منذ أن ساد تصورُ الإنسان عن خَلْقِ المرأة من ضلع أعوج كما أخبرت بذلك بعض الكتب العتيقة التي استندت في تفسيراتها إلى الإسرائيليات، تكالبت على المرأة اللعنات والاتهامات بكل نقص وقصور ورذيلة، إلى درجة جعلها مطية للشيطان، وسبباً في تجرؤ آدم على الأكل من شجرة المعرفة المحرمة، وفي عريه الذي سعى إلى ستره بورق الجنة، وفي إخراجه من الجنة؛ بل إلى درجة تحولها إلى رمز لغواية الرجال من النبيين والصديقين والصالحين والطالحين من البشر، ونموذجاً لقصور العقل، ونقص الميراث، وضعف الشهادة، وضعف الإرادة أمام القول اللين المخضع...إلخ.
لقد جعلني الإعلان المنشور في صفحات عدد كبير من المفسبكين عن ندوة ستقيمها جامعة صنعاء بعنوان: "لماذا لا توجد امرأة شاعرة؟"- أتذكر كل ما مضى وغيره من المقولات والآثار والممارسات التي كرست تهميش المرأة والحط من شأنها في مجتمعاتنا، وفي مجتمعات أخرى نظيرة لنا من جهة، كما جعلني -من جهة أخرى- أقف ملياً أمام عنوان الإعلان المتحيز ضد المرأة، وأمام عناوين المحاور التي ستقدم فيها أبحاث تؤكد قصر النبوة على الرجال، أو تثبت عجز المرأة عن الإبداع الأدبي عموماً والشعري تحديداً، أو تستدل على صدق تلك التصورات من الكتاب والسنة؛ لأصل في نهاية فحصي وتأملي لها إلى أن الإعلان المنشور مزيف و(مفبرك) ومنسوب ظلما وعدوانا إلى جامعة صنعاء، وإلى أن المشتركين في المحاور لا علاقة لهم ولا دراية بكل ما نسب إليهم.
ما توصلت إليه لم يكن تماشيا مع من قال بأن الإعلان صنع بواسطة (الفوتوشوب)، ولم يكن محملاً بهم الدفاع عن المؤسسة الجامعية وعن الأشخاص المشاركين في الندوة الذين لا أعرف منهم سوى اثنين، ولكن غايتي كانت متجاوزة ذلك إلى هم آخر هو: الوقوف على الكيفية التي يشتغل بها خطاب التزييف؛ وبالفحص وجدت أن نفي ارتباط هذا الإعلان بالجامعة وبالمشاركين في المحاور تأتي من تضمنه لما ينقض مصداقيته من داخله، والدليل على ذلك مجانبته لبعض أعراف المؤسسات العلمية التي لا يمكن أن تعنون ندوة علمية ما بمثل هذا العنوان، ولا أن تضع محاور بمثل تلك الصورة الفجة؛ ليس لأنها لم تأخذ بأدنى أدبيات الموضوعية التي لا يمكن لأي مسؤول عنها أن يقترح مثل تلك العناوين المتحيزة ضد المرأة سلفاً والمجيبة عن الإشكالية البحثية مسبقاً فقط، بل لأن من سماها ندوة علمية أخفق في إقناع المتلقي بكونها كذلك من نواح أخرى، منها: أنه جعل المشاركين في الندوة محاضرين لا باحثين سيأتون لعرض أوراق بحثية علمية، كما أن اثنين من المشاركين الذين سماهم بأسمائهم منحهم صفات غير أكاديمية وغير بحثية، وهذا لا يعني أنهم غير مؤهلين للقيام بذلك، وإنما يعني أن من (فبرك) الإعلان يجهل أبسط اللوازم الضرورية لإقامة ندوة علمية يجب فيها ألا تسبق عربة الإجابات أحصنة الإشكاليات، ويجب ألا يجلب إليها من ليس مشتغلاً بالعلم.
وبما أن العلمية تتطلب إعادة مساءلة السائد من التصورات حول المرأة، فإنها لا تنكره بالمطلق ولا تقف معه -أيضا- بالمطلق، وهذه المسلمة العلمية لا تتفق مع ما جاء في عنوان الإعلان ولا مع محاوره، وفضلا عن ذلك لا تتفق مع بعض الكتب الموهمة بالضبط والعلمية، أو على أدنى مستوى من التثقيف الرصين؛ فلو أننا بحثنا عما يتماشى مع عنوان الندوة المتحيز ضد المرأة وإبداعها ومكانتها من الكتب التي تدعي توخي الموضوعية أو التثقيف، وتتسلح بحشد كبير من المعارف؛ لمعالجة هذه القضية، فلن نجد أفضل من كتاب عدو المرأة الأبرز: (عباس محمود العقاد) الذي أخرج لنا كتاباً اختار له عنوان (فلسفة المرأة)، وقدم فيه أفكاره في أوراق يجاوز عدد صفحاتها الثلاثمائة صفحة.
لقد سعى العقاد فيه إلى اقتناص كل ما يؤيد إدانته للمرأة، وإلى نفي أي إمكانية لإبداعها كما هو حال من أراد ذلك ممن يقف وراء ذلك الإعلان المزيف. ولكي يقف القارئ على الصورة العامة والشاملة لموقف العقاد اللاموضوعي في كتابه الآنف الذكر، سأعمل على تقديم صورة مجملة له؛ حتى يتضح تحيزه ضد المرأة ويظهر زيف طرحه الذي شغل به الناس، ورسخ من خلاله ما في تصورات العامة من قيم تحط من كل ما يتصل بالمرأة.
سيجد المطلع على كتابه ذاك أنه قسمه على قسمين متفاوتين، أخذ الأول منهما حيزاً صغيراً جَمَّعَ فيه موضوعات متعددة، وعلق عليه عنواناً جامعاً هو: (فلسفة المرأة)؛ في حين أخذ الثاني، الذي عنونه بـ(ـالمرأة في القرآن)، حيزا كبيرا يقارب ثلثي الكتاب؛ الأمر الذي لم يجعلنا نتوهم أننا أمام كتابين لا أمام كتاب واحد فحسب، بل جعلنا نرى التكرارات الكثيرة والمتشابهة بين القسمين إلى درجة التطابق حتى في بعض العناوين الداخلية التي أعاد استنساخها بالحرف.
أما عن تحيزه، فلا يقف عند عدائه الواضح والجلي للمرأة فقط، بل يجاوز ذلك إلى تحيزه ضد ثقافات الأمم والحضارات الأخرى غير الإسلامية وأديانها، وذلك يتجلى من خلال إيراده لكل ما من شأنه تعزيز فكرة الحط من المرأة في تلك الثقافات والأديان وغض الطرف عما يعلي من شأنها فيها، وفعله اللاموضوعي هذا غايته إثبات أن الإسلام والقرآن أتى بأفضل مما جاء في ثقافات تلك الأمم والحضارات وأديانها. ولكي يقنع القارئ بذلك، وجدناه -في عرضه لما جاء عن المرأة في الإسلام والقرآن- يورد العكس من صنيعه الذي قام به حين عرض لقضية المرأة في غير حضارة العرب والمسلمين وثقافاتهم وأديانهم؛ وللقارئ أن يتأكد من ذلك حين يعود إلى الفصل الذي عقده لمكانة المرأة في القسم الأول من الكتاب.
أما عن موقفه من إبداع المرأة في المجالات المختلفة، فليس لي إلا أن أقدمه بلسانه الذي جعله ينطق في فصل (تفاوت الجنسين) بما نصه: "المرأة لا تبتدئ ولا تبتدع في صناعة من الصناعات أو فن من الفنون، وإن طال عملها فيه وانقطعت له أحقاباً بعد أحقاب؛ فإذا شاركها الرجل في الطهي أو الخياطة أو النسج أو التزيين والتجميل -وهي صناعتها التي غبرت على مزاولتها مئات الأحقاب- كان له السبق بالتجويد والافتنان، واستطاع في هذه الصناعات نفسها أن يستأثر بإقبال المرأة وثقتها دون من ينافسه فيها من النساء".
لعمري إن كلامه هذا لا يمت إلى الموضوعية بصلة، ولا إلى العلمية بسبب؛ فالأمر نسبي التحقق، وإلا فماذا سيقول عن نازك الملائكة التي يكاد الإجماع على ابتداعها للشعر الحر (التفعيلة) يتحقق كماله؟ وماذا عن زهى حديد التي فاقت بإبداعاتها الهندسية كل الرجال؟ وماذا عن سهير القلماوي التي كانت أول من جعلنا نعترف بقيمة ألف ليلة وليلة بعد أن همشتها كتب التراث العربي، التي تعد أول من اختط طريقاً لدراسة الأدب الشعبي، والسردي منه على وجه الخصوص؟ وماذا عن سميرة موسى التي كانت أول العرب المختصين بعلم الذرة؟ وماذا عن أم كلثوم التي لن يراها -حسب ما طرحه في مسألة إبداع التلحين والغناء- سوى مؤدية لإبداعات الرجال في الكلمات والتلحين والغناء؟ وماذا عن غيرهن من النساء اللواتي لم تحضرني أسماؤهن أو لم أعرفه لهن من إبداع؟
الإشكال الحقيقي لا يتمثل فيما قدمه العقاد عن المرأة من صور سلبية، ولكنه يتوارى وراء سلطة العقاد المعرفية التي تجعل كل من يقرأ له ويقع تحت سطوة ثقافته المهولة، يأخذ بكل ما طرحه عن المرأة ويسلم به؛ فالأخذ ممن امتلك سلطة كسلطة العقاد المعرفية والوقوع في أسر ما قدمه فيها، يجعلنا نتأخر كثيراً في تغيير رؤانا للمرأة وللحياة إذا كان ما يقدم في ثياب العلم والثقافة متخلفاً؛ فإذا كان أعلام -كالعقاد- قد كرسوا في أذهان النخب والعامة هذه القيم السلبية عن المرأة، فمعناه أنهم قد صادروا -بشرعيتهم الثقافية والمعرفية- أي إمكانية لتجاوزها؛ لأنهم عملوا على أن يُلْبِسُوا ما قدموه عنها ثياب العلم أو الثقافة التي لا يبرأ من آثار تزييف هؤلاء لهما أي مجتمع يقدسهم ويوثنهم إلا بعد أن يجد من يخرجه من سجون ذلك التزيف الذي بنى جدرانها العالية والصلبة من استحوذ على عقول الناس بسلطته المعرفة التي احتكرها واختزلها فيه.
ما أريد أن أخلص إليه في هذا المقال، أنه لا يجب أن توجهنا في أحكامنا ورؤانا وعواطفنا عقدنا التي نمر بها في حياتنا؛ فنقوم بانتقاص المرأة أو تشويهها أو احتقارها أو نفيها أو إقصائها؛ لأننا فشلنا في الفوز بقلبها كما فشل العقاد في الفوز بقلب مي زيادة، أو لأننا لم نمتلك ما حظيت به فحسدناها؛ فإن انتقصناها فسنكون -بلا شك- أبناء الناقصات أو إخوانهن أو آبائهن أو أزواجهن أو أحبابهن؛ لأن أمهاتنا وأخواتنا وبناتنا وزوجاتنا وحبيباتنا نساء أيضا؛ وكذلك المرأة لا يجب أن تكون حدية في أحكامها على الرجال؛ فلا يحق لها أن ترى كل الرجال خونة أو حقراء أو تافهين أو فاقدين للرجولة بمجرد وقوعها في تجربة مريرة أو فاشلة معهم أو لأي سبب آخر؛ فكل منهما ليس شراً مطلقاً ولا خيراً مطلقاً، وعلى كل منهما تعقل الأمور حتى يعيش باتزان في الحياة، وإلا فسيعيش الواحد منهما ناقماً ما تبقى من حياته، ولن يجد ما يتمناه أو يحلم به.
يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.