الخرافة في اليمن متأصلة، وقد ظل بئر "برهوت" عبر العصور أحد بواعث الريبة والخوف، باعتباره موئلًا لمردة الجن، حتى جاء شبّان عمانيون ونزلوا يتجولون فيه مبددين تلك المخاوف.
تقول الرواية الدينية والأساطير إن البئر مسكونة بالأرواح الشريرة، وإن ماءها شر وأقبح ماء على وجه الأرض. لكن الفريق الاستكشافي لم يعثر في قاعها سوى على ضفادع، أفاعٍ، وحشرات. بالإضافة إلى شلالات بديعة وعذبة تتدفق من منتصف جوانب الحفرة العملاقة.
وحتى تلك الأفاعي التي وجدوها كانت مسالمة، لم تؤذِ أحدًا من طاقم الفريق الثمانية الذين نزلوا إلى قاع البئر الفسيحة.
يبلغ عمق الحفرة 116 مترًا وعرض فتحتها 30 مترًا، وفي الأسفل تبدو أوسع وأعرض. أما الروائح النتنة التي قيل إنها تنبعث منها، فقد أفاد الفريق بأن مصدرها هو حيوانات وطيور نافقة، وهي ظاهرة طبيعية.
ورد ذكر هذه البئر في بعض الأحاديث، وهي حاضرة بكثافة في كتب المؤرخين العرب والرواة. وهناك مقولات غذت هذه الأسطورة، حيث يُقال إن أحد الملوك الحميريين قام بحفر البئر بواسطة الجن كي يخفي كنوزه، لكنه مات فاستوطنتها الجن. لهذا أُطلق عليها: "أرض الجن"، "مدينة الجن"، "كهف الجن"، و"قعر جهنم".
الحقيقة العلمية تفيد بأن الحفرة "تنتمي إلى ما يُعرف بجيولوجيا حفر الإذابة، التي تتكون في الصخور الجيرية السميكة، أو ما يُعرف بتكوين الحبشية، الذي ترسّب في عصر الإيوسين".
وهكذا ظل اليمنيون رهينة هذه الاعتقادات المغايرة لحقائق العلم. والعجيب أنه رغم تبدد تلك الأوهام، إلا أن "حرّاس" الخرافة بادروا عقب نجاح مهمة فريق البحث العماني في محاولة للحفاظ على الاعتقاد الراسخ داخل أذهان الناس باعتباره جزءًا من إيمانهم. فذهبوا في مسعى تشكيكي يقول: تارة بأن هذه ليست البئر الحقيقية المذكورة في الأحاديث، وتارة بالعناد والجهل بالقول: "صدق الحديث وكذب العلم".
هذه واحدة من مئات الاعتقادات الخاطئة في اليمن التي ترسخت في الأذهان عبر حقب التأريخ الطويلة.
الثعابين في الكيس
تفيد الحكايات أن الإمام أحمد كان يتقن استخدام هذا النوع من الترهيب، حيث كان يحيط شخصيته بحشدٍ واسع من سطوة الأسطورة.
أُشيع عنه مثلًا أنه كان يستخدم الجن، وأنه يبارز العفاريت ويطوّع الحيوانات المفترسة لخدمته، وأنه على علم بما سيحدث من خلال علاقته بالنجوم. حتى إنه بعث لجمال عبد الناصر رسالة بهذا الشأن.
وداخل بيت الإمام في تعز، توجد حديقة للأسود والثعابين الضخمة، حيث يتولى الإمام بنفسه عملية التدجين والمراوغة. ويروى عنه أنه كان يصارع الأسد، وأنه كان يجمع الأفاعي السامة ويحشوها في كيس واحد، وعندما يدخل على الناس الذين ينتظرون "جلالته" في ديوان المقام، ينثرها أمامهم، فيتقافزون مذعورين في كل اتجاه.
مبارزة بين الإمام وابن علوان
ومن بين قصص الإمام أحمد الغريبة والمثيرة ـ كان يقيم في مدينة تعز طوال فترة حكمه الذي امتد 14 عاماً - أنه ذهب إلى قبة وضريح الولي الصوفي أحمد بن علوان لمبارزته ذات مرة. (أحمد بن علوان فقيه صوفي كبير توفي في منتصف القرن السابع الهجري الموافق 1267م في زمن مملكة بني رسول).
تقع قبة الفقيه أحمد بن علوان في بلدة يفرس، غرب مدينة تعز بمسافة 25 كم. وقد ذهب الإمام أحمد في خمسينيات القرن الماضي على رأس موكب ضخم إلى "يفرس"، وهدم ذلك البناء الذي شيّد بزخارف ورسوم الحقبة الرسولية. ثم عاد إلى تعز محتفلًا، معتبرًا أنه حقق نصرًا مؤزرًا على فقيه صوفي توفي قبل ثمانية قرون. وأشاع بين الناس أنهما تبارزا بالسيوف (الإمام أحمد والمقابل المفترض الولي المتوفي ابن علوان)، فتفوق أمير المؤمنين أحمد حميد الدين، إلا أن جرحًا أصابه في الفخذ بضربة من ابن علوان ظل الإمام بسببها أيامًا رهن العلاج، محجوبًا عن الناس. وعندما قرر الخروج لممارسة مهامه، رتب القصر لعزومة فخمة دعا إليها كبار الأعيان والساسة والفقهاء، بمناسبة هذا "الانتصار العظيم"، ثم نثر بين أيديهم عشرات الثعابين من داخل الكيس.
ترهات أشراف الحجاز وأبي عريش
كان الشريف حسين أمير الحجاز (أيضاً) شغوفاً بهذا النوع من الاهتمامات الغريبة. كان لديه ولع بتربية الثعابين والثعالب والفخاخ، واصطحابها معه في لقاءاته الرسمية لتخويف ضيوفه.
كان شريف الحجاز (قبل أكثر من مئة عام) يلهو بهذه القصص ويمارس ترهاته، وعلى وعد قطعته له بريطانيا العظمى بـ"تتويجه" ملكاً على بلاد العرب.
ونقل عنه بعض الرحالة الغربيين أنه كان يخبئ الفخاخ أو الثعبان داخل كُمِّ ذراع ثوبه أو دِجلته الثمينة، ثم إذا كان في جلسة مباحثات رسمية هامة، يطلق هذه الزواحف من تحت كُمِّ ذراع الدجلة ويبعثرها على الطاولة.
هناك شيء من السخف يكمن في اهتمامات كثير من حكام وملوك شبه الجزيرة على مر العصور.
كان حاكم أبي عريش ابن علي حيدر يتملكه شيء من هذا الزعم المعزز بالترهات، ومن قبله كان أبو مسمار يدّعي تنفيذ غزوات بمفرده في جوف الليل، مخترقاً صفوف العدو، ثم يعود سالماً وفي قمة النشاط.
الفقيه سعيد وابن علي حيدر
وفي الزمن الذي ساد فيه وبلغت جيوش الشريف بن علي حيدر سفوح الجبال الجنوبية لتهامة اليمن، راسله الحاكم الثائر في إب وما حولها يومئذ "الفقيه سعيد" من داخل قلعة الدنوة باعتباره "ملك البر والبحر" ويحذره من الاقتراب.
تلقى الشريف رسالة الفقيه وسخر منه إذ اعتبر نفسه جديراً بهذه الصفة! وهكذا ظلا يتبادلان الرسائل، حيث كل منهما يعيّر الآخر بأنه لو كان صادقاً فليوجّه جيوشه إلى عدن لتحريرها أولاً من قبضة الإنجليز الذين وصلوا للتو عبر السفن. وهكذا ظل حكام ذلك العهد يتبادلون الترهات عبر الرسائل، ويسوقون المقاتلين إلى محارق الموت بالخرافة.
كانت اليمن مقسمة بين إمام في تهامة وآخر في إب وبعض تعز والمناطق الوسطى، و12 سلطاناً في الجنوب والشرق. وكانت صنعاء نفسها موزعة بين كنتونات متقاطعة تتبع 12 إماماً (صنعاء وما حولها). وكانت بريطانيا في عدن تراقب الوضع عن كثب وتمارس لعبتها المفضلة: التجزئة.
أساطير الإدريسي
لاحقاً جاء محمد بن علي الإدريسي حاكم صبيا (نهاية القرن التاسع عشر والعقدين الأولين من القرن العشرين) تحت اسم إمام المخلاف السليماني. وظل يمارس التهويمات نفسها حتى تكاثفت حوله أساطير لا حصر لها رغم ثقافته الواسعة، حتى أُشيع أنه يمشي راجلاً فوق سطح البحر.
بعد الحرب العالمية الأولى وعقب رحيل الأتراك عن اليمن، انفجرت الحرب الضروس في تهامة بين الإدريسي حاكم صبيا والإمام يحيى الذي تسلم لتوه صنعاء رسمياً. وفي وقائع وجولات حرب السنوات السبع بينهما، كانت الأساطير تلعب دورها من كلا الطرفين.
كلاهما (الإمام يحيى والإمام الإدريسي) يغذي مقاتليه بأن كتائب من الملائكة تقاتل معهم. بل إن دعاية الإدريسي كانت تنتشر داخل صفوف مقاتليه القادمين من جيزان وحرض ووادي بيش، بأن إمامهم (الإدريسي) كان يستخدم الجن ويرسلها إلى الجبهات صفاً بصف مع كتائب الإنس. وأنه –أي الإدريسي– كان يسري ليلاً من صبيا إلى حدود جبل "بُرع"، الذي ظل يتناوب السيطرة عليه مع الإمام يحيى عاماً بعد عام (سبع سنوات) في حروب دامية.
ودامت الحرب حول وفوق جبال: بُرع وملحان وحفاش والتخوم الغربية لقضاء الشرفين سنوات، وكان آخرها وأعندها حرب جبل بُرع. قدّم الطرفان آلافاً من القتلى حتى كسبها الإمام يحيى في آخر المطاف بالقوة وحدها، وأيضاً بموت خصمه اللدود حاكم صبيا، على إثر النزاع الذي نشب بين ورثته من بعده.
أسطرة حرب الزرانيق
عندما اندلعت حرب الزرانيق لاحقاً، عادت الإشاعات والدعايات تُبَثّ من جديد من كلا الفريقين: قادة الزرانيق، المعززين باعتقاداتهم الصوفية وكرامات الأولياء، إضافة إلى الدعاية البريطانية التي لم تتوقف في أي مرحلة عن نشر مثل تلك الإشاعات التي عززت الانقسام الأهلي في اليمن، تماشياً مع مقتضيات الحفاظ على مصالحها الكبرى في عدن.
أحيطت حرب الزرانيق بالأسطرة بشكل غير مسبوق، حيث أشيع أن بعضهم يستطيع القفز في الجو "الهواء" وينفذ عملية شقلبة لمسافة مئات الأمتار، ويرمي من الجو ولا يخطئ النشان! أو أن بعض الأجساد لا تخترقها طلقات البنادق.
تلك الاعتقادات المزعومة التي دخلت ضمن أدوات التحشيد والتعبئة والحرب النفسية لتلك المواجهات الدامية، استُخدمت بشكل فعّال في الضفة المقابلة (داخل جيش الإمام). لقد تسربت تلك البروباغندا إلى داخل معسكرات الإمام، وكادوا يصدقونها حتى أنها أحدثت إرباكات رهيبة داخل صفوف الجيش، الذي خسر خمس حملات بالتتابع مع مقادمتها كان يرسلها الإمام على مدى ثلاث سنوات.
الزرانيق أقوياء فعلاً ويصمدون في ميادين القتال، لكن مقاتلي الإمام مشهورون بالشجاعة والمراس أيضاً. وبين كلا المعسكرين، لم تكن بريطانيا العظمى بعيدة عن هذا السياق، كما أن المكائن الدعائية أضفت على مجريات تلك الحرب هالة ضخمة من أساطير الحروب.
كاد جيش الإمام نفسه أن ينهار أمام الدفاعات العجيبة لمدينة "بيت الفقيه"، وأيضاً تحت وقع هذه القصص الأسطورية واعتقاداتها.
ظهور "أحمد يا جناه"
لقد لجأ معاونو الإمام إلى التدابير نفسها، واستخدام وبث القصص والحكايات النفسية عندما دفع بنجله الأكبر أحمد إلى قلب المعارك مدججاً بالأساطير.
وجد القائد الجديد لجيش الإمام أن وضع المقاتلين في ميدان الحرب يتضعضع تحت وقع الدعاية النفسية الرهيبة عن خوارق الطرف الآخر، فعمد إلى دعاية مماثلة وخاض مغامرته تحت اسم "أحمد يا جناه".
ومن هنا بدأت شهرته وسطعت تحت هذا اللقب "أحمد يا جناه". لكن الأمير الذي نعتوه بـ"العفريت" صمم برنامجه الأسطوري لنفسه فقط، واحتكر هذه الشهرة والقصص الأسطورية من تلك الحرب لنفسه وحده. ومن يومها ظلت تدور حول شخصيته، وكانت فعّالة حقاً في كل المراحل.
ظل أحمد يا جناه شخصية أسطورية تبعث الرعب، ليس فقط لدى خصومه ولكن في نفوس إخوانه أيضاً بفعل تلك الدعاية وقدرته الفائقة على استعمالها بإتقان. وما برحت الحكايات ترافق شخصيته الغامضة وتسبقه أينما اتجه في كل محطات حياته حتى مات (من عام 1927، حرب الزرانيق، وحتى وفاته في 21 سبتمبر 1962).
من حرب الزرانيق عُرف الأمير أحمد بـ"أحمد يا جناه"، وقد فطن النجل الأكبر للإمام يحيى ومعاونوه العسكريون بذكاء إلى استعمال هذا النوع من الدعاية الفتاكة داخل صفوف رجاله أولاً وداخل المجتمع. وقبل أن يخوض الحرب في تهامة، عمل أولاً على رسم صورة عن نفسه باعتباره واحداً من الأساطير الخارقة، وسرعان ما انتقلت إلى صفوف الأعداء فانقلبت الأمور.
اتخذ أحمد من مدينة "السخنة" القريبة من سلسلة الجبال الشمالية لريمة مركزاً لقيادته، وكان شجاعاً يخوض المعارك بنفسه على رؤوس السرايا. لكن الأهم من ذلك: كان رجل الدعاية والحرب النفسية طيلة العهد الإمامي الأخير بلا منازع.
إلى جانب أنه كان جباراً شجاعاً، فإن من يدرس شخصية الإمام يدرك كم كان ممثلاً بارعاً في بلد مشدوه إلى الخرافة والأساطير.
قبل أن يخوض المعارك، كانت الإشاعات والأساطير حول شخصيته قد غطت سماء تهامة كلها والجبال المحيطة وليس الزرانيق وحدهم: أحمد يا جناه يستخدم الجن، وجسده مدرع ومقاوم للرصاص.
ويتناقل الناس قصة مشهورة لا تخلو من الظرافة جرت بين والده (الإمام يحيى) وبين الشيخ قطيش (من حاشد)، حيث أن الإمام عندما جمع القبائل إلى صنعاء وأطلعهم على صعوبة الموقف مع الزرانيق، شارحاً لهم كيف أن الحملات الواحدة تلو الأخرى ترسل ولم تحقق النصر، وطلب من القبائل تعزيزات إضافية إلى تهامة وحذرهم من التقاعس أو التراخي قائلاً: "وإلا والله لأدعو عليكم، وأنتم تعلمون أن دعوتي مستجابة". فأجابه قطيش: "أما إذا كانت دعوتك مستجابة، ادعِ على الزرانيق وكفى الله المؤمنين شر القتال"، فأحرجه أمام الناس ووجه به فوراً إلى الحبس.
خرافة دواء المشلول
الأساطير والخرافات موجودة بكثافة في حياة اليمنيين، وهي ليست مقتصرة على ظروف الحرب وضروراتها. إنها حاضرة في حياة الناس اليومية بشكل واسع، حيث لا تزال الكثير من هذه المعتقدات تفسر حالات المصابين بالشلل نتيجة جلطات بأنها إصابات ناتجة عن مسٍّ من الشيطان.
ووفقًا لهذا الاعتقاد، تلجأ العديد من الأسر اليمنية، لا سيما البسطاء في الأرياف، إلى استخدام النار كوسيلة علاجية لهؤلاء المرضى، بالإضافة إلى غيرها من التدابير العلاجية الغريبة ضمن هذا الاعتقاد.
سادت هذه الغرائب في جميع مراحل التاريخ السياسي اليمني بكل تنويعاته. ففي عهد ملوك الدولة الرسولية، نجد بعض الملوك غارقين في التنجيم وغيره من الخرافات. أما في خط ومسار أئمة الزيدية، فنجد من أُطلق عليه "المضلل بالغمام"، ومن ادّعى أنه المهدي المنتظر، وغير ذلك. وهناك قصص وأساطير كان يتدثر بها "علي بن مهدي"، الذي سطى على إرث الملكة "أروى" وعلى مخازن وأموال "الدولة الصليحية" في "جبلة" والمناطق الوسطى.
كما أن عبد المجيد الزنداني و"المجاهدين العرب" كانوا يبثون هذا النوع من القصص في حروبهم ضد السوفيت في جبال أفغانستان، وكان الـ CIA يقوم بطباعة البيانات اللازمة لتعزيز ذلك الاعتقاد، وفقًا لما ذكره ستيف كول في كتابه "حروب الأشباح"، حيث أشار إلى أن المخابرات الأمريكية كانت تطبع عشرات الآلاف من نسخ القرآن وتوزعها
يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.