوصل لاتفاقات أمنية وعسكرية مع الولايات المتحدة بسبب أزمة الثقة.

وهي عوامل تتظافر بمجملها لجعل خوض جولة جديدة من التصعيد والصراع، والمُغامرة بإحراق المراكب التي رسختها جهود السلام، محضَ قفزات في الظلام لا أُفق حقيقي لها، في ظل بقاء الكثير من تلك العوامل التي أدَّتْ إلى كل المآلات البائسة لكل الجولات الحربية السابقة، والتي تجعل من الرِّهان على متغير تكتيكي عارض في الخطاب والمزاج الرسمي الأمريكي، ليس فقط تكراراً لتراكمٍ طويلٍ من التجارب الفاشلة التي حملت في أحشائها ذات المقدمات والعوامل، رهاناً على متغيرات تكتيكية -في المزاج والخطاب- مشابهة إلى حد بعيد للنسخة الراهنة منها، والتي ثبت فشلها الذريع، بل وأدت في الأغلب الأعم منها، إلى نتائج عكسية لوعودها وأهدافها المُعلنة والمُضمرة وقتئذ، والتي صُدرت بذات الحماسة واليقينية والدوغمائية التي ترافق نسختها الحالية، ما يجعل الذهاب إلى التصعيد، بأي مستوى من المستويات في ظل تلك العوامل الإقليمية والمحلية، مُجرد عملية استئناف للسير في طريق المجازفات غير المدروسة، والذي اختُبر مراراً على امتداد ما يقارب عقدٍ كامل من عمر الصراع، لذات المقدمات والعوامل والملامح، وسيكون له حتماً ذات المآلات.

خطوات التصعيد الحوثية

ونظراً للأثر البالغ لتلك القرارات على المركز المالي لسلطات جماعة أنصار الله (الحوثيين)، فقد صعَّدتْ الجماعة من خلال التحريك المفاجئ لملف المُحتجزين من موظفي السفارة الأمريكية، والذي كان هو الآخر مُجمداً منذ سنوات، ككرت ضغطٍ ومناورة، لتعزز موقفها التفاوضي، حيث دفعتْ بقيادات أمنية عليا لتصدره بصورة غير مسبوقة، مع شن الجماعة حملة اعتقالات واسعة، طالت ما يزيد عن 35 موظفة وموظفة في المؤسسات الدولية والمحلية والبعثات الدبلوماسية، واحتجزت في مطار صنعاء، أربع طائرات تابعة للخطوط الجوية اليمني، ما أدى إلى وقف رحلات الطيران المحدودة من وإلى مطار صنعاء، ثم ذهبت أبعد من ذلك بتهديد السعودية بأن البنوك في الرياض مقابل البنوك في صنعاء، وأن المطارات في الرياض مقابل المطارات في صنعاء، كوسيلة للضغط على السعودية وعلى المجتمع الدولي.

قرار سعودي حازم بإنهاء التصعيد

وبعد أشهر من الحياد السعودي النادر، على امتداد مايزيد عن ستة أشهر من التصعيد المُتفاقم، كسر قراراً سعودياً حالة التحشيد والتصعيد في المشهد اليمني، وعلى مجلس القيادة الرئاسي والحكومة المعترف بها دوليا، التراجع عن كافة القرارات المُتخذة من قبل البنك المركزي في عدن، حيث أعلن المبعوث الخاص للأمم المتحدة لدى اليمن، هانس غروندبرغ، في بيان نشره صباح الثلاثاء 23 يوليو/ حزيران، يفيد بتسلُّمه اتفاقاً مكتوبًا من طرفي النزاع (جماعة أنصار الله (الحوثيين) والحكومة المعترف بها دوليًا)، يتضمن عدداً من النقاط الجوهرية التي كانت محط خلاف وتصعيد على امتداد شهور، ويقضي الاتفاق إلغاء القرارات والإجراءات الأخيرة ضد البنوك من الجانبين، والتوقف مستقبلاً عن اي قرارات او اجراءات مماثله، واستئناف طيران اليمنية للرحلات بين صنعاء والأردن، وزيادة عدد رحلاتها إلى ثلاث رحلات يوميًا أو بحسب الحاجة، وعقد اجتماعات لمعالجة التحديات الإدارية والفنية والمالية التي تواجهها الشركة، وقد تضمنت النقاط -المتفق عليها من جانب الطرفين- البدء في عقد اجتماعات لمناقشة كافة القضايا الاقتصادية والانسانية بناء على "خارطة الطريق"، على أن تلعب الأمم المتحدة دورًا داعمًا لتنفيذ ما سيتم الاتفاق عليه، سينبني على الإتفاق، استئناف للمفاوضات بين الأطراف اليمنية، والتي كانت قد انطلقت أحدث جولاتها في العاصمة العمانية مسقط، في 30 يونيو/حزيران الفائت، برعاية وإشراف من الأمم المتحدة.

ورغم الجوانب الإيجابية الآنية والمباشرة للتدخل السعودي، والمُتمثلة بوضع حد للتصعيد الخطير، والحيلولة دون استئناف العمليات العسكرية، وفتح بوابة جديدة للمفاوضات، فإن الأهم من ذلك، أن تتأسس أي تحركات سعودية مستقبلية، في اليمن، على موجهات استراتيجية مُتماسكة، وعلى مكاشفات ومُقاربات مُعمقة، لجذور وأبعاد كافة الإشكالات والمستجدات، مع ضمان التشاركية الكاملة مع أصحاب المصلحة العديدين في اليمن، وعلى رأسها الأطراف الفاعلة، بصورة تضمن انخراطها الطوعي والفعال، بمعزل عن أي قسر أو إذعان، في كافة مسارات حل الإشكالات، جذرياً، لا مُجرد تخديرها موضعياً أو ترحيلها، وذلك لضمان الأمن والإستقرار والسلام، لليمن والسعودية، منفردين ومجتمعين، وحتى يكون السلام في اليمن والسعودية، خياراً استراتيجياً، لا تكتيكياً آنياً قصير المدى، طبقاً للتأثيرات السعودية على اليمن، سلباً وإيجاباً، التي لا حدود لها، وللتأثيرات اليمن المحتملة على السعودية، كذلك.

content

يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.