يُمثِّل ميناء إيلات الإسرائيلي الذي يقع في مدينة إيلات (على الطرف الشمالي لخليج العقبة والبحر الأحمر) منفذاً استراتيجياً وحيوياً وحيداً لمرور الشحنات التجارية من وإلى إسرائيل عبر مضيق المندب والبحر الأحمر، ولوصول الملاحة المرتبطة بإسرائيل من إلى المحيط الهندي، ويلعب دورًا رئيسيًا في تسهيل حركة البضائع والسلع بصورة مباشرة بين إسرائيل من جهة وأوروبا وآسيا من جهة أخرى، عبر مضيق باب المندب والبحر الأحمر، الذي يُعد -بالتكامل مع خليج عدن- بمثابة حلقة وصل استراتيجية بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط عبر البحر الأحمر وقناة السويس، حيث تمر من خلاله حصةٌ وازنة من صادرات النفط والغاز من الخليج العربي، عبر قناة السويس، أو خط أنابيب "سوميد" عبر كل من باب المندب ومضيق هرمز. كما تتضاعف أهمية مضيق باب المندب باعتباره بوابة جنوبية للبحر الأحمر ذات الأهمية البالغة في النظام العالمي اليوم جغرافياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً، ولإسرائيل بصورة خاصة.
لذلك، فإن الحسابات الأمنية والعسكرية والتجارية والاقتصادية والسياسية، الدقيقة والمعقدة، الدولية والإقليمية، لكل المسائل المرتبطة بمضيق باب المندب والبحر الأحمر وخليج عدن، لا تتأسس على الأهمية الإستراتيجية متعددة الأبعاد لباب المندب كمضيق حيوي لحركة الملاحة البحرية الدولية، وكشريان حيوي يربط البحر الأحمر وخليج عدن مع المحيط الهندي، وبين آسيا مع أفريقيا وحسب، بل تستند كذلك إلى تجربة حية استُخدم فيها مضيق باب المندب كعامل حسم في معركة تاريخية ذات أهمية جيوسياسية استراتيجية خلال الحرب المصرية الإسرائيلية، التي حُسمت بانتصار مصر التاريخي على إسرائيل عام 1973، فقد أُغلق باب المندب بشكل كلي من 6 أكتوبر/ تشرين الأول 1973 حتى 1 نوفمبر/ تشرين الثاني من نفس العام، في وجه السفن البحرية المتجهة إلى إسرائيل عبر البحر الأحمر، في وقتٍ كانت فيه إسرائيل تستورد من إيران وحدها حينذاك نحو 18 مليون طن من النفط، كان يُنقل عبر مضيق باب المندب ومياه البحر الأحمر إلى ميناء إيلات الاستراتيجي جنوبي إسرائيل على الساحل الشمالي للبحر الأحمر.
ومن هنا، فإن الفزع الإسرائيلي والغربي المرتفع منذ زهاء نصف قرن من أي احتمالية لتكرار تجربة السادس من أكتوبر 1973، باستخدام باب المندب في أيٍ من مستويات الصراع المُحتمل نشوبها في المنطقة، يتأسس على الأهمية البالغة التي يمثلها مضيق باب المندب والبحر الأحمر بالنسبة للعالم عموماً، وبالنسبة لإسرائيل على وجه الخصوص، سواءً لجهة الجانب الاقتصادي، أم لجهة الجانب العسكري والأمني والجيوسياسي.
وعلى امتداد سنوات الصراع العشر في اليمن، لم تكن مسألة باب المندب أمراً ثانوياً وعرضياً بالنسبة للعديد من الفاعلين الدوليين والإقليميين والمحليين المُنخرطين بصورة مباشرة أو غير مباشرة في الصراع، بل كان مضيق باب المندب مسألة رئيسية حاضرة على الدوام لتوجيه دفة الصراع ومساراته، حيث عمد الفاعلون الدوليون والإقليميون إلى هندسة حدود دقيقة ومعقدة لخارطة الصراع في محافظة تعز، تبعاً لأهمية موقعها وحدودها الجغرافية والإدارية التي تُطل على أحد أهم الممرات المائية الدولية، متمثلاً بمضيق باب المندب ومجاله الجُغرافي على البحر الأحمر.
وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، قد أفصح عن تلك المخاوف بوضوح خلال عرض عسكري لضباط من البحرية الإسرائيلية في حيفا يوم الأربعاء 2 أغسطس/ آب 2018، أطلق فيها تهديدات صريحة توعد فيها إيران "بمواجهة عسكرية لتحالف دولي، سيشمل كل الأفرع العسكرية لإسرائيل، في حال حاولت إيران إغلاق مضيق باب المندب عبر حلفائها". من جانبه، أعلن قائد القيادة المركزية للقوات البحرية الأمريكية في الشرق الأوسط، جيم مالوي، من مقر الأسطول الخامس بالمنامة، يوم الخميس 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، إطلاق تحالف عسكري بحري بقيادة الولايات المتحدة لحماية الملاحة في منطقة الخليج، حيث تشمل منطقة المهمة البحرية -التي أطلق عليها اسم "سنتينال"- مياه الخليج مرورًا بمضيق هرمز نحو بحر عمان ووصولا إلى باب المندب والبحر الأحمر وخليج عدن. وقال مالوي إنّ الهدف هو "العمل معًا للخروج برد بحري دولي مشترك" على الهجمات ضد السفن. وقال "هدفنا دفاعي بحت، والتركيبة العملياتية تقوم على مبدأ التعامل مع التهديدات وليس التهديد"، وأضاف "ليس هناك من مخطط هجومي لجهودنا، باستثناء الالتزام بالدفاع عن بعضنا البعض في حال تعرّضنا لهجمات".
ومنذ التاسع عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، حولت جماعة أنصار الله (الحوثيين) تلك المخاوف الأمنية والعسكرية والاقتصادية والسياسية الإسرائيلية-الأمريكية إلى واقع، حيث شنت من مناطق سيطرتها الواسعة في اليمن، سلسلة من الهجمات العسكرية استهدفت سفن الملاحة المتجهة من وإلى الموانئ الإسرائيلية عبر مضيق باب المندب والبحر الأحمر وخليج عدن، رداً على الجرائم الإسرائيلية المروعة المرتكبة على نطاق واسع في قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة، بعد أكثر من شهر من اندلاع الحرب الإسرائيلية المروعة وتفاقم الأوضاع الإنسانية، وإحجام المجتمع الدولي عن مسؤوليات وقف الإبادة الجماعية للفلسطينيين، وغيرها من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، عقب هجوم واسع شنته الفصائل الفلسطينية على منطقة غلاف (مستعمرات) غزة، في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وأكدت الجماعة أن وقف هجماتها في البحر الأحمر مرهونٌ بوقف العمليات العسكرية الإسرائيلية واستئناف تدفق المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة.
ووسط مساعٍ إسرائيلية وأمريكية وغربية من أجل حصر الصراع بين إسرائيل وحماس في قطاع غزة، وعدم السماح بتوسيع الصراع إلى مدى إقليمي أوسع، لحماية إسرائيل أثناء عملياتها العسكرية وفظاعاتها المروعة ضد الفلسطينيين، شنّت القوات الأمريكية والبريطانية (في إطار ما سُمي بتحالف "حارس الازدهار" كقوة بحرية دولية، ابتداءً من مساء الخميس 11 يناير/ كانون الثاني 2024) سلسلةً من الضربات العسكرية في اليمن، بغرض مواجهة هجمات الحوثيين على سفن الملاحة المتجهة من وإلى إسرائيل عبر مياه البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن، إلا أن عمليات هذا التحالف ضد جماعة أنصار الله (الحوثيين)، أخفقت زهاء ثمانية أشهر عن وقف هجمات قوات الحوثيين أو الحد منها ومن تأثيراتها على إسرائيل، كما لم تنجح عمليات التحالف البريطاني الأمريكية في تأمين عبور السفن إلى الموانئ الإسرائيلية من خلال البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن؛ فقد أُجبرت تلك الهجمات الآلاف من السفن على إعادة توجيه مسارها، والالتفاف حول جنوب إفريقيا عبر رأس الرجاء الصالح، مما تسبب في إطالة المدة الزمنية لوصول السفن وزيادة التكاليف والأعباء المالية والاقتصادية على تلك السفن وعلى الشركات المالكة لها، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار الشحن والتأمين.
وخلافاً للكثير من التصريحات الإسرائيلية والأمريكية التي عمدت إلى التقليل من أثر هجمات جماعة أنصار الله (الحوثيين) على الوضع في إسرائيل، على امتداد أشهر من بدء الهجمات، فقد أسفرت عن توقف الحركة التجارية عبر باب المندب ومياه البحر الأحمر من وإلى ميناء إيلات الإسرائيلي، وأدت إلى توقف 85% من نشاط الميناء، في الثلاثة الأشهر الأولى منها، طبقاً لتصريح الرئيس التنفيذي للميناء، جدعون بورت، أدلى بها لوكالة رويترز في 21 ديسمبر/ كانون الأول 2023، قال فيها: "لسوء الحظ، إذا استمر الأمر فسنصل إلى وضع عدم وجود سفن في ميناء إيلات"، وصولاً إعلان جدعون في 16 يوليو/ تموز 2024، خلال تصريحات صحفية أدلى بها لوكالة رويترز، بعد زهاء ثمانية أشهر من بدء الهجمات الحوثية، عن توقف نشاط ميناء إيلات كلياً وإغلاقه تمامًا، في ظل عدم استجابة الحكومة الإسرائيلية لمطالب إدارة الميناء بالحصول على مساعدة مالية، نظراً لانقطاع دخل الميناء منذ بدء هجمات الجماعة اليمنية المتحالفة مع إيران وحركة حماس. وقال جدعون: "الميناء مغلق تمامًا، ولم يكن هناك نشاط في الميناء منذ ثمانية أشهر، بسبب فشل دول التحالف البريطاني الأمريكي في وقف الهجمات في مضيق باب المندب والبحر الأحمر؛ لم يكن لدينا أي دخل خلال الأشهر الماضية، وقد حان الوقت لكي تضع الحكومة يدها في جيبها وتفهم أنه يجب مساعدة الميناء المغلق". وأكد جدعون أنه: "يجب الاعتراف أن الميناء في حالة إفلاس، وبأن سفينة واحدة فقط وصلت إلى الميناء في الأشهر الأخيرة، وأن اليمنيين قد أوقفوا فعلياً الحركة من وإلى الميناء". ووفقاً لصحيفة "ذامدلاين"، فقد أكد مسؤول إسرائيلي كبير "أن ميناء إيلات الإسرائيلي أعلن رسمياً إفلاسه بسبب الانخفاض الحاد في الأنشطة التجارية والإيرادات بسبب الحصار البحري الذي يفرضه الحوثيون في اليمن على سفن الشحن المرتبطة بإسرائيل منذ نوفمبر الماضي"، وسط أعباء مالية واقتصادية متصاعدة تواجهها الحكومة الإسرائيلية بسبب الحرب التي تشنها في قطاع غزة، بالإضافة إلى العديد من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاجتماعية العاصفة التي تواجهها حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية، على المستوى الداخلي والإقليمي والدولي.
يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.