عقب الهدنة التي وقعتها الأطراف اليمنية برعاية أممية في 2 أبريل/ نيسان 2022، والتي عُززت بتفاهمات خفض التصعيد ووقف العمليات العسكرية، زهاء العامين، أعلن المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن، هانس غروندبرغ، في 25 ديسمبر/ كانون الأول 2023، عن توصل أطراف النزاع في اليمن إلى اتفاق يقضي بالالتزام بمجموعة من التدابير التي تشمل تنفيذ وقف إطلاق نار يشمل عموم اليمن، والمُضي بإجراءات لتحسين الظروف المعيشية، ودفع جميع رواتب الموظفين في القطاع العام، واستئناف صادرات النفط، وفتح الطرقات في تعز وأجزاء أخرى من اليمن، ومواصلة تخفيف القيود المفروضة على مطار صنعاء وميناء الحديدة، بالإضافة إلى حُزمة من تدابير وإجراءات بناء الثقة، تمهيدًا لاستئناف عملية سياسية جامعة تحت رعاية الأمم المتحدة، من شأنها التأسيس لسلامٍ دائم في اليمن.
وعلى وجاهة كل الملاحظات على تباطؤ حركة جهود السلام، وعلى الكثير من الخروقات والتحديات التي ظلت تشكل تهديداً لتقويض حالة اللا حرب الهشة، مع بقاء الكثير من المطالب المُلحة التي كان يتوجب على جهود السلام العمل على تحقيقها، عالقة على ذمتها، فقد كان هناك الكثير من المنافع المهمة التي أنجزها التقدم المُحرَز في مسار السلام لصالح ملايين اليمنيات واليمنيين، والتي كان يتوجب الحفاظ عليها، والبناء على ما ترسخ منها للمضي بإنجاز المزيد من الخطوات الإضافية، لتحقيق مكاسب إضافية لصالح عموم اليمنيات واليمنيين، على طريقٍ غايتُه النهائية بناءُ سلامٍ شاملٍ وعادلٍ ومستدام.
وعقب أسابيع من هجوم الفصائل الفلسطينية، في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، على المستوطنات الإسرائيلية في منطقة غلاف غزة، شمال القطاع الفلسطيني المُحاصر منذ ما يزيد عن 15 عاماً، أعلنت جماعة أنصار الله (الحوثيين)، في 19نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، عن احتجاز سفينة تجارية إسرائيلية في البحر الأحمر، وإجبارها على التوجه إلى ميناء الصليف بالحديدة، مُدشنةً أولى عمليات استهداف السفن والناقلات البحرية المتجهة من وإلى إسرائيل عبر مياه البحر الأحمر ومضيق باب المندب، كردٍ على العمليات العسكرية الإسرائيلية المروعة التي استهدفت قطاع غزة، وسط تخاذل المجتمع الدولي عن واجباته الأساسية لحماية الفلسطينيين ووقف الجرائم الإسرائيلية. حيث أعلنت قوات جماعة أنصار الله (الحوثيين)، مسؤوليتها عن عشرات الهجمات التي استهدفت السفن والناقلات البحرية الإسرائيلية، في مياه البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن، وسط مساعٍ إسرائيلية وأمريكية وغربية، عَمِدتْ إلى حصر نطاق الصراع في إطار الحرب بين إسرائيل وحماس في حدود قطاع غزة، وعدم السماح بتوسيع الصراع إلى مدى إقليمي أوسع، لحماية إسرائيل أثناء عملياتها العسكرية وفظاعاتها المروعة ضد الفلسطينيين.
ورداً على سلسلة من عمليات الاستهداف الحوثية المؤثرة على حركة النقل البحري من وإلى إسرائيل، شنَّتْ القوات الأمريكية والبريطانية، ابتداءً من مساء الخميس 11 يناير/ كانون الثاني 2024، عملية عسكرية سُميت (حارس الازدهار)، حيث شنت عشرات الهجمات التي طالت مواقعَ في نطاق سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين)، في صنعاء والحديدة والبيضاء وتعز، وريمة، بالإضافة إلى سلسلة من التدابير الهادفة إلى الضغط على جماعة أنصار الله (الحوثيين)، لوقف هجماتها على الناقلات المتجهة إلى إسرائيل أو القادمة منها، وسط تأكيدات مُتكررة أعلنها المسؤولون الأمريكيون بوقف تلك العمليات بمجرد وقف الجماعة لهجماتها التي أعلنت الجماعة أنَّ وقفَهَا مرهونٌ بإنهاء الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة.
وبالتوازي مع العمليات العسكرية الأمريكية البريطانية في اليمن وإعلان إعادة إدراج جماعة أنصار الله على لائحة الإرهاب الأمريكية، وفرض العقوبات، وغيرها من الضغوط الدبلوماسية، أفصحت إدارة "بايدن" عبر سفيرها في اليمن، عن مناهضتها لمسار السلام الذي سبق وأعلن المبعوث الأممي عن إطاره، طبقاً للمقاربة السعودية الجديدة للوضع في اليمن، والتي جنحت معها المملكة إلى السياسة والمفاوضات وخفض التصعيد، خلافاً لإدارة بايدن التي عَمِدتْ إلى المجازفة بالتضحية بنتائج التقدم المهم المُحرز في جهود السلام منذ إعلان التوصل لهدنة في إبريل/ نيسان 2022، وما تلاها من تفاهمات خفض التصعيد ووقف العمليات العسكرية المباشرة، وصولاً إلى إعلان المبعوث الأممي في ديسمبر/ كانون الأول 2023، مع بَذْلِهَا لِجهودٍ مُتصاعدة للدفع بالأوضاع في اليمن إلى جولة جديدة من التصعيد غير المدروس، والذي يفتقر إلى الحد الأدنى من مُتطلبات أي منظور استراتيجي متوسط وبعيد المدى.
من جانبها، رأت الأطراف اليمنية المناوئة للحوثيين، المنضوية في إطار مجلس القيادة الرئاسي والحكومة المعترف بها دولياً، في المتغير التكتيكي الطارئ على المزاج والخطاب الأمريكي بشأن اليمن، فرصةً غير مسبوقة لتحقيق أكبر قدر من المكاسب منه. يتصدر مكاسبها المأمولة مساعيها لتعديل موازين القوى المُختل على أرض الواقع، عسكرياً وأمنياً وسياسياً، تبعاً لذلك المتغير الذي طرأ تحت عنوان مواجهة التصعيد الحوثي في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، حيثُ لم تكتفِ الأطراف اليمنية المناوئة لجماعة الحوثيين بالدعوة إلى حشد أكبر دعم لها ولتعزيز قدراتها الدفاعية والهجومية والمالية والاقتصادية، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، بمبادرتها إلى تقديم عروضٍ سخية -منفردةً ومجتمعة- لتمكينها من التصدي للتهديد الذي شكلته هجمات جماعة الحوثيين على الملاحة الدولية، ولإسقاط الجماعة التي يتصاعد نفوذها عسكرياً وسياسياً ومالياً واقتصادياً، ليس على المستوى اليمني وحسب، بل وعلى المستوى الإقليمي الذي دخلته عبر بوابة غزة بكل ما تمثله القضية الفلسطينية وجولات الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي من أبعاد، باعتبارها قضيةً مركزية لدى الأغلب الأعم من شعوب المنطقة، تضاعفت مع طوفان الانتهاكات الإسرائيلية المُروعة المُرتكبة خلال النسخة الحالية من جولات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
وبمعزل عن جدلية الموقف من هجمات الحوثيين، ومدى تأثيرها وفاعليتها وحجمها، وبغض النظر عن أخلاقية ومشروعية ومبدَئِية دوافعها، وعن الموقف من الجماعة ومن مدى أهليتها وموقعها وسجلها وما لها وما عليها في المشهد الوطني، فإن الجماعة قد حققت من خلال تلك الهجمات مكاسب غير مسبوقة داخل اليمن وخارجها، على حساب الخسائر الكبيرة للمجتمع الدولي والنظام العربي الرسمي الذي ظَهَرَ متورطاً ومتواطئاً مع تلك الحرب الوحشية، وفاقدًا للحيلة في أفضل الأحوال، مقابل استثمار إيران والجماعات التي تنضوي تحت لافتة "محور الممانعة" والموالية لها، والتي تفاعلت مع قضية الشعب الفلسطيني على عدة مستويات، منها الهجمات النارية التضامنية ضد الأهداف الإسرائيلية والأمريكية، والتي كادت أن تُفجر تفاعلاتها حرباً إقليمية واسعة النطاق، وهو بُعدٌ لا يُمكن الاستهانة بارتداداته الواسعة على كافة التطورات والتفاعلات المُحتدمة في المنطقة والعالم منذ السابع من أكتوبر.
ولا يمكن مُقاربة التفاعلات المُحتدمة حالياً في المشهد اليمني، بمعزل عن ذلك السياق الدولي والإقليمي المُعقد، وعن تداخلاته العديدة، بما في ذلك حُزمة القرارات التي أصدرها محافظ البنك المركزي في عدن، أحمد غالب المعبقي، الرامية من ظاهرها إلى استكمال تنفيذ عملية نقل مركز القرارات المالية والاقتصادية إلى عدن، والتي ما كان لها أن ترى النور في هذا التوقيت الحرج والحساس، لولا رفع "الڤيتو" الأمريكي الذي كان نافذاً ومتكفلاً بتجميدها منذ إعلان الرئيس عبد ربه منصور هادي، المُعترف به دولياً، في 18 سبتمبر/ أيلول 2016، قرار نقل البنك المركزي اليمني من العاصمة صنعاء إلى مدينة عدن المُعلنة كعاصمة مؤقتة للحكومة المعترف بها دولياً، (رغم كل ما ترتب على ذلك القرار من انقسام للقطاع المصرفي وللعملة الوطنية، ومن توقفٍ لدفع مرتبات مئات الآلاف من الموظفين الحكوميين)، إلاّ أنَّ "الڤيتو" الأمريكي تكفَّل -عبر المؤسسات المالية- بتأمين قنوات اتصال وتنسيق ظلَّتْ مفتوحةً بين بنكي صنعاء وعدن حتى وقت قريب.
ونظراً للأثر البالغ لتلك القرارات على المركز المالي لسلطات جماعة أنصار الله (الحوثيين)، فقد صعَّدتْ الجماعة من خلال التحريك المفاجئ لملف المُحتجزين من موظفي السفارة الأمريكية، والذي كان هو الآخر مُجمداً منذ سنوات، ككرت ضغطٍ ومناورة لتعزز موقفها التفاوضي، حيث دفعتْ بقيادات عليا لتصدره بصورة غير مسبوقة، ثم ذهبت أبعد من ذلك بتهديد السعودية بأن البنوك في الرياض مقابل البنوك في صنعاء، وأن المطارات في الرياض مقابل المطارات في صنعاء، كوسيلة للضغط على السعودية وعلى المجتمع الدولي.
ورغم الخطورة المُحتملة لتلك القرارات، لا يوجد حتى الآن ما يُشير إلى وجود خُطة استراتيجية للتعامل مع كل تداعياتها على القطاع المصرفي في عموم البلاد، وعلى أوضاع الناس والكيانات، وعلى مسار السلام، ويُمكن أن تُمثِّل -في تلك الحالة- ركلةً مُباغتة تدفع بالأوضاع الهشة إلى أُتون جولةٍ صِفرية من التصعيد، من شأنها أن تُباعد أكثر بين اليمن والسلام. وفي حال كان هناك خطة استراتيجية لتلك القرارات، فإنها قد تُساهم في خلق قواعد جديدة للتفاوض بين الأطراف اليمنية، تحُوْل دون استفراد طرفٍ واحد بامتياز إملاء وفرض الشروط الأُحادية على طول الخط، ليعود اليمن في تلك الحالة إلى مضمار التسويات الداخلية التي تتأسس على قدر معقول من التوازن البنَّاء، بعد أن ظلّ مُغيباً عن المشهد الوطني على امتداد عقد كامل من عمر الصراع الحالي في اليمن.
وفي جميع الأحوال، فإن من الأهمية بمكان، استعراض أبرز العوامل وثيقة الصِلة بحالة اختلال التوازن في المشهد اليمني، بكافة أبعاده السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، منها:
تواجه مجموعةُ من الأطراف المُتنافرة المُنضوية في إطار مجلس القيادة الرئاسي والحكومة المعترف بها دولياً (متعددة الرؤوس، والولاءات، والمرجعيات، ضمن خارطةٍ مُشطَّرة تفتقر إلى أي روابط ذاتية بينها سوى رابط إرادة "التحالف")، مكوِّنَ جماعة أنصار الله (الحوثيين) المتماسك؛ بقيادة واحدة ورؤية واحدة، ويبسط سيطرته على جُغرافيَّةٍ واحدة.
عُمق التباينات الكُلية والأساسية حدَّ التصارع؛ تحكم علاقات الأطراف المنضوية في إطار مجلس القيادة الرئاسي، والتشوهات الهيكلية والبنيوية والعملياتية والنظرية لكافة المسارات الأمنية والعسكرية والمالية والاقتصادية والسياسية لسلطة مجلس القيادة الرئاسي، والذي أخفق في إحراز أي تقدم في عملية صهر التشكيلات الأمنية والعسكرية المُختلفة في إطار عمل مؤسسي متجانس وفاعل، لوزارتي الدفاع والداخلية.
فشل مجلس القيادة الرئاسي في القيام بمسؤوليات تأمين الحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم لملايين السكان الخاضعين اسميًّا لسلطة مجلس القيادة الرئاسي والحكومة المعترف بها دولياً.
فشل مجلس القيادة في تقديم أنموذج خلاَّق في السياسة والإدارة والقيادة، كأحد متطلبات حيازة قبول الناس بسلطته والتفافهم حوله، كأساس لاكتساب شرعية ومشروعية تمثيلهم وتمثيل مصالحهم وتطلعاتهم.
تصاعد حالة الصراع الإماراتي السعودي في أكثر من ملف، أحدها ملف النفوذ وحالة تضارب المصالح والأهداف والتصورات في اليمن، بعد أن تسللت الإمارات إلى مساحات كانت في قلب مجال الأمن القومي السعودي، جنوب وشرق وغرب اليمن.
مُتطلبات والتزامات مسار التهدئة السعودية مع إيران في المنطقة برعاية صينية.
الخبرة السلبية السعودية والإماراتية والخليجية عموماً مع تقلبات مزاج السياسات الأمريكية الخارجية في المنطقة وحول العالم، والتي أدت إلى تلاشي الثقة بها كحليف، ولذلك فقد امتنعت السعودية عن الانضمام للتحالف الأمريكي البريطاني ضد الحوثيين، واكتفت السعودية بتكرار دعواتها الباردة للأطراف بضبط النفس وخفض التصعيد في اليمن.
ارتفاع سقف المطالب السعودية والإماراتية والخليجية في سبيل التوصل لاتفاقات أمنية وعسكرية مع الولايات المتحدة بسبب أزمة الثقة.
وهي عوامل تتظافر بمجملها لجعل خوض جولة جديدة من التصعيد والصراع، والمُغامرة بإحراق المراكب التي رسختها جهود السلام، محضَ قفزات في الظلام لا أُفق حقيقي لها، في ظل بقاء الكثير من تلك العوامل التي أدَّتْ إلى كل المآلات البائسة لكل الجولات الحربية السابقة، والتي عمدت إلى الرِّهان على متغير تكتيكي عارض في الخطاب والمزاج الرسمي الأمريكي، ليس فقط تكراراً لتراكمٍ طويلٍ من التجارب الفاشلة التي حملت في أحشائها ذات المقدمات والعوامل، رهاناً على متغيرات تكتيكية -في المزاج والخطاب- مشابهة إلى حد بعيد للنسخة الراهنة منها، والتي ثبت فشلها الذريع، بل وأدت في الأغلب الأعم منها، إلى نتائج عكسية لوعودها وأهدافها المُعلنة والمُضمرة وقتئذ، والتي صُدرت بذات الحماسة واليقينية والدوغمائية التي ترافق نسختها الحالية، ما يجعل الذهاب إلى التصعيد، بأي مستوى من المستويات في ظل تلك العوامل الإقليمية والمحلية، مُجرد عملية استئناف للسير في طريق المجازفات غير المدروسة، والذي اختُبر مراراً على امتداد ما يقارب عقدٍ كامل من عمر الصراع، لذات المقدمات والعوامل والملامح، وسيكون له حتماً ذات المآلات.
يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.