في 28 أغسطس/آب 2024، قالت شبكة CNBC، الأمريكية، وهي الشبكة الأكبر في العالم للأخبار المالية والتجارية، أن توترات البحر الأحمر، قفزت بانبعاثات الكربون، المُتسبب في ثُقب الأوزون، بنسبة 6% في النصف الأول من العام الجاري، في سياق مادة أكدت أن التغير المناخي يقضي على المحاصيل الزراعية، وهي إحدى مقولات الدعاية، المُهندسة لتأليب الرأي العام من أنصار البيئة، ضد هجمات أنصار الله (الحوثيين)، ضد سفن الملاحة المتجهة من وإلى إسرائيل، عبر مياه البحر الأحمر ومضيق باب المندب، على خلفية حرب غرة، ولخلق غطاء أخلاقي للعمليات الحربية الأمريكية - البريطانية في اليمن، في إطار محاولات كثيرة لفصل مسألة التصعييد في البحر الأحمر، عن الفضاعات التي ترتكبها إسرائيل، ضد الشعب الفلسطيني، على مدى عام كامل، برعاية أمريكية مُطلقة.
ولم تكن تلك المقولة المُصدرة بأعلى درجات الخفة، في مُقاربة مسائل الشأن اليمني، باستخدام الترند العالمي (التغيرات المناخية)، هي الأكثر هزلية، ولا الأكثر ابتساراً في اختزال مسائل المشهد اليمني. فقد عمدت مقولات الأغلبية العظمى من المعلقين على كوارث السيول في غير منطقة يمنية؛ إلى رميها على شماعة التغيرات المناخية، لاستغلال أو ركوب ظهر الترند العالمي الجديد، بمعزلٍ عن واجب طرح الأسئلة الدقيقة، تجاه النسخة المائة من ذات الكارثة التي تُهدد حياة مئات الآلاف من اليمنيات واليمنيين، كل صيف على مدى عقود.
وحتى لا تُتهم هذه التناولة، بالإلحاد بإحدى معتقدات العصر المقدسة، فإنها لن تتورط في إزاحة عنصر التغيرات المناخية من جملة العوامل المساهمة في تفاقم كوارث السيول في غير منطقة يمنية، بصورة كلية.
غير أن ما يُمكن تأكيده بوضوح، أنه عاملٌ ثانوي، تسبقه جُملة من العوامل الرئيسية التي يتم تجاهلها. منها الطبيعة الجغرافية لأجزاء واسعة من اليمن، حيث تُشكل تضاريسها سلاسل من الهضاب والجبال والمرتفعات، كمصدرٍ لتدفق السيول تجاه الأغلبية العظمى من مناطق الجزء الآخر من اليمن في السهول والأودية والقيعان، حيث تتعرض الأراضي الزراعية، إلى التجريف، بصفة دورية، في مواسم الأمطار الصيفية.
يكمن العامل الرئيسي الثاني لكوارث السيول، في افتقار معظم مناطق اليمن، إلى الحد الأدنى من البنية التحتية اللازمة لتخزين المياه الموسمية ووضع مصدات وكوابح فعالة، تساهم في الحد من قوة وسرعة انحدار السيول صوب السهول والأودية والقيعان والأراضي الزراعية. تشمل هذه البنى السدود والحواجز والسقايات والخزانات والبرك والعبارات والقنوات والمصدات، والتي كان يمكن أن تساهم في حل إحدى أكبر مشكلات اليمن المزمنة، المتمثلة في شحة المياه، والتي فاقمت تهديدات الأحواض المائية بالجفاف، وجعلت من العاصمة اليمنية صنعاء أول عاصمة مُهددة بالجفاف في العالم، رغم الكميات الهائلة من المياه الموسمية المهدرة التي تذهب سُدى، دون أن تتكفل ولو بالحد الأدنى، بتغذية الأحواض المائية الجوفية.
ولا تقف المشكلة عند افتقار اليمن إلى بنية تحتية لتخزين المياه الموسمية، بل تمتد إلى نهجٍ متراكمٍ لاستنزاف مخزون المياه المتاح بصورة حادة نتيجة الانفجار السكاني، في ظل حالة مُستفحلة من سوء إدارة الموارد المائية، وفوضى حفر الآبار الارتوازية، وبدائية نظم الري بالغمر، بالإضافة إلى المياه المُهدرة في ري شجرة القات. ولا يزال غياب شبكات نقل حديثة للمياه إلى المنازل والمرافق أحد أسباب تراجع الزراعة في اليمن، فضلاً عن تقادم وتآكل شبكات النقل الداخلية في المدن.
يكمن العامل الثالث في عدم وجود آليات استجابة مؤسسية فعالة للتعامل مع الكوارث الطبيعية، حيث تتنصل السلطات المتعاقبة من مسؤولياتها تجاه الكوارث الطبيعية وحماية حياة الناس وممتلكاتهم في جميع الظروف، متذرعة بقدرية وحتمية الكوارث، وإحالتها إلى عواملٍ طبيعية لا يمكن تجنبها. حيث تعمل السلطات على صرف النظر عن واجبها في إنجاز بنية تحتية ملائمة للتضاريس أو إنشاء آليات استجابة فعالة للكوارث، سواء كانت ناجمة عن الطبيعة الجغرافية للبلاد أو نتيجة للتغيرات المناخية، بما في ذلك آليات الإنقاذ والنقل والتسكين وإعادة الإعمار، وتوفير الخدمات وجبر الضرر.
ويمكننا هنا إعادة التذكير بخُلاصات ومقتطفات دونها الكاتب الأمريكي البارز توماس فريدمان في مقالته حول مشكلة المياه في اليمن، التي نُشرت في صحيفة نيويورك تايمز في 7 مايو/أيار 2013، عقب زيارة قام بها إلى اليمن. حيث وصف مشكلة المياه المتفاقمة بأنها تُلخص "ما أدى إليه نصف قرن من سوء الإدارة السياسية، إلى جانب سوء إدارة الموارد الطبيعية، وتشوهات النفط والانفجار السكاني".
مُستشهداً بإحدى إجابات الناشطة البيئية الأمريكية دانا ميدوز، عندما سُئِلت عما إذا كان الوقت قد فات للقيام بأي شيء بشأن تغير المناخ، فقالت: "العالم العربي لديه الوقت الكافي تمامًا - بدءًا من الآن. وإذا لم يتوقف الناس عن القتال فيما بينهم حول الأيديولوجيات الميتة، والاختلافات الطائفية، والتركيز بدلاً من ذلك على التغلب على عجزهم في المعرفة والحرية وتمكين المرأة - كما حث تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية العربية - فلن يكون هناك أمل".
ونقل فريدمان عن عبد الرحمن الإرياني، وهو وزير سابق للمياه والبيئة في اليمن، قوله: "في صنعاء العاصمة، في الثمانينيات، كان عليك أن تحفر حوالي 60 متراً للعثور على المياه؛ أما اليوم، فعليك أن تحفر 850 إلى 1000 متر للعثور على المياه، وأن اثنان فقط من أصل 15 حوض مياه جوفية لا زالا يتمتعان بالاكتفاء الذاتي؛ فيما تتعرض بقية الأحواض المائية الجوفية للنضوب بشكل مطرد، وأن أسوأ الصراعات في مختلف مناطق اليمن هي بسبب شُحة المياه الجوفية". وأضاف الإرياني: "إن حوض رداع، أحد معاقل القاعدة، هو أحد أكثر أحواض المياه الجوفية المهددة بالنضوب".
كما نقل عنه قوله: "وفي الشمال، على الحدود مع المملكة العربية السعودية، كانت منطقة صعدة واحدة من أغنى المناطق لزراعة العنب والرمان والبرتقال. لكنهم استنزفوا طبقة المياه الجوفية بشكل سيئ لدرجة أن العديد من المزارع جفت، وهذا خلق البيئة المناسبة للطائفة الحوثية الموالية لإيران لتجنيد عمال مزارع شباب عاطلين عن العمل لبدء تمرد مسلح".
وأكد الإرياني: "أن الكارثة البيئية التي ولدت في اليمن في سبعينيات القرن العشرين، عندما انفجرت طفرة النفط والبناء في الخليج العربي، وغادر حوالي مليونين إلى ثلاثة ملايين رجل يمني، غير ماهر، قراهم لبناء المملكة العربية السعودية".
وتابع قائلاً: "نتيجة لذلك، أصبحت مناطق الريف خالية من القوى العاملة، ولجأت النساء إلى قطع الأشجار للحصول على الوقود، وتآكلت المدرجات بسبب نقص الصيانة. وأدى هذا إلى تآكل واسع النطاق لسفوح التلال وتراكم الطمي على نطاق واسع في الوديان ـ مجاري المياه الموسمية ـ التي كانت تربتها الغنية تدعم ثلاثة محاصيل في العام، بما في ذلك البن اليمني الشهير. ولقد أدى تراكم الطمي في الوديان إلى تدمير تجارة البن، ودفع اليمنيين إلى زراعة محاصيل نقدية أخرى تحتاج إلى تربة أقل خصوبة، أبرزها شجرة القات، الذي يتطلب الكثير من المياه، الأمر الذي أدى إلى الإفراط في استنزاف المياه الجوفية".
لذا، فإن أي مُساندة تُقدّمها الدول الشقيقة والصديقة والجهات المانحة لليمن، من منح ومساعدات، في إطار مواجهة كوارث السيول، يتوجب أن تكون مشروطة بقيام السلطات الحاكمة بمسؤولياتها وواجباتها، وليس تكريسًا لتنصلها منها واتكاليتها المُزمنة. بدءًا من واجبات ومسؤوليات العمل على الاستثمار في البنية التحتية، من خلال بناء شبكة واسعة من السدود والحواجز والسقايات والخزانات والبرك والعبارات والممرات المائية (السوائل) والمصدات، وإنشاء نظم نقل، وحفظ وإدارة وقنوات ري حديثة وفعالة، ينبغي أيضًا أن تشمل مسائل الحوكمة والإدارة الجيدة في قطاعات المياه والري والزراعة والبيئة، بالإضافة إلى القطاعات الأخرى المرتبطة، لضمان تحقيق التأثيرات الإيجابية المرجوة.
ولا تتوقف تأثيرات الجهود الإيجابية على تعزيز الموارد المائية لليمن، وتغذية أحواض المياه الجوفية، وتعزيز الإنتاج الزراعي وتوسيع نطاقه الجغرافي والزمني. بل إنها ستخلق مصادر نظيفة للطاقة، وستعزز مسارات السياحة الداخلية والخارجية، وستساهم في حماية البيئة، وتعزيز فرص العمل، وتحسين مؤشرات الاقتصاد الوطني، والحد من الفقر والجوع، والنزاعات الداخلية، وترسيخ دعائم الاستقرار والتماسك الاجتماعي والسلام.
يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.