عشيَّة قصف الميناء من أفواه الشهود

تفاصيل وتبعات الاعتداء الإسرائيلي على الحديدة

الثلاثاء, 30 يوليو / تموز 2024

منصور أبو الفضل

منصور أبو الفضل

في يوم السبت 20 يوليو/ تموز، وعند الساعة 5.50 مساء تقريبا، حل الظلام على مدينة الحديدة في غير موعده. فقد حجبت سحب الدخان الأسود سماء المدينة، وطغت رائحة البارود على رائحة الفل، بعد أن أحالت صواريخ المقاتلات الإسرائيلية المنشآت النفطية وخزانات الوقود في مينائها إلى بركان عجزت فرق الإطفاء والدفاع المدني وجهود الجهات الرسمية والخاصة عن كبح رغبته في التهام المدينة، وتُرك الأمر لدعوات النساء والشيوخ والأطفال الذين يعيشون بدون كهرباء في مدينة تصل درجة الحرارة فيها إلى 38 درجة مئوية. ذلك أن المقاتلات الإسرائيلية قصفت في نفس التوقيت المحطة المركزية لتوليد الكهرباء، الواقعة في منطقة الكثيب، مديرية الصليف، محافظة الحديدة، وأخرجتها عن الخدمة.

عقب الهجوم الإسرائيلي، انضممت إلى فريق مواطنة لحقوق الإنسان الذي هُرِع إلى موقع الهجمات الإسرائيلية منذ اللحظات الأولى للعمل على توثيق آثار ست هجمات مزدوجة، شنتها مقاتلات حربية إسرائيلية على منشئات حيوية ومدنية، في مدينة الحديدة، خلفت 10 قتلى وأكثر من 80 جريحا بينهم طفلان، ونزوح عشرات الأسر من سكان المناطق المجاورة والمحيطة بالهجمات، وألحقت أضرارا بالغة في ميناءي الحديدة والصليف، والمحطة المركزية لتوليد الكهرباء، الواقعة في منطقة الكثيب، في محافظة الحديدة غرب اليمن.

يعتبر ميناء الحديدة من أبرز الموانئ المطلة على البحر الأحمر، وبوابة المساعدات الإنسانية والسلع التجارية لأكثر من 80 % من سكان اليمن. وأثناء هجمات المقاتلات الإسرائيلية على الميناء، كانت توجد في الميناء سفن محملة بالمساعدات الإنسانية والسلع التجارية، وقد تعرضت سفينة تابعة لبرنامج الأغذية العالمية لأضرار طفيفة إثر ذلك الهجوم. على رصيف 7 في ميناء الحاويات بميناء الحديدة، وبجوار السفينة NEPTUNE J، التقيت بمهندس الصيانة في السفينة، عماد زين (44 عاما، سوري الجنسية،) الذي أفاد: "كنت أنا وزملائي طاقم السفينة على متنها لحظة قصف الطيران الإسرائيلي ميناء الحديدة. تم استهداف 2 من الكرينات بغارتين متتاليتين، تلتهما غارات أخرى استهدفت خزانات الوقود ومنشآت النفط بالميناء. أثناء استهداف الكرينات كان هناك شخص يقوم بصيانة إحداها، وقد عُثر على جثته في البحر بعد حوالي 24 ساعة، وقد تعرض شخص واحد من طاقم السفينة البالغ عددهم 23 شخصا لجروح في ساعد يده اليسرى نتيجة الزجاج المتطاير من قمرة القيادة، بالإضافة لرضوض وكدمات في مناطق مختلفة من جسمه نتيجة سقوطه أثناء القصف. أعتقد أن هذا الهجوم سيؤدي إلى تخوف الشركات الملاحية والسفن من الوصول إلى ميناء الحديدة." وبحسب الشاهد فإن السفينة NEPTUNE J كانت محملة بـ 13000 طن من المساعدات الغذائية، (قمح،) وصلت ميناء الحديدة قادمة من تركيا في 14 يوليو وبدأت تفريغ حمولتها في 18 يوليو، وقد تعرضت السفينة لأضرار سطحية نتيجة الشظايا والأجسام المتطايرة.

تعمدت إسرائيل قصف الأعيان المدنية والمنشآت الحيوية والخدمية، ومنها خزانات الوقود بميناء الحديدة. فقد استهدفت المقاتلات الإسرائيلية خزان مطافئ المنشآت النفطية في الميناء قبل أن تستهدف خزانات الوقود، حتى تشل أي تحرك لفرق الإطفاء. هيثم مقبول (32 عاما،) أحد الضحايا الناجين، ويعمل موظفا في مطافئ المنشآت النفطية في الميناء، يقول في شهادته التي أدلى بها لمواطنة لحقوق الإنسان "استهدفت الضربات الأولى رافعات الميناء، كنت حينها مسترخيا بعد دوام 12 ساعة متواصلة. فأنا أعمل في مطافئ منشآت النفط في ميناء الحديدة. وعندما قمت مسرعا للقيام بواجبي المهني، تفاجأت بأن الضربات التالية استهدفت منطقة المطافئ، وأصاب الصاروخ خزان المطافئ الذي يحتوي على الرغوة الخاصة بإطفاء الحريق، ثم خزانات الوقود. وتتالت الانفجارات. لم يكن أمامنا أي شيء لنعمله، فقد عجزنا عن أداء مهامنا، نتيجة لاستهداف خزان المطافئ وللنيران وحمم الوقود التي كانت تحاصرنا من كل اتجاه."

وقف هيثم وزملاؤه من موظفي المطافئ فاقدي الحيلة، حتى إن البعض منهم عجز عن إنقاذ نفسه، فاستسلم للنيران. والبعض الآخر لهول الحدث كان ثقيل الخطوات وهو يهرب من ألسنة الموت. "تعرضت للإصابة بحروق متفرقة في أنحاء جسدي، وأنا أحاول الخروج من دائرة النار القادمة من الجحيم، بالكاد كنت أستطيع الحركة، وعجزت عن القيام بأي شيء آخر، حد عجزي عن محاولة إنقاذ زميلي نشأت الذي رأيته يحاول إخماد النار التي اشتعلت في ملابسه، وعندما عجز عن ذلك، رأى في البحر النجاة، وقفز في مياه البحر التي كانت قد اختلطت بالوقود المتسرب من الخزانات، فاشتعلت المياه وكأنه عود ثقاب كبريت مشتعل ارتمى في حوض بترول".

في مستشفى الثورة وسط مدينة الحديدة قابلت محمد البرعي (34 عاما،) أحد الضحايا الناجين، وكانت الحروق أصابت مناطق متفرقة من جسده، لكنه لم يتحدث كثيرا عنها، بقدر ما تحدث عن الآثار النفسية نتيجة الموقف الذي واجهه، وقال بحسرة: "عجزت عن الحركة، وتجمدت في مكاني، بعد أن رأيت رأس زميلي نبيل ناشر مفصولا عن جسده الذي كان يحترق على بعد حوالي 5 أمتار، لقد رأيت الموت عيانا، وتعرضت لحروق في الرقبة واليدين والرجل اليسرى، لكني لا أعاني منها كما أعاني من الآثار النفسية. فأنا عاجز الآن عن النوم بشكل طبيعي، وإن غفت عيوني للحظات تراودني كوابيس مفزعة. لقد نجوت من الموت بأعجوبة."

هلع ونزوح

سادت حالة من الهلع والخوف سكان مدينة الحديدة، بعدما دوّت أصوات الانفجارات الكبيرة، الناجمة عن غارات المقاتلات الإسرائيلية، والانفجارات المتتالية لخزانات الوقود، وتسببت الهجمات في نزوح عشرات الأسر من سكان المناطق المحيطة والقريبة من أماكن الهجمات، خوفا من الموت، أو هربا من الاختناق.

هناء الفقية (موظفة قطاع خاص) قالت لخلاصات: "أسكن في مربع الحي التجاري القريب من شارع الميناء، وتقدر المسافة التي تقع بين منزلي وبين المنشآت النفطية بميناء الحديدة -مكان الهجمات- بحوالي ألف وخمسمائة متر، وقد أثارت أصوات الغارات وما أعقبها من انفجارات الرعب والهلع وخصوصا لدى أطفالي. حاولت طمأنتهم رغم الخوف الذي كنت أشعر به من أن تتعرض الأماكن القريبة من الميناء للضرر. انقطعت حينها الكهرباء، وعلمت من خلال الأخبار المتداولة أن غارات إسرائيلية أيضا استهدفت المحطة المركزية لتوليد الكهرباء. فتحتُ نوافذ المنزل لدخول الهواء. وخلال لحظات شعرنا أن الأكسجين قد انقطع، وأننا لا نتنفس إلا رائحة الدخان الناتج عن حرائق خزانات الوقود في الميناء. كانت سحب الدخان تغطي سماء المنطقة بشكل مهول، فقررت النجاة بأطفالي ونزحت إلى أحد الفنادق الواقعة في أطراف المدينة، ونزح الكثير من السكان القريبين من الميناء، خصوصا بعد أن اقتربت النيران من خزانات الغاز، التي كانت شبح يهدد الجميع".

وتُقدر مواطنة لحقوق الإنسان "عدد الأسر التي نزحت من منطقة الكثيب -مديرية الصليف (سكن العاملين في محطة الكهرباء)- بنحو 100 أسرة، فيما تُقدر عدد الأسر النازحة من منطقة ميناء الحديدة بنحو 150 أسرة. نزحت الأسر إلى وسط مدينة الحديدة وإلى محافظة صنعاء".

وخلال الساعات الأولى من الهجمات امتدت حالة الهلع وتبعات هذه الكارثة إلى صنعاء وبقية المحافظات التي تخضع لسيطرة جماعة أنصار الله الحوثيين. فقد اصطفت طوابير السيارات أمام محطات الوقود، وتزاحم الناس بأسطوانات الغاز أمام محطات تعبئة الغاز المنزلي، خوفا من أزمة وقود محتملة، الأمر الذي دفع شركة النفط اليمنية في صنعاء لإصدار بيان أكدت فيه أن الوضع التمويني، سواء في محافظة الحديدة أو باقي المحافظات، مستقر تماما ولا يوجد أي مبرر للضغط على محطات الوقود.

تلوث بيئي

في تصريح خاص بخلاصات قال محمد زمام -خبير بيئي: "أدت الهجمات الإسرائيلية على المنشآت النفطية بميناء الحديدة إلى أضرار بيئية كبيرة، بسبب انبعاثات الأبخرة الملوثة للهواء الناتجة عن حرائق خزانات الوقود التي استمرت على مدى خمسة أيام، فضلا عن تلوث البيئة البحرية، نتيجة تسرب الوقود في البحر، الأمر الذي قد يؤثر سلبا على الجانب الاقتصادي بقطاعه السمكي. فمن المحتمل تدني مستوى صادرات اليمن من الأسماك، نتيجة للأحداث في البحر الأحمر، وتلوث البيئة البحرية."

ويمثل صيد الأسماك مصدرا أساسيا لدخل العديد من الأسر في محافظة الحديدة، على امتداد شريطها الساحلي الغني بالأسماك والأحياء البحرية، وتقول إحصائيات أممية إن أكبر نسبة فقر باليمن تتركز في هذه المحافظة الساحلية التي يعتمد غالبية سكانها على مهنة الصيد الذي يعتبر من القطاعات الإنتاجية المهمة في اليمن، ويحتل المركز الثاني في الناتج المحلي الإجمالي بعد النفط.

وبحسب تحقيق نشرته منصة خيوط في يونيو الماضي "فإن إنتاج اليمن من الأسماك والأحياء البحرية -بحسب التقديرات والبيانات الرسمية- كان يبلغ سنويا حوالي 200 ألف طن قبل اندلاع الحرب مطلع عام 2015، إذ كان يتم تصدير ما بين 40 و50 في المئة من هذا الإنتاج، وكان يدر عائدات تقدر بنحو 300 مليون دولار." غير أنه ومنذ اندلاع الحرب انخفض حجم الإنتاج للنصف، نتيجة نزوح الصيادين والعاملين في القطاع السمكي، وما لحقتهم من أضرار خلال سنوات الحرب.

جريمة حرب

أعقب الهجوم الإسرائيلي على منشآت البنية التحتية المدنية في الحديدة إدانات واسعة من عدد من الدول والهيئات والمؤسسات الحقوقية، ودعت مواطنة لحقوق الإنسان إلى فتح تحقيق دولي مستقل حول ما حدث، وقالت في بيان لها "إن الهجمات الإسرائيلية على منشآت البنية التحتية المدنية في مدينة الحديدة، تمثل جريمة حرب انتهكت حماية القانون الدولي الإنساني للمنشآت والأعيان المدنية والبنية التحتية، وانتهكت مبادئ القانون الدولي الإنساني كالتناسب والحماية والتمييز، وقوضت الحماية التي تتمتع بها الأعيان المدنية طبقا للمادة (54) من البروتكول الإضافي الأول من اتفاقيات جنيف 1977، التي تحظر ’تعمد تقييد أو عرقلة الإمدادات الغذائية اللازمة لهم، أو تعمد تدمير المناطق الزراعية أو المحاصيل أو المواشي أو منشآت المياه وشبكات الري التي تعتبر ضرورية لبقاء السكان المدنيين،‘ والمادة 147 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تعتبر أن ’تدمير الممتلكات والمنشآت المحمية بشكل غير مشروع وواسع النطاق بمثابة أفعال إجرامية وانتهاكات جسيمة للاتفاقية.‘"

وأدانت مواطنة في بيانها المتزامن مع زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لواشنطن موقف واشنطن المستمر في دعم جرائم الحرب الإسرائيلية في فلسطين واليمن. وقالت رضية المتوكل، رئيسة مواطنة لحقوق الإنسان: "إن دعم الولايات المتحدة المالي والعسكري والسياسي لإسرائيل على الرغم من سجل إسرائيل في انتهاكات حقوق الإنسان في غزة والآن في اليمن، ومكافأة نتنياهو باستقبال حافل في واشنطن، عوضا عن احتجازه وتحويله للمحكمة الجنائية الدولية، سلوك مُشين ومُخيب، يجعل من الولايات المتحدة الأمريكية صديقا دائما لمرتكبي جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية".

وأكدت مواطنة، "أن فرقها الميدانية في مدينة الحديدة عثرت على أجزاء من أسلحة أمريكية استُخدمت في الهجمات الإسرائيلية على ميناء الحديدة، كما تم العثور عليها في مواقع العديد من الهجمات غير القانونية السابقة في اليمن.."

احترقت خزانات الوقود في ميناء الحديدة، ومعها احترقت قلوب كل اليمنيين، وتزايدت مخاوفهم من تبعات هذا التصعيد، وتأثيراته على الأوضاع الاقتصادية والإنسانية في البلاد. ويرى مراقبون أن هذا التصعيد في حال استمراره سيحدث آثار سلبية بالغة على الوضع الاقتصادي والإنساني المتدهور أصلا، وأن الاقتصاد اليمني جريح يزداد نزيفه تصاعديا يوما بعد آخر.

content

يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.