منذ هجوم الفصائل الفلسطينية على المستوطنات الإسرائيلية في منطقة غلاف غزة، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023م، تعيش الآلة الحربية الإسرائيلية حالة تخبط وإرباك كبيرة، فالهجوم خلق حالة من عدم الاتزان في القرار السياسي لدى المكونات الإسرائيلية، التي حرصت على أن تبدو متماسكة بعد الهجوم، إلا أن الخلاف يظهر بين الحين والآخر على الرغم من تكوين مجلس حرب يضم كل القوى في إسرائيل؛ لأنها ترى أنها في حرب وجودية، فعلى الرغم من هذا الإجماع للقضاء على الفصائل الفلسطينية المسلحة ولاسيما حماس، إلا أنها تحمل نتنياهو مسئولية فشل صد هجوم 7 أكتوبر، وهذا الإجماع الممزوج بالخلاف ما كان له أن يستمر لولا الدعم الأمريكي المفتوح والكبير.
وبعد هجوم السابع من أكتوبر حصُرت إسرائيل في زاوية ضيقة وهي المواجهة المسلحة، والدخول في حرب مفتوحة وصفت بأنها الأبشع والأشد تدميرًا حسب تصريحات الأمم المتحدة؛ من أجل استعادة هيبتها أمام دول المنطقة لاسيما أنها في مرحلة التطبيع مع بعض الدول العربية، وهذا يقتضي أن تكون في مرحلة قوة واستقرار.
إن الحرب التدميرية الواسعة التي استهدفت المدنيين لاسيما الأطفال والنساء قبل المقاتلين قد استهدفت أيضا البنية التحتية والمنشآت الخدمية والمدنية، لقد تركز أسلوب إسرائيل في الحرب على تدمير البنية الخدمية التي يحتاج إليها المواطن البسيط، والسبب في ذلك هو أن تستعرض قوتها وتبث الخوف والرعب في قلوب خصومها، ومن هذا المنطلق قام وزير الدفاع الإسرائيلي في الثامن من أكتوبر بقطع الماء والكهرباء عن غزة، وعندما قامت إسرائيل بضرب اليمن -أيضا- قامت باستهداف خزانات الوقود؛ هذه التصرفات تثبت قصدية إسرائيل في استهداف المدنيين بشكل مباشر ورئيس، وفي المقابل نجد أن الفصائل الفلسطينية قد أعدت لما بعد السابع من أكتوبر جيدا سواء على المستوى العسكري أم السياسي؛ إذ عملت على توسيع نطاق حلفائها في المنطقة من أجل تخفيف الضغط عليها في الحرب، فضلا عن أن عملياتها قد عملت على عرقلة عمليات التطبيع أو إحباطها، وكذلك خلط الأوراق على المستوى الإقليمي، وإعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة. وفضلا عن ذلك فقد درست الفصائل الفلسطينية القرار الأمريكي وتوجهاته بشكل دقيق. لكن يبدو أن الانتخابات الأمريكية قد غابت عن حساباتها.
وبناءً على المعطيات التي تسعى إسرائيل إلى إثباتها، فإنها تشعر بأنها في مأزق مصيري وتدرك أن ثمة مخرجًا وحيدًا قد ينقذها من هذا المأزق، ويتمثل هذا المخرج في توسيع دائرة الحرب وإدخال لاعبين دوليين فيها. لذلك، أرى أن الحرب في غزة لن تنتهي إلا بأحد الخيارين: إما أن تشتعل حرب إقليمية كبرى تشترك فيها عدة دول، أو أن تندلع انتفاضة ومواجهة مسلحة في الضفة الغربية تخفف الضغط على غزة.
لقد وقعت إسرائيل تحت ضغط شعبي عالمي كبير، فضلا عن وقوعها تحت ضغط شعبي إسرائيلي متعلق بعائلات الأسرى، لذلك لجأت إلى المناورة بصفقة الأسرى التي لن تقبل بها، وما تقوم به الآن هو تخفيف الضغط عليها من الداخل وامتصاص غضب عائلات الأسرى الإسرائيليين، وخارجيا من أجل إبعاد الأنظار عن جرائم الإبادة التي ترتكبها في غزة.
والآن بعد أكثر من (300) يوم على حرب الإبادة في غزة لم تستطع إسرائيل تحقيق أي انتصار عسكري يذكر فعمدت إلى أسلوبها المعتاد في القضاء على خصومها وهو عمليات الاغتيالات؛ إذ اغتالت قيادات من حماس، ومن حزب الله كان آخرها اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في العاصمة الإيرانية طهران؛ الأمر الذي يدفع نحو توسع الحرب خارج قطاع غزة، وهو، فيما يبدو سماح لإسرائيل من قبل أمريكا للقيام بذلك بعد عودة نتنياهو منها مؤخرا.
إن جريمة الاغتيال لهنية في طهران قد حشرت إسرائيل في الزاوية، ودفعتها إلى نقطة قد تجر عليها حربا مفتوحة وطويلة، وهو ما لم تعهده منذ نشأتها، إذ اعتادت على الدخول في حروب قصيرة ومحدودة، كان الغرض منها محاولة إثبات الذات بأقل الخسائر. وفضلا عن ذلك فإن هذه الجريمة قد حشرت إيران هي الأخرى في الزاوية نفسها، إذ إن قتل شخصية سياسية مقيمة على أراضيها وبدعوة رسمية منها قد جعل موقف إيران صعبًا جداً؛ وأضافت بذلك عبئا إلى أعبائها فهي متخمة بالمشاكل الاقتصادية الداخلية، وفي الوقت نفسه هي راعية محور المقاومة، وقد دفعها هذا الفعل -بالرغم من ذلك- إلى أن تحاول استعادة ماء وجهها أمام أتباعها ومناصريها قبل خصومها؛ إذ إن هيبتها قد جرحت بشكل كبير، ولم يعد أمامها سوى المواجهة، أو الرد بشكل قاس، أو أقلها القيام بضربة موجعة لإسرائيل، وهذا ما توعدت به القيادة في إيران ومحور المقاومة؛ إذ صرح الأمين العام لحزب الله بأن الحرب قد دخلت مرحلة جديدة، وتحولت من جبهات إسناد إلى مواجهة مفتوحة، ولم تعد كما كانت عليه قبل عمليات الاغتيالات التي قامت بها إسرائيل. وبالمقابل أعلنت أمريكا أنها ملتزمة بحماية إسرائيل.
إن بوادر الحرب الإقليمية تلوح قي الأفق أكثر من أي وقت مضي؛ وربما قد تحاول الجهود الدبلوماسية التهدئة أو التقليل من حدة التوتر والتأجيج، غير أن سياق التوجه نحو توسيع دائرة الحرب قد أصبح واقعا، والمنطقة تمضي نحوه بشكل متسارع.
يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.