للشهر التاسع، تستمر الهجمات التي تشنها من اليمن قوات جماعة أنصار الله (الحوثيين)، على سُفن الملاحة المُتجهة من وإلى إسرائيل، عبر مضيق باب المندب والبحر الأحمر، أعلنت جماعة أنصار الله (الحوثيين)، منذُ إعلان الجماعة المتحالفة مع إيران والفصائل الفلسطينية، يوم 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، احتجاز سفينة تجارية إسرائيلية في البحر الأحمر، وإجبارها على التوجه إلى ميناء الصليف بالحديدة، وهي أولى عمليات استهدافها للسفن والناقلات البحرية الإسرائيلية أو المتجهة من وإلى إسرائيل عبر مياه البحر الأحمر ومضيق باب المندب، والتي أتت ردًّا على العملية العسكرية الإسرائيلية التي استهدفت قطاع غزة، عقب هجوم الفصائل الفلسطينية على منطقة المستوطنات في غلاف غزة، في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ارتكبت خلالها قوات الإحتلال الإسرائيلي طوفاناً من الفضاعات طالت عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين، وسط تخاذل وتواطؤ المجتمع الدولي عن واجبات حماية الفلسطينيين ووقف الجرائم الإسرائيلية.
مساء الخميس، 11 يناير/ كانون الثاني 2024، أعلنت القوات الأمريكية والبريطانية، البدء بشن سلسلة من هجمات عملية (حارس الإزدهار)، بهدف وضع حد للهجمات الحوثية في البحر الأحمر، كجزء من مساعٍ إسرائيلية وأمريكية وبريطانية، لحماية إسرائيل أثناء عملياتها العسكرية وفظاعاتها المروعة ضد الفلسطينيين، تحت عنوان عدم السماح بتوسيع الصراع إلى مدى إقليمي أوسع، وحصر الصراع بين إسرائيل وحماس، في نطاق قطاع غزة، والأراضي الفلسطينية المُحتلة، وشنت المقاتلات الأمريكية والبريطانية عشرات الهجمات التي طالت عشرات المواقعَ في صنعاء والحديدة والبيضاء وتعز، وغيرها من المناطق اليمنية الواقعة تحت سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين).
ورغم كل حملات الدعاية الغربية الضخمة، التي رافقت تلك الهجمات، منها تصريحات قادة واشنطن ولندن، المُتكررة، حول إنجاز تلك الهجمات لمهمة تعطيل القدرات الهجومية للحوثيين، وهي تصريحات ومزاعم أكثر وأكبر، بما لا يقاس، من حقائق وأثر تلك الهجمات على أرض الواقع، والتي كانت على ما يبدو من ضخامتها ومُبالغاتها المفرطة، جزءًا من حملات الدعاية الانتخابية الداخلية، في عام الانتخابات، فبتتبّع تلك الهجمات وتقييمها، بشكل مستقل، على أرض الواقع، فإنّ الأغلب الأعم منها، قد طالت أهدافاً ميتة، سبق أن استهدفتها مرارًا هجمات مقاتلات التحالف بقيادة السعودية والإمارات، ممّا يجعل منها، محض عمليات استعراضية وعبثية، تفتقر إلى الفاعلية والجدوى والاستراتيجية.
وقد عمدت حملات الدعاية الضخمة، التي رافقت هجمات التحالف الأمريكي البريطاني على أهداف عديدة في المناطق الخاضعة لسيطرة جماعة الحوثيين من اليمن، إلى فصل عمليات الاستهداف والتصعيد في البحر الأحمر عن تطورات الوضع في غزة، بهدف تجريد العمليات الحوثية من أبعادها الأخلاقية والإنسانية باعتبارها عمليات مُرتبطة بالوضع في غزة، مع تركيزها على سرد الحجج على أن هجماتها العسكرية هي للدفاع عن العالم ومصالحه ورفاهه، سعياً منها لتعويض افتقار هجمات عملية (حارس الإزدهار) كلياً، لأي مضامين ومُنطلقات أخلاقية أو إنسانية أو قانونية أو سياسية، وللتملص من حقائق كون تلك العمليات، دفاعًا عن إسرائيل لتأمين استكمال عملياتها العسكرية المُروعة التي تقوض فظاعاتها كل أسباب حياة وبقاء الفلسطينيين.
وبمقاربة مجردة للحقائق والوقائع، فإن التصعيد في البحر الأحمر، اندلع بسبب الحرب الإسرائيلية في غزة، ومرتبط بالوضع الإنساني والحقوقي الخطير والمتفاقم في القطاع، وباستمرار وتوسع عملياته وتداعياته، وبسبب استمرار الفظاعات التي ترتكبها إسرائيل بحق المدنيين، دون أي رادع، فمنذ اندلاع النزاع في اليمن مع اقتحام جماعة أنصار الله (الحوثيين) للعاصمة اليمنية صنعاء، في 21 سبتمبر/أيلول 2014، وعلى مدى قرابة عشر سنوات من الحرب في اليمن، ظلّت الملاحة الدولية عبر مياه البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن، بمنأى عن نيران الصراع، الذي رغم طول أمده، وتعدد الأطراف الإقليمية والدولية المتورطة فيه، لم تُسجَّل خلاله أي عمليات استهداف للناقلات والسُّفن التجارية التي عبرت مياه البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن قبالة السواحل اليمنية، رغم أنها كانت وقتئذٍ في دائرة الوصول الناري والعملياتي لأطراف الحرب اليمنية، ومنهم جماعة أنصار الله (الحوثيين)، وظلت مسائل أمن وسلامة الملاحة الدولية، طيلة السنوات العشر، في إطار التصريحات والتحذيرات الإعلامية وحسب.
وبمعزل عن تقييم مدى فاعلية هجمات التحالف الأمريكي البريطاني، على عدة أهداف خاصة بقوات جماعة الحوثيين، ورغم فشلها الذريع عن تحقيق أيٍ من أهدافها، الماثل للعيان، فلا يُمكن إغفال أن هجمات عملية (حارس الإزدهار)، قد شُنّت في ظلّ انكشاف أخلاقي وقانوني وسياسي، أمريكي وبريطاني، غير مسبوق، بعد المساندة المُطلقة لجرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين، ودعم حربها المروعة، ماليًّا وعسكريًّا وسياسيًّا ودبلوماسيًّا، أضف إلى ذلك، حالة بيّنة من افتقار صُنّاع القرار في البلدين، للحد الأدنى من متطلبات فهم السياق الراهن في المنطقة، واليمن، بما في ذلك إدراك مركزية القضية الفلسطينية، بالنسبة للأغلب الأعم من سكان الوطن العربي، والآثار العميقة لتفاعلات تلك القضية، في ظل تآكل وتلاشي الثقة، بأمريكا وبريطانيا، في إطار دوائر الحلفاء قبل الخصوم.
وتكشف عناوين ومضامين خطاب التحالف الأمريكي والبريطاني، الرسمي وغير الرسمي، المرافق لعملياته ضد جماعة الحوثيين في اليمن، ومن ذلك استدعاء فزاعة إيران وشرورها وأخطارها- عن الفجوة الهائلة والعميقة بين حقائق الوضع، وبين صُنّاع القرار والخطاب، في بريطانيا وأمريكا، حيث بات وعي الناس يستوعب مطامع إيران وشرورها وأخطارها وفخاخها، ويدركون بذات القدر، مطامعَ وشرور وأخطار وفخاخ وألاعيب وحيل وأكاذيب أمريكا وبريطانيا وإسرائيل.
وفي واقع الأمر، لم يعد من الصعب إدراك أن لا أحد يخدم إيران وحلفاءها، وكل التشكيلات الراديكالية في المنطقة، أكثر ممّا تفعله إسرائيل وداعموها أمريكا وبريطانيا والمجتمع الدولي في غزة، وخلال الأسابيع القليلة الماضية، حقّقت إيران، وكل التشكيلات الراديكالية في المنطقة، مكاسب مجانية واسعة، لم تحققها أو تحلم بتحقيقها على امتداد عقود طويلة، وعلى أكثر من مستوى، ويكذب من يقول إنّ إيران والتشكيلات المتحالفة معها، وكل التشكيلات الراديكالية في المنطقة، لا تكتسب كل يوم نفوذًا أوسع في المنطقة، وشعبية أكبر، على حساب ما تخسره إسرائيل وأمريكا وبريطانيا والغرب وحلفاؤهم في المنطقة. إنّ الثابت الآن بالتجربة، أنّ نهج الإدارة الأمريكية وحلفائها في مقاربة الحرب في فلسطين، وتداعياتها في المنطقة، ومن ذلك التصعيد في البحر الأحمر، تؤدي فعليًّا إلى نتائج عكسية كارثية، حيث تتراكم على إسرائيل وداعميها حمولة ثقيلة من الفظاعات المروعة غير المسبوقة المُرتكَبة ضد الفلسطينيين، وترتفع وتيرة التصعيد في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، حيث تزيد فاعلية الهجمات الحوثية، التي تُحقّق عمليًّا جملةً من الأهداف الجانبية غير المُعلنة، بالإضافة إلى أهدافها المعلنة من تلك الهجمات، كمُختبر حي لتطوير واستعراض وسائلها وقدراتها الهجومية، وفوق ذلك، تتزايد احتمالية اتساع رقعة التصعيد ضد الملاحة المتعلقة بإسرائيل إلى طرق الملاحة الدولية البديلة عبر رأس الرجاء الصالح.
وخلافاً للكثير من التصريحات الإسرائيلية والأمريكية التي عمدت إلى التقليل من أثر هجمات جماعة أنصار الله (الحوثيين) على الوضع في إسرائيل، على امتداد أشهر من بدء الهجمات، فقد أسفرت تلك الهجمات في نهاية المطاف، عن توقف الحركة التجارية عبر باب المندب ومياه البحر الأحمر من وإلى ميناء إيلات الإسرائيلي، وأدت إلى توقف 85% من نشاط الميناء، في الثلاثة الأشهر الأولى منها، طبقاً لتصريح الرئيس التنفيذي للميناء، جدعون بورت، أدلى بها لوكالة رويترز في 21 ديسمبر/ كانون الأول 2023، قال فيها: "لسوء الحظ، إذا استمر الأمر فسنصل إلى وضع عدم وجود سفن في ميناء إيلات"، وصولاً إلى إعلان جدعون في تصريحات صحفية أدلى بها لوكالة رويترز، في 16 يوليو/ تموز 2024، بعد زهاء ثمانية أشهر من بدء الهجمات الحوثية، عن توقف نشاط ميناء إيلات كلياً وإغلاقه تمامًا، في ظل عدم استجابة الحكومة الإسرائيلية لمطالب إدارة الميناء بالحصول على مساعدة مالية، نظراً لانقطاع دخل الميناء منذ بدء هجمات الجماعة اليمنية المتحالفة مع إيران وحركة حماس. وقال جدعون: "الميناء مغلق تمامًا، ولم يكن هناك نشاط في الميناء منذ ثمانية أشهر، بسبب فشل دول التحالف البريطاني الأمريكي في وقف الهجمات في مضيق باب المندب والبحر الأحمر؛ لم يكن لدينا أي دخل خلال الأشهر الماضية، وقد حان الوقت لكي تضع الحكومة يدها في جيبها وتفهم أنه يجب مساعدة الميناء المغلق". وأكد جدعون أنه: "يجب الاعتراف أن الميناء في حالة إفلاس، وبأن سفينة واحدة فقط وصلت إلى الميناء في الأشهر الأخيرة، وأن اليمنيين قد أوقفوا فعلياً الحركة من وإلى الميناء".
ووفقاً لصحيفة "ذامدلاين"، فقد أكد مسؤول إسرائيلي كبير "أن ميناء إيلات الإسرائيلي أعلن رسمياً إفلاسه بسبب الانخفاض الحاد في الأنشطة التجارية والإيرادات بسبب الحصار البحري الذي يفرضه الحوثيون في اليمن على سفن الشحن المرتبطة بإسرائيل منذ نوفمبر الماضي"، وسط أعباء مالية واقتصادية متصاعدة تواجهها الحكومة الإسرائيلية بسبب الحرب التي تشنها في قطاع غزة، بالإضافة إلى العديد من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاجتماعية العاصفة التي تواجهها حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية، على المستوى الداخلي والإقليمي والدولي.
في أول اختراق من نوعه، شنت جماعة الحوثيين، فجر يوم الجمعة 19 يوليو/تموز 2024، أولى هجماتها على العاصمة الإسرائيلية تل أبيب، بطائرة مسيرة، قتلت مواطناً إسرائيلياً، وأضرار مادية أُخرى، شنت عقبها المقاتلات الإسرائيلية، مساء السبت 20 يوليو/تموز 2024، سلسلة غارات على ميناءي الحديدة والصليف ومحطة الطاقة الكهربائية في مدينة الحديدة (شمالي غرب اليمن)، حيثُ استهدفت الهجمات الإسرائيلية، منشآت بنية تحتية مدنيِّة ساهمتْ وكالاتُ ومؤسسات الأمم المتحدة والمجتمع الدولي والدول المانحة في إعادة إعمارها وتعزيز قُدراتها وتشغيلها، والتي كانت تُمثل شريانَ الحياة بالنسبة لملايين السكان؛ حيث يستقبل اليمن عبر ميناء الحديدة ما يزيد عن 80% من المساعدات الإنسانية والسلع الأساسية والوقود، والتي يعتمد عليها ما يزيد عن 28 مليون يمني للبقاء على قيد الحياة، والتي كانت على امتداد زهاء عشر سنوات من الصراع تصل إلى ميناء الحديدة، بعد أن تمر بعمليات تفتيش ورقابة دقيقة وشاملة، عبر آلية الأمم المتحدة للرقابة والتفتيش.
وقال الجيش الإسرائيلي إن القصف كان ردا على الهجمات التي نفذت ضد إسرائيل خلال الأشهر السابقة، وصرح وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت بعد الضربات الإسرائيلية على الحديدة، "يمكن رؤية النار المشتعلة حاليا في الحديدة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، والرسالة واضحة: وفيما يبدو تفسيرا لسبب اختيار الهدف (منشآت تخزين النفط) قال وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت في بيان "إن النيران المشتعلة حاليا في الحديدة يمكن رؤيتها في جميع أنحاء الشرق الأوسط والمغزى واضح"، وأضاف: "أن إسرائيل قصفت الحديدة في اليمن لتوجيه رسالة معينة للحوثيين، بعد أن هاجمونا أكثر من 200 مرة. وفي المرة الأولى التي ألحقوا فيها الأذى بمواطن إسرائيلي، قمنا بقصفهم. وسنفعل ذلك في أي مكان إذا اقتضت الضرورة"، وعقب الهجوم، جددت جماعة أنصار الله (الحوثيين)، أنها ستواصل هجماتها ضد إسرائيل وسفن الملاحة المتجهة منها وإليها، حتى وقف الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المُحتلة.
وتبعًا لكل الحقائق والوقائع والتطورات والتفاعلات، المُحتدمة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، على أكثر من مستوى، وما أعقبها من صراع في قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة، مروراً بالتصعيد في البحر الأحمر واليمن، وفي عموم الشرق الأوسط، فإن الهجمات الحوثية والتصعيد في البحر الأحمر، لا يمكن أن تتوقف، طبقاً لتأكيدات قيادة جماعة الحوثيين، مرارًا، إلّا بوضع حدٍّ للحرب في قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المُحتلة، وبوضع حدٍّ لتدهور الوضع الإنساني فيها، وللجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين، وخاتمة القول، وخُلاصته، وبكل الحسابات، فإنّ إنهاء التصعيد والفوضى في البحر الأحمر، لن يتحقّق بالعمليات العسكرية العبثية التي تزعم تدمير قدرات الحوثيين الهجومية، ولا بالدعاية الضخمة ومرافعات هجاء الحوثيين وسرد مساوئهم، بل إنّ أقصر الطُّرق إلى إنهاء التصعيد والفوضى في البحر الأحمر، وبأقل قدر من التكاليف، يبدأ وينتهي بوقف مغامرات نتنياهو وحكومته المُتطرفة، ووقف طوفان الفظاعات التي تُرتكب ضد الشعب الفلسطيني، ووقف حمّام الدم في غزة، ووقتئذٍ فقط يمكن أن تجد المرافعات والمحاججات، والمساعي الحميدة لفضح الأشرار في الشرق الأوسط، حيزًا من اهتمام الناس وانتباههم.
يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.