على امتداد شهورِ عام الانتخابات الأمريكية التي تُجرى رأس كل أربع سنوات، تتجه الكثير من الأنظار حول العالم لمتابعة مُجريات السباق الانتخابي بين الحزب الجمهوري الذي يمثل اليمين المُحافظ، والحزب الديموقراطي الذي يُمثل نظرياً الاتجاهات المُقابلة، حيث لا زالت الانتخابات الأمريكية تتصدر السباقات الانتخابية في مختلف أنحاء العالم؛ لجهة الاهتمام العالي وعلى نطاق دولي واسع من خارج حدودها، من قبل حلفائِها وخصوما على حدٍ سواء، نظراً لموقع الولايات المتحدة الأمريكية المركزي في السياسات الدولية، ونظراً لانعكاسات نتائج تلك الانتخابات على أوضاع الكثير من البلدان الداخلية، وعلى الأوضاع الإقليمية والدولية، حتى وقد باتت تشهد في أواخر سنوات الربع الأول من القرن العشرين أسوأ مراحل انحسار نفوذها في الساحة الدولية منذُ فرضتْ تسيُّدها على نظام القُطب الواحد، الذي قام على أنقاض نظام القطبين بعد عقود من الحرب الباردة مع الإتحاد السوفيتي، والذي أعلن تفككه رسمياً في 26 ديسمبر/ كانون الأول 1991.
وكثيراً ما تتنوع جوانب وزوايا الاهتمام الدولي الواسع بالبرامج والوعود والالتزامات الانتخابية المتنافسة في الانتخابات الأمريكية، من السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الدول الحليفة وغير الحليفة، وتجاه الأقاليم والتكتلات والمحاور على المستوى الإقليمي والدولي، الصديقة والمعادية، مروراً بخصائص نظامِ الديموقراطية الأمريكي، والنظام الانتخابي، ونظام الحزبين، والحوكمة، وتفاصيل نظام الغرفتين (الكونجرس ومجلس النواب)، ونِسب الأصوات، ونظام المُجمع الانتخابي، وحصص المتنافسين من حكام الولايات، واستطلاعات الرأي، ومؤتمرات الحزبين، والانتخابات الداخلية التمهيدية، وصولاً إلى حملات الدعاية الضخمة التي تشمل كل شاردة وواردة تتعلق بالمرشحين المتنافسين، ومهرجاناتها، والمناظرات بينهم، ومواقفهم، وسير حياتهم، والنواب المُختارين للرئيس الفائز، وانتهاءً بمراسيم تنصيب الرئيس الفائز لولاية رئاسية لأربع سنوات كاملة.
وغير بعيد من جوانب الاهتمام الدولي بالسباقات الانتخابية الأمريكية، تستعرض هذه الورقة جُملةً من العناوين ذات الصلة بالسياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط عموماً، وباليمن بصورة خاصة، بالإضافة إلى قدر محدود من العناوين الأمريكية والدولية والإقليمية ذات الصلة بالمضامين الرئيسية التي تناقشها هذه المُقاربة.
مؤتمر الحزب الديموقراطي
على طريق السباق الانتخابي المحموم بين (هاريس) الديموقراطية و (ترامب) الجمهوري، عقد الحزب الديموقراطي (الحاكم)، في الولايات المتحدة الأمريكية، مؤتمره الوطني، خلال الفترة من 19 إلى 22 أغسطس/ آب 2024، في (مركز يونايتد)، في مدينة شيكاغو الأميركية، تحت شعار "من أجل الشعب، من أجل مستقبلنا"، بمشاركة نحو 4 آلاف مندوب، وحضور 15 ألفًا من العاملين في وسائل الإعلام المختلفة، وأكثر من 50 ألف زائر، حيث سيتم استعراض أجندة الحزب الديموقراطي، لانتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني 2024.
وشهد المؤتمر، مراسيم إعلان الحزب الديموقراطي، رسمياً، ترشيح كامالا هاريس (60 عام)، نائبة الرئيس (بايدن)، كمُرشحة منافسة للجمهوري (دونالد ترامب)، على منصب الرئيس، ومرشحها لمنصب نائب الرئيس، تيم والز، حاكم مينيسوتا، حيث ستصادق اللجنة الوطنية الديمقراطية على الترشيح، وستقوم هاريس بقبول الترشيح رسميًا بنهاية فعاليات المؤتمر، حيثُ سبق وأن فازت #هاريس بالترشيح، خلال عملية تصويت افتراضية لمندوبي الحزب وقادته، أوائل أغسطس/ آب، قبل الموعد النهائي لتصديق بطاقات الاقتراع في ولاية أوهايو، عقب انسحاب الرئيس (بايدن) من السباق وتأييده لهاريس لتحل محله في بطاقة الانتخابات أواخر يوليو/ تموز.
وخلال أعمال المؤتمر، قامت هاريس ووالز -إلى جانب قادة ديمقراطيين رئيسين- بتوضيح رؤيتهم السياسية للأعوام الأربعة المقبلة بشكل أكبر، بما في ذلك مواقفهم بشأن ارتفاع الأسعار وتوسيع الائتمان الضريبي للأطفال، حيثُ حاول الديمقراطيون تقديم أنفسهم ككتلة موحدة خلف هاريس ووالز، بعد الانقسامات التي ظهرت داخل الحزب بشأن حملة بايدن الرئاسية في يوليو/ تموز، عقب أدائه الضعيف في المناظرة أمام الرئيس السابق دونالد ترامب.
كما استعرض الديمقراطيون إنجازات إدارة بايدن - هاريس. وستقوم حملة هاريس أيضًا بمقارنة برامجها وخططها لضمان تحقيق مصلحة الشعب الأميركي وحرياتهم ومستقبلهم مع برامج وخطط المرشح المنافس: الجمهوري (دونالد ترامب)، ومرشحه لمنصب نائب الرئيس، جي دي فانس، السيناتور عن ولاية أوهايو.
وكان الحزب الجمهوري قد عقد مؤتمره الوطني، خلال الفترة من 15 إلى 18 يوليو/ تموز 2024، في مجمع رياضي كبير وحديث، تم تزيينه بألوان العلم الأمريكي وبصور كبيرة لترامب المجروح، في مدينة (ميلووكي)، في شمالي شرق الولايات المتحدة، بمشاركة 2400 مندوب، وحضور 50000 ألف زائر، حيث انعقدت أعمال المؤتمر وسط إجراءات أمنية مشددة بعد يومين فقط من حادث محاولة الاغتيال الخطير الذي كاد أن يودي بحياة الرئيس الـ 45 للولايات المتحدة الأمريكية (دونالد ترامب)، خلال مهرجان انتخابي في ولاية بنسيلفانيا في 14 يوليو/ تموز 2024، إذ أصيب بطرف أذنه اليمنى، بعد أن أطلق شاب أبيض عمره 20 عامًا النار عليه، ولقي شخص كان ضمن الحشد حتفه وأصيب اثنان آخران، قبل أن يقتل أفراد من جهاز الخدمة السرية المشتبه به بالرصاص، وعززت قوات الأمن تواجدها في المدينة التي استضافت أعمال المؤتمر بمشاركة ما يقارب 4500 شرطي، للحيلولة دون تكرار سيناريو مشابه لحادثة الاغتيال، الذي قال الحزب الجمهوري إنها ناتجة عن استخدام الحزب الديمقراطي (خطاب تحريضي) ضد مرشحه دونالد ترامب.
وفي اليوم الأول للمؤتمر، أقر الحزب الجمهوري ترشيح الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب (78 عامًا)، رسميًا، لخوض غمار الانتخابات الرئاسية المقبلة، وحمل اليوم الأول من المؤتمر في طياته رسائل سياسية متعددة، من محاولات تقديم ترامب كزعيم صلب وملهم إلى إعادة رسم الخريطة الانتخابية للحزب الذي أظهر مساعي واضحة لاستقطاب فئات جديدة من الناخبين، بما في ذلك العمال النقابيين والناخبين السود والشباب، كما ناقش الحزب خلال المؤتمر، ملفا الأمن والهجرة غير الشرعية والقدرة الشرائية المتدنية للمواطنين الأمريكيين، إضافة إلى ملف مكافحة الجريمة والعنف الأمني الذي كاد أن يؤدي بحياة دونالد ترامب نفسه.
وعمد الحزب الجمهوري إلى توظيف محاولة اغتيال دونالد ترامب الفاشلة، من أجل كسب دعم أكبر من قبل الأمريكيين، فيما توقعت شركات مختصة في استطلاعات الرأي ارتفاع شعبية دونالد ترامب بشكل كبير في حملته الانتخابية، التي تعمل على تعزيز حضور صورة دونالد ترامب رافعًا قبضته فيما الدماء تغطي أذنه، كأنه يقول لمناصريه وللعالم أجمع إنه لا يزال حيًا وسيواصل المسيرة حتى النصر، مهما كانت العراقيل السياسية والعقبات القضائية في أذهان أنصار الحزب الجمهوري والناخبين الأمريكيين عموماً.
وفي ختام أعمال المؤتمر، ألقى ترامب -الذي يطمح إلى الفوز بولاية رئاسية ثانية، ليكون الرئيس الـ 47 للولايات المتحدة- خطاباً أعلن فيه قبول الترشيح الرسمي للانتخابات الرئاسية، وقدم إجابته على السؤال الأهم؛ حيث أعلن عن ترشيح السيناتور جيه دي فانس (جمهوري من ولاية أوهايو) كنائب له، كما أعلنت اللجنة المُنظمة للمؤتمر، أنها جمعت ما يزيد عن 85 مليون دولار لصالح حملة (ترامب) الانتخابية.
وبالرغم من كل ألاعيب الحزب الديموقراطي (القذرة)، الرامية إلى إبعاد (دونالد ترامب) عن منافسة الرئيس (جو بايدن)، سواءً من خلال المحاكم، وانتهاءً بحملة التحريض غير المسبوقة ضد شخص (ترامب)، والتي أفضت إلى محاولة الاغتيال الفاشلة، أم من خلال حملات التشهير، إلا أنها قد أدت إلى نتائج عكسية كُلياً؛ لجهة بقاء (ترامب) مرشحاً قوياً، ولجهة تصاعد نسب تأييديه، ولجهة تدني نسبة تأييد مرشح الحزب الديموقراطي (جو بايدن)، الذي ظهر فاقداً للأهلية في مناظرته اليتيمة مع (ترامب)، قبل أن تجبره الضغوط إلى إعلان عدم ترشحه لصالح نائبته (كامالا هاريس)، كمحاولة من الحزب الديموقراطي لتقليص الفارق الهائل الذي وسعه ضعف بايدن وإدارته، وسط مخاوفه من تكرار سيناريو انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني 2016.
محددات وموجهات سياقية
على محدودية الفوارق بين سياسات الإدارات الجمهورية وسياسات الإدارات الديموقراطية الخارجية عموماً في منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص، فإننا سنركز في هذا التناول على مقاربة جانب من عناوين السياسة الخارجية للإدارات الأمريكية، تجاه الشرق الأوسط بصورة عامة، وتجاه اليمن بصفة خاصة، حيث تظل الولايات المتحدة الأميركية، أبرز الفاعلين الدوليين الأكثر نفوذًا في منطقة الشرق الأوسط، في ظل مساعيها الدائمة لضمان استمرار مصالحها الجيوسياسية وعلاقاتها الدائمة مع العديد من دول المنطقة، والذي ستعمل أي إدارة أميركية جديدة، سواءً أكانت ديموقراطية أم جمهورية، على تعزيز حضورها السياسي والاقتصادي والعسكري في المنطقة، في ظل تصاعد التنافس، على المستوى الدولي مع كلٍ من الصين وروسيا.
وعلى مدى أربع سنوات قضتها (كامالا هاريس) في البيت الأبيض، كنائبة للرئيس (بايدن)، اتبعت خلالها سياسات الرئيس والحزب الديموقراطي، ومن المرجح أن تنتهج مُستقبلاً، في حال فوزها بالرئاسة، سياسة (إدارة بايدن) أيضاً، والتي تمثل استمراراً لسياسة (إدارة أوباما)، في ظل توارث ذات المجموعة الديمقراطية المعهودة من المستشارين والمسؤولين عن السياسة الخارجية، ممن خدموا مع (بايدن) و (أوباما)، ولذلك، فإن محاولة فهم وتتبع السياسة الخارجية المستقبلية تستوجب مُراجعة أبرز عناوين السياسية الأمريكية في الشرق الأوسط، للإدارات التي تعاقبت على (البيت الأبيض) على امتداد سنواتِ عقدِ ونصف ماضية.
وفي السياق الأوسع للوضع في الشرق الأوسط، يتَمثَّل أبرزُ الفاعلين الإقليميين عسكرياً وأمنياً وسياسياً واقتصادياً (في مُجمل تطورات ومسارات الحرب والسلام والاستقرار في عموم منطقة الشرق الأوسط) في المملكة العربية السعودية وإيران وحلفائها في (اليمن وفلسطين وسوريا ولبنان والعراق)، وتركيا وإسرائيل، فيما يتمثل أبرزُ الفاعلين الدوليين في الولايات المتحدة والصين وروسيا.
اللوبيَّات الداعمة لإسرائيل في واشنطن
بفعل تأثيرات نفوذ اللوبيات الداعمة لإسرائيل على سياسيات الولايات المتحدة الأمريكية، كإحدى السمات الرئيسية الثابتة المُشتركة بين الحزب الديموقراطي والحزب الجمهوري، فقد تسابَقَ قادةُ الحزبين، على مدى عقود طويلة، وعلى مدى زهاء عام كامل من الحرب في قطاع غزة، على تقديم كافة أشكال الدعم لإسرائيل، استرضاءً لمزاج اللوبيَّات الداعمة لإسرائيل، والتي تفرض على جميع الفاعلين مراعاة مزاجها واتجاهاتها ومصالحها، على المستوى المحلي وعلى المستوى الدولي، خلافاً لقاعدةٍ عريضة من المسلمين والعرب ومن أتباع ديانات أخرى، من المساندين لحقوق الفلسطينيين وقضاياهم، ككتلة هشة غير متماسكة وغير مُنظمة، شجّعت جميع الفاعلين على عدم مراعاة مصالحها واتجاهاتها ورضاها ومزاجها في كل الاستحقاقات والاختبارات الداخلية والخارجية.
لذلك، فإن سياسات الولايات المتحدة الأمريكية تجاه إسرائيل، لم يعد لها صلة بحسابات مصالح الدولة الأمريكية، ولا بالتحالفات السياسية والأمنية والعسكرية بين الدول، ولا بالسياسة، ولا بالبراجماتية، ولا بأيٍ من المناهج العلمية الحديثة التي تحتكم إليها تعريفات ومقاربات وتكتيكات مسائل سياسة الدول، الداخلية منها والخارجية، ولا صلة لها بمضامين ومحددات العلاقات الدولية، والتزامات وأهداف التحالفات والشراكات الاستراتيجية بين الدول والمحاور والتكتلات الإقليمية والدولية، وإنما كانت محض إذعان مُطلق؛ تُستلب فيه قوة ونفوذ وعلاقات وهيمنة وأجهزة ومؤسسات وموارد دولة بحجم الولايات المتحدة الأمريكية، وتحرق فيه مراكب هذه الدولة مع الكثير من المجتمعات حول العالم، من أجل خدمة إرهاب وإجرام حكومة يمينية متطرفة، تقود دولة غارقة في الدم والجور والاحتلال والاستيطان والتهجير تُسمى "إسرائيل."
وإذا ما استبعدنا إحالة ذلك الإذعان الأمريكي لإسرائيل ولوبياتها ومصالحها وحروبها إلى حالةٍ مُفترضة من "التعصب الأعمى" القائم على أساس ديني وعقائدي، أو على أساس عِرقي، أو على أي أساس عنصري آخر، بوصفه مسلكًا بدائيًا وغير إنساني، مُتخلفًا وغير مُتحضر-إذا استبعدنا ذلك، فإن أقرب التفسيرات وأكثرها وجاهة وواقعية يتأسس على إحالة ذلك الوضع الأمريكي غير الطبيعي وغير الاعتيادي، إلى حسابات النخب السياسية الأمريكية الانتخابية، والتي تتبارى لتقديم قرابينها في مزادات كسب رضا اللوبيات الإسرائيلية المؤثرة على مسار الانتخابات التمهيدية داخل أروقة ودهاليز الحزبين، وعلى مسارات ونتائج السباقات الانتخابية على كرسي رئاسة البيت الأبيض، وعلى نسب مقاعد مجلس النواب والكونجرس، وعلى حكم الولايات، وتقف على رأس تلك اللوبيات لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (آيباك)، التي لا تجد في أنشطتها وأدوارها الرامية للتأثير على مسارات ونتائج الانتخابات الأمريكية، وعلى سياسات الإدارات الأمريكية، ما يستحق المواراة والإخفاء؛ فتبادر بالنشر علنًا عبر موقعها الإلكتروني وحساباتها وصفحاتها الرسمية على شبكات ومنصات التواصل الاجتماعي عن أنشطتها وأدوارها المؤثرة.
في 15 مايو/ آيار 2024، نشرت (آيباك) على حسابها الرسمي في تويتر تغريدةً احتفائية بهزيمة المرشحة الديموقراطية، سارة الفريث، في الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الديموقراطي، بصفتها مرشحة مدعومة من السيناتور بيرني ساندر. بالطبع، كل من الفريث وساندر مصنفان من قبل "آيباك" أنهما غير مؤيدين لإسرائيل، وقد سبق أن نشرت قبلها بأيام تهنئة استعراضية لسبعة مُرشحين صنفتهم أنهم ديموقراطيون مؤيدون لإسرائيل بفوزهم جميعًا. هؤلاء فازوا بعد دعم "آيباك" لهم على جميع منافسيهم من المرشحين الديموقراطيين "غير المؤيدين لإسرائيل،" في الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الديموقراطي، وهي أنشطة وأدوار تديرها وتوجهها مصالح دولة أخرى في أدنى الشرق، للتأثير على المجال السياسي الداخلي لدولة أُخرى في أقصى الغرب، وهي ممارسات تحظرها وتُجرمها وتُدينها جميع الدول.
الحرب الإسرائيلية الأمريكية في قطاع غزة
لقد وجد بايدن ووزير خارجيته، ومعهم أوباما وجوقة الحزب الديمقراطي (حمائم واشنطن)، في الحرب الإسرائيلية التي أعقبت هجوم الفصائل الفلسطينية على المستوطنات الإسرائيلية في منطقة غلاف غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، فرصة سانحة لإطلاق حملة انتخابية مُبكرة، بدأت بضخ ثمانية مليار دولار في اليوم الأول للعمليات العسكرية في فلسطين، لتملق مزاج اللوبي اليهودي، المُنظم والمتماسك والفاعل والمؤثر في الانتخابات الأمريكية، ابتداءً من تغطية تمويلات الحملات الانتخابية، ووسائل الإعلام، والمؤسسات والمراكز الموجهة للرأي العام، وانتهاءً بالتأثير على حصة وازنة وحاسمة من الهيئة الناخبة، بعد أن كانت العلاقات الأمريكية الإسرائيلية قد بلغت أسوأ مراحل تدهورها في ظل إدارة بايدن، طبقاً لمقالة توماس فريدمان، المنشورة في نيويورك تايمز في يوليو/ تموز 2023، حول إشكاليات حكومة نتنياهو الداخلية.
وما كانت إدارة بايدن الديموقراطية لتظهر بتلك الصورة الفجة والمبتذلة والمتهافتة والمتملقة، لولا تزامن هذه الجولة من التصعيد في فلسطين مع التحضيرات للحملة الدعائية للانتخابات الرئاسية الأمريكية المُزمع إجراؤها في 5 نوفمبر 2024، في ظل احتدام الصراع بين مراكز القوى الرئيسية، متمثلة بالحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري، في ظِل تدني مستوى شعبية الحزب بصورة تثير فزع الحزب الديمقراطي من الاحتمالات العالية لعودة دونالد ترامب - الرئيس السابق؛ ولذلك وجدت جوقة الديمقراطيين في جولة الصراع الدامية في فلسطين فرصةً ثمينة لتعزيز فرص بقائها في البيت الأبيض، للفترة الرئاسية المقبلة (2025-2029).
مساء الجمعة، 18 مايو/ آيار 2024، نشر موقع ميدل إيست آي، تقريرًا جديدًا تضمن نقد أحد المسؤولين السابقين في جهاز المخابرات الأمريكية (سي آي أيه)، لتأخر إدارة بايدن عن تعقب آخر موقع معروف لقائد حماس في غزة يحيى السنوار لمدة شهر تقريبًا. وأهم ما كشفه التقرير والمعلومات الواردة فيه، من وجهة نظري، يتمثل بإفصاحه عن أحد الأدوار الخطيرة -غير المرئية- التي تلعبها الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، باعتبار أمريكا طرفًا أساسيًا مُشاركا مع إسرائيل في مسرح العمليات الحربية، وفي الجرائم والفظاعات التي تُطال حياة مئات الآلاف من الفلسطينيين دون تمييز، وهو دليل إضافي على أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست مجرد حليف لإسرائيل، وليست مجرد داعم وممول لها، وليست مُجرد مُزِّود بالأسلحة، وليست مجرد مُساند من خلال الجهود الدبلوماسية المساندة لإسرائيل والمدافعة عنها في كافة المحافل الدولية.
وغير مرة أكد مستشار الأمن القومي الأمريكي وكبار المسؤولين الأمريكيين في البنتاجون والخارجية والبيت الأبيض، على أهداف الحرب المشتركة بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو في كل الأحاديث العلنية التي أدلوا بها بالتزامن مع كل خلاف، جزئي وعرضي وهامشي، لم يُفسد بتاتًا للود والشراكة بين الجانبين قضية، رغم طوفان الفظاعات الإسرائيلية التي قتلت منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول وحتى الآن، ما يزيد عن أربعين ألف فلسطيني، وجرحت ما يزيد عن خمسة وسبعين ألف آخرين، ورغم قتل إسرائيل لأكثر من 130 صحفيًا، ورغم تدميرها للأغلب الأعم من الأعيان المدنية الفلسطينية في قطاع غزة، بما في ذلك المستشفيات والمرافق والطواقم الطبية، والمدارس، ومقرات وسائل الإعلام، ودور العبادة، والمباني السكنية، والملاجئ، ومخيمات النزوح، ومقرات المنظمات الإنسانية، ورغم الهجمات الإسرائيلية على طواقم العمل الإنساني والإغاثي، وعربات نقل المساعدات والسلع الأساسية، ومرافق البنية التحتية المدنية ومنعها وصولَ المساعدات الإنسانية، واستخدام هذه المساعدات سلاحَ حرب لتجويع الفلسطينيين، وتورطها بارتكاب جرائم إبادة جماعية على الشعب الفلسطيني، وحماية السلطات الإسرائيلية لممارسات المستوطنين العنيفة ضد الفلسطينيين على نطاق واسع من مناطق الضفة الغربية والجليل، واستيلائها على مساحات واسعة من أراضي ومزارع الفلسطينيين، واحتجازها تعسفيًا آلاف الفلسطينيين، واستخدامها للتعذيب وسوء المعاملة وضروب من المعاملة اللاإنسانية والمهينة ضد المئات منهم، في إطار أنماط من الانتهاكات المنهجية الهادفة إلى تهجير الفلسطينيين قسرًا عن موطنهم، والتي ترتكبها إسرائيل بالشراكة الكاملة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتحت غطاء من الحماية الأمريكية المُتكفلة بمهمة تعطيل كافة الآليات الدولية ومنعها عن القيام بأي تحرك لوقف تلك الانتهاكات وأي شكل من أشكال المساءلة عن ارتكابها.
على مدى عقود طويلة، سخرت النخبة الأميركية الحاكمة كافة الأجهزة والمؤسسات والموارد والعلاقات والقيادات لخدمة حروب إسرائيل وجرائمها، وتتماهى بصورة كلية مع المغامرات الخطيرة لقادتها المتطرفين، إلى الدرجة التي عمد فيها القادة الأميركيون لاختيار التضحية بسمعة أميركا وعلاقاتها ومصالحها من أجل الوقوف مع إسرائيل ودعم جرائمها وحربها، ماليًا وعسكريًا ولوجستيًا وسياسيًا ودبلوماسيًا أمام مجلس الأمن الدولي ومجلس حقوق الإنسان وآليات الأمم المتحدة، وفي وجه محكمة الجنايات الدولية، وفي وجه محكمة العدل الدولية، وفي وجه كل المحاولات الدبلوماسية السامية الرامية لضمان الحد الأدنى من حقوق الفلسطينيين.
ميراث ثقيل من جهود تقويض حقوق الفلسطينيين
ابتداءً من وعد بلفور، وصك الانتداب، والنكبة، وإعلان قيام دولة إسرائيل 1948، مرورًا بالقرارات الدولية، وعلى رأسها قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242، الصادر بتصويت أعضائه الـ 15 في 22 نوفمبر 1967، وإلى كل مرجعيات حل الدولتين، بحدود 67، واتفاق واي بلانتيشن، واتفاقية أوسلو، الموقعة في 13 سبتمبر/ أيلول 1993، ومفاوضات بازل، وكامب ديفيد، وخارطة الطريق المُعلنة في 30 أبريل/ نيسان 2003، والهادفة لإنجاز تسوية نهائية وشاملة للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني بحلول عام 2005، وإلى تراكم ثقيل من إخفاقات جهود عملية السلام عن تحقيق الحد الأدنى من المكاسب لناحية الحقوق المشروعة للفلسطينيين، رغم التنازلات الكبيرة التي قدّمها مرارًا قادة منظمة التحرير الفلسطينية، وانتهاءً بالمبادرة العربية وموجة التطبيع الأحدث، ضمن تفاهمات ما عُرف بـ"صفقة القرن" سيئة الصيت والمآلات والنتائج، فإن إسرائيل قد واصلت مسيرتها العدوانية، ككيان احتلال، تحت غطاء أمريكي عمد إلى الاستفراد برعاية عملية السلام، بصورة قوّضت حقوق الفلسطينيين، ووسّعت دائرة الاستيطـان، وعقّدت الصراع وفاقمت ملفاته، من اللاجئين والنازحين، والأسرى، وحق العودة، وواصلت استفزازاتها في الـقدس، وقطعت المياه والخدمات، واستهدفت فلسطيني 1948، وراكمت سجلًّا حافلًا من الانتهاكات والمظالم وممارسات التنكيل والإذلال ضدًّا على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وميثاق الأمم المتحدة، والقانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وكافة الصكوك والمواثيق الدولية.
وعلى الرغم من أن (ترامب)، حث نتنياهو علناً على إنهاء الحرب الجارية في قطاع غزة، في إطار حرصه على تجنب صراعات الشرق الأوسط، إلا أن المُرشح الجمهوري (دونالد ترامب)، قد نأى بنفسه -حتى الآن- عن تقديم أي التزام بحل الدولتين، في حين أنه قد دعم (إسرائيل) بقوة، وعمد إلى خفض مستوى العلاقات مع الفلسطينيين خلال فترته الرئاسية (2017 - 2020)، والمرجح أن يواصل في حال فوزه دعمه القوي لإسرائيل، وأن تتماشى سياسته مع ما تفضله إسرائيل لمستقبل غزة والضفة الغربية بعد الحرب، وأن يستمر في دعم التيار اليميني في إسرائيل وتقويته.
ورغم أن كامالا هاريس، أظهرت تعاطفاً حذراً ومحدوداً مع الفلسطينيين، إلا أنها قد عمدت في الوقت عينه إلى الغموض بشأن موقفها من حل الدولتين، تحاشيًا للعنات اللوبيات اليهودية، ومع ذلك، ففي سياسة (إدارة بايدن)، التي عملت (هاريس) في إطارها، وقبلها سياسة (أوباما)، بالإضافة إلى تراكم طويل من التجارب المُخيبة مع الإدارات الأمريكية (الديموقراطية)، الكثير من الحقائق والوقائع الدالة على تطابق أدوار الحزبين الديموقراطي و الجمهوري اللذين تناوبا زهاء سبعة عقود على مهمة تقويض حقوق الشعب الفلسطيني، في ظل محدودية وهامشية الأصوات الأمريكية المساندة لحقوق الشعب الفلسطيني، وعلى رأسها حل الدولتين على حدود 67، طبقاً للقرارات الدولية.
العلاقات مع السعودية ودول الخليج
بسبب الفوائد الاقتصادية والجيوسياسية للولايات المتحدة الأمريكية من علاقاتها الوطيدة مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج، ستواصل الإدارة الأمريكية المقبلة العمل على توطيد العلاقات مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج في مجالات الدِفاع والأمن والطاقة والاستثمار والتكنولوجيا، ومن المرجح أن تواصل الإدارة الأمريكية المُقبلة جهودها الرامية إلى إبرام اتفاقيات دفاعية ونووية مع المملكة العربية السعودية بصفة خاصة، بعد استئناف المفاوضات عقب انتخابات 2024، الخاصة باتفاقية الدفاع المشترك المتعثرة وسط تفاعلات (عام الانتخابات)، حيث يتطلب تمريرها كمعاهدة في مجلس الشيوخ موافقة ثلثي أعضائه، وهو ما يعني حاجة الحزب الحاكم الفائز في انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، لضمان دعم أعضائه، مع تأمين عدد إضافي من أعضاء كُتلة (الحزب الخاسر) في مجلس الشيوخ، والتي ستُمثل دفعة قوية في سبيل إنجاز صفقة ثلاثية بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وإسرائيل، في إطار الجهود الرامية إلى توسيع دائرة التطبيع مع إسرائيل، من خلال زيادة عدد الدول المُلحقة بـ(اتفاقات أبراهام) الرامية لتأمين وتطبيع وجود ومستقبل (إسرائيل) غير الطبيعي في المنطقة.
إيران وبرنامجها النووي وحلفاؤها
على امتداد عقود ظلت احتمالية قرب امتلاك (إيران) أسلحة نووية مسألة مثيرة لقلق الولايات المتحدة الامريكية وإسرائيل والغرب، ولعدد من دول الشرق الأوسط، وبعد سلسلة طويلة من المفاوضات مع القوى الغربية وإدارة أوباما (الديموقراطية)، أُعلن توقيع الاتفاق النووي الإيراني بين (مجموعة 5 + 1)، الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وهي الولايات المتحدة وروسيا والصين والمملكة المتحدة وفرنسا بالإضافة إلى ألمانيا، من جهة، وبين إيران، من جهة ثانية، والذي دخل حيز التنفيذ في يناير/ كانون الثاني 2016، والذي كان له انعكاسات مُتعددة الأبعاد على التفاعلات القُطرية والإقليمية والدولية، إلا أن الرئيس الأمريكي السابق (الجمهوري) دونالد ترامب، أعلن في العام 2018 انسحاب أمريكا من الاتفاق النووي، وإعادة فرض عقوبات مُشددة على طهران، في إطار سياسة ممارسة أقصى درجات الضغط، ما أدى إلى خفض مبيعات (إيران) النفطية وألحق أضراراً بالغة باقتصادها.
لذا، فإن من المرجح أن يواصل الحزب الفائز بالانتخابات سياسات إداراته السابقة مع الملف النووي الإيراني، مع أخذ جُملة من التطورات بعين الاعتبار، أبرزها: الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية، وتصاعد النفوذ الإيراني في المنطقة، وتزايد قوة التشكيلات الحليفة لإيران، بالإضافة إلى أبعاد ودلالات هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وميراث حرب غزة، ومآلات التصعيد في البحر الأحمر، ودخول جماعة أنصار الله (الحوثيين) كفاعل جديد في الصراع الإقليمي، ودخول عنصر (المُسيرات الهجومية) في معادلات الردع، بالإضافة إلى متطلبات التعامل مع التشكيلات والفصائل المسلحة المُتحالفة مع (إيران) مثل: حركة حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى، وحزب الله وجماعة الحوثيين والتشكيلات العراقية، بالإضافة إلى نظام الأسد.
مواجهة النفوذ الصيني المتصاعد
في مقاربتهم لكل ما يمت للصين بصلة، تكاد تتطابق وجهات نظر حمائم وصقور الجمهوريين والديموقراطيين، ويمكن إدراك ذلك من خلال تتبع السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الصين لآخر ثلاثة رؤساء: أوباما، ترامب، بايدن، من خلال عدة ملفات رئيسية، منها: ملف العقوبات، وملف تايوان، وملف تقنيات الاتصالات الصينية، وملف طريق الحرير، وهي عناوين تُعرف بدقة موجهات تعامل الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأمريكية، مع الصين، وتصاعد نفوذها، وإنْ بوسائل الاقتصاد، كأخطر تهديد دولي استراتيجي.
ولذا، فإن مواجهة النفوذ الصيني المتصاعد في المنطقة، على حساب حصة الولايات المتحدة الأمريكية، يُمثل أولوية قصوى، تتصدر سُلم أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، بعد أن بلغ ذروته خلال سنوات إدارة بايدن، مع انعقاد القمة العربية الصينية، وانعقاد القمة السعودية الصينية، وُقعت خلالها عدد من اتفاقيات التعاون المشترك بين البلدين؛ فقد تخطى حجم التبادل التجاري بين البلدين حاجز 100 مليار دولار في عام 2023، كأهم شريك في الشرق الأوسط للصين، مروراً بإعلان انضمام السعودية إلى مجموعة البريكس، التي باتت تمتلك حصة وازنة من حجم الاقتصاد العالمي، وصولاً إلى الإعلان المفاجئ بتوقيع الاتفاق السعودي الإيراني بوساطة صينية، وما تلاه من خطواتٍ على رأسها إعلان فتحُ السفارات المُغلقة منذ سنوات، في الرياض وطهران، وانتهاء برعاية الصين حواراً فلسطينياً- فلسطينياً، توج بتوقيع 14 فصيلاً فلسطينياً، بينها حركتي فتح وحماس، أواخر يوليو/ تموز 2024، على إنهاء الانقسام وتعزيز الوحدة الفلسطينية، بعد نحو 17 عاماً من الخلافات.
السياسة الأمريكية تجاه اليمن
على مدى سنوات طويلة من حكم الرئيس السابق (علي عبدالله صالح) لليمن، هيمنت مسائل جهود مكافحة الإرهاب على العلاقات اليمنية الأمريكية، حيث تركز الأغلب الأعم من الدعم الأمريكي المُخصص لليمن في دعم المؤسسات والأجهزة العسكرية والأمنية لنظام (صالح) المُنخرطة في عمليات مكافحة الإرهاب، مثل وحدات الحرس الجمهوري والقوات الخاصة، ووحدة مكافحة الإرهاب في قوات الأمن المركزي، وجهاز الأمن القومي، بالتوازي مع فتح أجواء اليمن لعمليات الطائرات بدون طيار الأمريكية ضد عناصر تنظيم القاعدة في مختلف مناطق اليمن، مع تقديم دعم محدود للغاية لتعزيز تجربة ديموقراطية اليمن الناشئة، من خلال دعم الانتخابات والمجتمع المدني وحرية الصحافة وحقوق الإنسان والأحزاب وجهود تمكين المرأة.
عهد إدارة باراك أوباما الديموقراطية
خلال فترتين رئاسيتين للديمقراطي (باراك أوباما)، من 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 2008 حتى 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، شهدت اليمن جُملة من التطورات والأحداث المُتسارعة، أبرزها: تفاقم الأزمة السياسية بين الحزب الحاكم وتكتل المُعارضة في العام 2010، واندلاع الاحتجاجات الشعبية ضد الرئيس صالح مطلع العام 2011، في إطار ما عُرف بثورات الربيع العربي، مروراً بتوقيع الأطراف السياسية اليمنية في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، في قصر اليمامة بالرياض، المبادرة الخليجية (السعودية) وآليتها التنفيذية المُزمنة، الموقعة بين حزب المؤتمر الشعبي العام (الحاكم) وحلفائه من جهة، وتكتل اللقاء المشترك (المُعارض) وشركائه من جهة أخرى، تحت رعاية الملك عبدالله بن عبدالعزيز، ملك السعودية، والتي هدفت إلى إنجاز تسوية سياسية تضمن طبقاً لديباجتها وبنودها ومضامينها: الحفاظ على وحدة اليمن وأمنه واستقراره، وتلبية طموحات الشعب اليمني في التغيير والإصلاح، وضمان انتقال السلطة بطريقة سلسة وآمنة تُجنِّب اليمن الانزلاق إلى الفوضى والعنف، في إطار توافق وطني، والتي طوت زهاء ثلاثة عقود من حكم الرئيس صالح، ودخول اليمن مرحلة انتقالية (2012-2014) تحت رئاسة (عبده ربه منصور هادي)، الذي كان قد تسلم خلال النصف الثاني من العام 2011 مهام رئيس الجمهورية، عقب نقل الرئيس صالح للعلاج في أحد مستشفيات المملكة العربية السعودية، إثر إصابته في الانفجار الذي استهدف (صالح) ومعه معظم قيادات الصف الأول في نظام حُكمه، يوم الجمعة 3 يونيو/ حزيران 2011، خلال تواجدهم في جامع النهدين بدار الرئاسة، في العاصمة اليمنية صنعاء، مروراً بتنصيب ( عبده ربه منصور هادي)، المولود في 1 سبتمبر/ أيلول 1945، في محافظة أبين، جنوب اليمن، والنائب الضعيف لرئيس الجمهورية اليمنية (صالح) منذُ 3 أكتوبر/ تشرين الأول 1994، رئيساً للجمهورية اليمنية، عقب انتخابات صورية كان المُرشح الوحيد فيها، في 21 فبراير/ شباط 2012.
وشهدت اليمن، تحت رئاسة (هادي)، وبدعم سعودي وأمريكي وإقليمي ودولي واسع، عملية انتقال سياسي بين عامي 2012 و2014، بعد تشكيل حكومة الوفاق الوطني بالمناصفة بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة، برئاسة محمد سالم باسندوة، في إطار تنفيذ المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية المزمنة، بقيادة السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي، وبدعم من الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي والمجتمع الدولي.
في 21 سبتمبر/ أيلول 2014، سيطرت جماعة أنصار الله (الحوثيين)، على العاصمة اليمنية (صنعاء) بالقوة المسلحة، خلال شهر العسل الذي ساد علاقة إدارة أوباما مع إيران بالتزامن مع تفاهمات مهدت لتوقيع الاتفاق النووي، ووقعت الأطراف اليمنية مساء سيطرة الجماعة على العاصمة صنعاء، تحت فوهات بنادقها، (اتفاق السلم والشراكة)، برعاية إقليمية ودولية، والذي أفضى إلى تشكيل حكومة المهندس خالد بحاح، وبعد أسابيع من تصاعد ممارسات جماعة الحوثيين ضد الحكومة والرئاسة، أخضعت الجماعة الرئيس (هادي) ورئيس وأعضاء الحكومة للإقامة الجبرية، مما أدى إلى تقديم رئيس وأعضاء الحكومة استقالةً "لا رجعة فيها" إلى رئيس الجمهورية (هادي)، يوم 22 يناير/ كانون الثاني 2015؛ ليقدم (هادي) استقالته إلى رئيس مجلس النواب بعد ساعات فقط من استقالة الحكومة، قبل أن يتمكن (هادي) من الفرار من منزله في العاصمة صنعاء، يوم 21 فبراير/ شباط 2015، إلى مدينة عدن جنوبي اليمن.
واتجهت تشكيلات جماعة الحوثيين والقوات الموالية لصالح نحو مدينة عدن، قبل سيطرتها عليها وفرار الرئيس (هادي) براً إلى سلطة عمان، صباح الخميس 26 مارس/ آذار 2015، قبل أن يستقبله مساء ذات اليوم في مطار العاصمة السعودية الرياض وزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان، ورئيس الاستخبارات خالد الحميدان، عشية إعلان عملية (عاصفة الحزم)، التي تقودها السعودية والإمارات، وبمشاركة باقي أعضاء "مجلس التعاون الخليجي"، باستثناء عُمان ودول عربية أخرى، ضد جماعة "الحوثيين" وقوات صالح في اليمن، بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين.
ووسط دعم (إدارة أوباما) المُطلق، شنت قوات التحالف بقيادة السعودية والإمارات، تحت هدف استعادة سلطة (هادي) الشرعية، آلاف الهجمات المروعة التي قتلت وجرحت آلاف المدنيين، ودمرت البنية التحتية المدنية، بالإضافة إلى المنازل والمدارس والمستشفيات والجسور والطرقات ومرافق الخدمات العامة، وفرضت حصاراً برياً وبحرياً وجوياً مطبقاً على اليمن، وقيدت وصول المواد والسلع الأساسية والمستلزمات الطبية إلى اليمن، وفاقمت الأزمة الإنسانية، تكفلت خلالها (إدارة أوباما) بتحييد مجلس الأمن الدولي ومؤسسات الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان والمجتمع الدولي ووسائل الإعلام الدولية.
وخلال الأعوام 2014 و 2015 و2016، وفي ظل إدارة أوباما الديموقراطية ودعمها، بلغت انتهاكات حقوق الإنسان ذروتها وسط التجاهل الدولي الذي منح التحالف بقيادة السعودية والإمارات وبقية أطراف الحرب في اليمن، بما في ذلك جماعة أنصار الله (الحوثيين)، وتشكيلات المقاومة المدعومة من التحالف، ضوءًا أخضر؛ تخلقت ميليشيات جديدة، وأُهدرت كل فُرص إعادة بناء مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية والخدمية والإدارية، فأصبحت المساحات المُنتزعة من سيطرة جماعة الحوثيين وقوات صالح، وعلى رأسها مدينة عدن المُعلنة عاصمة مؤقتة لحكومة هادي المعترف بها دولياً، مجالاً للفراغ أمام العديد من التشكيلات والجماعات، بما في ذلك التنظيمات الإرهابية والتشكيلات المُناهضة لسلطة (هادي)، والتي تعاظمت قوتها بدعم من دولة الإمارات التي جندت ما يزيد عن 90 ألف مقاتل، في إطار تشكيلات النخب العسكرية والأحزمة الأمنية التابعة للمجلس الانتقالي، التي بسطت سيطرتها على حساب وجود وسيطرة حكومة (هادي) المعترف بها دولياً.
عهد إدارة دونالد ترامب (الجمهورية)
ومع انتهاء فترة (إدارة أوباما) الديموقراطية وفوز الجمهوري (دونالد ترامب) على مُنافسته الديموقراطية هيلاري كلينتون في انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، بدأت فعلياً أطول وأكبر حملة انتخابية دشنها الحِزب الديموقراطي المعارض لإدارة ترامب الجمهورية، والتي أديرت من خلال المنظمات والمؤسسات الأممية والإنسانية والحقوقية ووسائل الإعلام بدرجة رئيسية؛ ضُخت الأرقام والتقارير والتصريحات والتوصيفات والمواقف، استُخدمت فيها الحرب في اليمن، والانتهاكات المروعة، والأزمة الإنسانية المتفاقمة، والدعم الأمريكي للتحالف بقيادة السعودية والإمارات، حيث عمد جيش الدعاية الديموقراطية الضخمة ممن غادروا البيت الأبيض مع (أوباما) إلى تحميل الرئيس (دونالد ترامب)، كشخص ونموذج، حصراً، تركة الحرب الثقيلة في اليمن.
في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، أصدر 30 مسؤولاً بارزًا في إدارة أوباما بيانًا يدعو إدارة ترامب لإنهاء كل الدعم الأمريكي لحرب التحالف بقيادة السعودية والإمارات في اليمن، نظرًا للنتائج الكارثية لمشاركة أمريكا في الحرب على اليمنيين. رغم أن تلك الرسالة، لم تكن في نهاية المطاف سوى إقرارٍ مُقنع بتواطؤ إدارة أوباما في انتهاكات التحالف بقيادة السعودية.
خلال العام الأول من رئاسة ترامب، دعمت شبكة الحزب الديموقراطي جهود إنشاء آلية دولية مستقلة للتحقيق في الانتهاكات في اليمن، حيث نجحت جهود قادتها هولندا ومنظمات حقوق الإنسان المستقلة وبمساندة من عدة دول في مجلس حقوق الإنسان، بإنشاء فريق الخبراء الإقليمين والدوليين في 28 سبتمبر/ أيلول 2017، كما نجحت جهود تجديد ولاية الفريق للأعوام 2018 و2019 و2020، في ظل دعم شبكة الحزب الديموقراطي.
واستمرت الحملة الديموقراطية على امتداد سنوات فترة (ترامب) الرئاسية باستخدام الأزمة الإنسانية المستمرة في اليمن، واتساقاً مع مُدخلات حملة طويلة ومخططة حول الأزمة الإنسانية والحقوقية في اليمن أتت مضامين البرنامج الانتخابي للمرشح الديموقراطي جو بايدن، والذي تضمن الكثير من المقاربات والوعود المغايرة، وخلال حملة (بايدن) الانتخابية، قدم سلسلة من الوعود المتعلقة بالسياسة الخارجية الأمريكية في اليمن، حيث وعد بـ "إعادة تقييم" الدعم الأمريكي لحرب التحالف بقيادة السعودية والإمارات في اليمن، وتعهد بإنهاء المساعدات التي قد تُستخدم في الهجمات ضد المدنيين، والتي ساهمت في مفاقمة الأزمة الإنسانية في اليمن، وأكد على أهمية حماية المدنيين وتعزيز الشفافية في استخدام الأسلحة الموردة للتحالف، وأكد التزامه بمعالجة الأضرار الإنسانية التي سببها النزاع، وتحسين وضع حقوق الإنسان في اليمن، والتراجع عن القرارات والإجراءات التي اتخذتها (إدارة ترامب)، وأبدى عزمه دعم جهود المبعوثين الأمميين وتسهيل المفاوضات بين الأطراف المتنازعة في اليمن في سبيل الوصول إلى حل سياسي شامل للأزمة، وقد استمرت حملة الحزب الديموقراطي ملتزمة سقوفاً عالية تجاه اليمن، حتى إعلان فوز مُرشح الحزب الديموقراطي (جو بايدن) وخسارة المرشح الجمهوري دونالد ترامب في انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، وعودة فريق أوباما إلى البيت الأبيض.
**عهد إدارة جو بايدن (الديموقراطية) **
في العام الأول لرئاسة (بايدن)، وتحت ضغط التحالف بقيادة السعودية والإمارات، أنهى مجلس حقوق الإنسان في 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، ولاية فريق الخبراء البارزين الخاص باليمن، في ظل تواطؤ شبكة الحزب الديموقراطي التي عادت إلى البيت الأبيض مع (بايدن)، ما أدى إلى غياب آليات التحقيق الدولية المستقلة مجدداً رغم استمرار انتهاكات حقوق الإنسان، مما زاد من تكريس سياسة الإفلات من العقاب للمنتهكين، ووضع مسؤولية أكبر على منظمات حقوق الإنسان لتوثيق الانتهاكات وكشفها ومساندة ضحاياها.
وباستثناء مجموعة من الخطوات الشكلية والاستعراضية التي لم تؤدي إلى أي نتيجة مغايرة لنتائج سياسات سلفه الجمهوري ترامب، ومن قبله أوباما، مثل وقف جزئي ومحدود لمبيعات الأسلحة للسعودية، وإزالة جماعة أنصار الله (الحوثيين) من لائحة الإرهاب الأمريكية، وتعيين مبعوث خاص إلى اليمن، فإن إدارة بايدن لم تقم عقب دخولها البيت الأبيض، بأي خطوات جدية إزاء الوضع في اليمن، بل أنها على العكس من ذلك، بدأت بالتملص من وعودها الانتخابية بشأن اليمن، واستأنفت إعادة طرح الذرائع والأعذار الواهية الحائلة دون تنفيذ تلك الوعود، تحت عنوان التحديات السياسية والاستراتيجية لاستمرار الدعم العسكري للتحالف بقيادة السعودية والإمارات رغم التعهد بإنهائه، وصعوبة تحقيق التوازن بين القيم الإنسانية والاعتبارات الاستراتيجية، وهو تناقض فرض تساؤلات حول دوافع وجدية وعودها الانتخابية السخية تجاه اليمن.
وفي ظل (إدارة بايدن) وطاقم (أوباما)، تكررت ذات الأخطاء التي أدت إلى سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين) المتحالفين مع إيران على العاصمة اليمنية صنعاء في 21 سبتمبر/ أيلول 2014، ومناطق شمال اليمن، بعد أن قوضت تشكيلات المجلس الانتقالي المدعومة من دولة الإمارات وجود الحكومة المعترف بها دوليًّا، في عاصمتها المؤقتة عدن، وتمكين وإحلال بديلاً لها، مروراً بالإطاحة بمحافظ شبوة القوي محمد بن عديو المدعوم من السعودية، في 26 ديسمبر/ كانون الأول 2021، حيث تمكنت تشكيلات الانتقالي من انتزاع محافظة شبوة في 11 أغسطس/ آب 2022، بعملية مباغتة وخاطفة، بعد انتزاعها محافظة أبين وفرضها واقعًا جديدًا في المحافظتين، أزاحت فيه كلياً سلطة القوات الحكومية المدعومة من السعودية، مستغلةً التفاعلات التي خلقتها الحرب الأوكرانية الروسية.
زيارة الرياض ولقاء بن سلمان
بالإضافة إلى الكثير من الأعذار التي برزت بصورة أكثر وضوحاً مع اندلاع الحرب في أوكرانيا للتملص من وعوده وتعهداته، قدم الرئيس (بايدن)، من خلال عريضة ركيكة نشرتها صحيفة واشنطن بوست، تضمنت جُملة من التبريرات الواهية قُبيل رحلة الحج (الديموقراطية) إلى العاصمة السعودية الرياض، من أجل لقاء ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، خلافاً لوعود (بايدن) وتصريحاته النارية بجعل السعودية دولة منبوذة، حيث قدم على طاولة السعودية والإمارات وغيرها من الأنظمة الدكتاتورية سلسلة من التنازلات المجانية، في إطار تسول (إدارة بايدن) الديموقراطية مساندة تلك الأنظمة للولايات المتحدة الأمريكية في مواجهتها مع روسيا في مجال الطاقة، داخل (أوبك) وخارجها، ليظهر (بايدن) في مشهد عجز فيه عن الرد على سؤال ذلك الصحفي الأمريكي الذي صرخ في وجه بايدن: هل "السعودية منبوذة؟"، قبل أن يعود أدراجه إلى واشنطن خالي الوفاض، باستثناء ألبوم الصور التذكارية المُلتقطة لزيارته التي توثق مرحلة من انعدام الفاعلية، والافتقار للمبادرة والتأثير والتفاعل، التي باتت تستوطن البيت الأبيض.
التصعيد في البحر الأحمر
بعد أكثر من شهر كامل من اندلاع الحرب في غزة، وبعد تفاقم الأوضاع الإنسانية وإحجام المجتمع الدولي عن مسؤوليات وقف الإبادة الجماعية للفلسطينيين، وغيرها من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، أعلنت جماعة أنصار الله (الحوثيين) في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، احتجاز سفينة تجارية إسرائيلية في البحر الأحمر، وإجبارها على التوجه إلى ميناء الصليف بالحديدة، وهي أولى عمليات استهدافها للسفن والناقلات البحرية الإسرائيلية أو المتجهة من وإلى إسرائيل عبر مياه البحر الأحمر ومضيق باب المندب، ردًّا على العملية العسكرية التي استهدفت قطاع غزة، وسط تخاذل وتواطؤ المجتمع الدولي عن واجبات حماية الفلسطينيين ووقف الجرائم الإسرائيلية، وعلى امتداد أسابيع من الحرب في غزة.
ووسط مساعٍ إسرائيلية وأمريكية وغربية من أجل حصر الصراع بين إسرائيل وحماس في قطاع غزة، وعدم السماح بتوسيع الصراع إلى مدى إقليمي أوسع لحماية إسرائيل أثناء عملياتها العسكرية وفظاعاتها المروعة ضد الفلسطينيين، شنّت القوات الأمريكية والبريطانية ابتداءً من مساء الخميس 11 يناير/ كانون الثاني 2024، هجماتٍ طالت مواقعَ في صنعاء والحديدة والبيضاء وتعز، الواقعة تحت سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين).
وبتتبّع خارطة تلك الهجمات وتقييمها بشكل مستقل، فإنّ الأغلب الأعم منها قد طالت أهدافاً ميتة؛ سبق أن استهدفتها مرارًا خلال هجمات مقاتلات التحالف والسعودية، ممّا جعل منها محض عمليات استعراضية وعبثية، تفتقر إلى الفاعلية والجدوى والاستراتيجية، رغم كل حملات الدعاية الغربية الضخمة التي رافقت تلك العمليات، منها تصريحات قادة واشنطن ولندن المُتكررة حول تحقيق تلك العمليات لمهمة تعطيل القدرات الهجومية للحوثيين، وهي تصريحات ومزاعم أكثر وأكبر، بما لا يقاس، من حقائق تلك الهجمات، حيث كانت على ما يبدو من ضخامتها جزءًا من حملات الدعاية الانتخابية الداخلية في عام الانتخابات.
وقد عمدت الدعاية الضخمة التي رافقت هجمات التحالف الأمريكي البريطاني على أهداف عديدة في المناطق الخاضعة لسيطرة جماعة الحوثيين من اليمن، إلى فصل عمليات الاستهداف والتصعيد في البحر الأحمر عن تطورات الوضع في غزة، بهدف تجريد العمليات الحوثية من أبعادها الأخلاقية والإنسانية بصفتها عمليات مُرتبطة بالوضع في غزة، مع التركيز على سرد الحجج على أن العمليات العسكرية الأمريكية - البريطانية هي للدفاع عن العالم ومصالحه ورفاهه، سعياً لتعويض افتقارها الكُلي لأي مضامين أخلاقية أو إنسانية أو قانونية، وللتملص من حقائق كون تلك العمليات دفاعًا عن إسرائيل لتأمين استكمال عملياتها العسكرية المُروعة التي تقوض فظاعاتها كل أسباب حياة وبقاء الفلسطينيين.
وبمعزل عن التأويلات والانطباعات والأمنيات، وبمقاربة مجردة للحقائق والوقائع، فإن التصعيد في البحر الأحمر وكل ما ترتب عليه، اندلع بسبب الحرب الإسرائيلية على غزة، ومرتبط بالوضع الخطير في القطاع، وتتوسع عملياته وتداعياته بسبب استمرار الفظاعات التي ترتكبها إسرائيل بحق المدنيين، وبسبب تدهور الوضع الإنساني دون أي رادع، وتبعًا لذلك فلا يمكن أن تنتهي تلك العمليات ولا يمكن أن يتوقف التصعيد في البحر الأحمر، حسب تأكيدات قيادة جماعة الحوثيين مرارًا، إلّا بوضع حدٍّ للحرب في غزة، وبوضع حدٍّ لتدهور الوضع الإنساني فيها، وللجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين.
فعلى مدى قرابة عشر سنوات من الحرب في اليمن، كان من الثابت أن الملاحة الدولية عبر مياه البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن ظلّت بمنأى عن نيران الصراع، الذي رغم طول أمده وتعدد الأطراف الإقليمية والدولية المتورطة فيه، لم تُسجَّل خلاله أي عمليات استهداف للناقلات والسُّفن التجارية التي عبرت مياه البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن قبالة السواحل اليمنية، رغم أنها كانت وقتئذٍ في دائرة الوصول الناري والعملياتي لأطراف الحرب اليمنية، ومنهم جماعة أنصار الله (الحوثيين)، فيما ظلت مسائل أمن وسلامة الملاحة الدولية، طيلة السنوات العشر في إطار التصريحات والتحذيرات الإعلامية وحسب.
وبمعزل عن تقييم مدى فاعلية هجمات التحالف الأمريكي البريطاني على عدة أهداف خاصة بقوات جماعة الحوثيين، فلا يُمكن إغفال أنها قد شُنّت في ظلّ انكشاف أخلاقي وقانوني وسياسي أمريكي وبريطاني وغربي غير مسبوق، بعد المساندة المُطلقة لجرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين، ودعم حربها المروعة ماليًّا وعسكريًّا وسياسيًّا ودبلوماسيًّا، أضف إلى ذلك حالة بيّنة لافتقار صُنّاع القرار في البلدين للحد الأدنى من متطلبات فهم السياق الراهن في المنطقة واليمن، بما في ذلك إدراك مركزية القضية الفلسطينية بالنسبة للأغلب الأعم من سكان الوطن العربي، والآثار العميقة لتفاعلات تلك القضية في ظل تآكل وتلاشي الثقة بأمريكا وبريطانيا، في إطار دوائر الحلفاء قبل الخصوم. وتكشف عناوين ومضامين خطاب التحالف الأمريكي والبريطاني -الرسمي وغير الرسمي- المرافق لعملياته ضد جماعة الحوثيين في اليمن، ومن ذلك استدعاء فزاعة إيران وشرورها وأخطارها، عدا عن الفجوة الهائلة والعميقة بين حقائق الوضع وصُنّاع القرار والخطاب؛ حيث بات وعي الناس يستوعب مطامع إيران وشرورها وأخطارها وفخاخها، ويدركون بذات القدر، مطامعَ وشرور وأخطار وفخاخ وألاعيب وحيل وأكاذيب أمريكا وبريطانيا وإسرائيل.
وفي واقع الأمر، لم يعد من الصعب إدراك ألاَّ أحد يخدم إيران وحلفاءها وكل التشكيلات الراديكالية في المنطقة، أكثر ممّا تفعله إسرائيل وداعموها أمريكا وبريطانيا والمجتمع الدولي في حربها على غزة، وعلى مدى شهور حرب غزة حقّقت إيران وكل التشكيلات الراديكالية في المنطقة مكاسب مجانية واسعة، لم تحققها أو تحلم بتحقيقها على امتداد عقود طويلة، وعلى أكثر من مستوى، حيث اكتسبت نفوذًا أوسع وشعبية أكبر، على حساب ما تخسره إسرائيل وأمريكا وبريطانيا والغرب وحلفاؤهم في المنطقة.
وبكل الحسابات، فإنّ إنهاء التصعيد والفوضى في البحر الأحمر لن يتحقّق بالعمليات العسكرية العبثية التي تزعم تدمير قدرات الحوثيين الهجومية، ولا بالدعاية الضخمة ومرافعات هجاء الحوثيين وسرد مساوئهم، بل إنّ أقصر الطُّرق إلى إنهاء التصعيد والفوضى في البحر الأحمر، وبأقل قدر من التكاليف، يبدأ وينتهي بوقف مغامرات نتنياهو وحكومته المُتطرفة، ووقف طوفان الفظاعات التي تُرتكب ضد الشعب الفلسطيني، ووقف حمّام الدم في غزة، ووقتئذٍ فقط يمكن أن تجد المرافعات والمحاججات والمساعي الحميدة لفضح الأشرار حيزًا من اهتمام الناس وانتباههم.
عرقلة أمريكية لجهود السلام وتأجيج التصعيد
بسبب استمرار هجمات جماعة أنصار الله (الحوثيين)، ضد الملاحة من وإلى إسرائيل عبر مياه البحر الأحمر ومضيق باب المندب، عمدت (إدارة بايدن) الديموقراطية، إلى ممارسة أقصى درجات الضغط السياسي والاقتصادي، على جماعة أنصار الله (الحوثيين)، مثل إعادة إدراج الجماعة على لائحة الإرهاب الأمريكية، والدفع بالحكومة المعترف بها دولياً لاتخاذ جُملة من القرارات التصعيدية، وصولاً إلى إعلان موقف مناهض لجهود السلام التي كانت قد أحرزت تقدماً كبيراً بمشاركة السعودية وبدعم من عمان تحت مظلة المبعوث الأممي إلى اليمن، حيث قال السفير الأمريكي لدى اليمن ستيفن فاجن، في 28 مايو/ آيار 2024، خلال ندوة أقامها معهد واشنطن: "أن الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، لن توقع أي اتفاقية سلام يكون للحوثيين الكعب الأعلى فيه من خلال استمرار حصولهم على الأسلحة والصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة، هذا الأمر مستحيل؛ لن نستطيع تحقيق سلام حقيقي بهذه المعادلة"، وأضاف: "إن خارطة السلام التي قدمتها المملكة العربية السعودية للأمم المتحدة ليست اتفاقية بما تعنيه الكلمة، وأنها لن تكون قابلة للتطبيق على المدى القريب، بالنظر لنوايا الحوثي ودوافعه، وبالنظر أيضا لتعقيدات هذا الصراع، لذلك يجب علينا عدم التسرع، وكذلك ألا نبنى احتمالات غير واقعية"، وتسائل: "ماذا لو سيطر الحوثيون على كامل اليمن؟"، ثم أجاب: "سيكون ذلك كارثياً لليمن والمنطقة؛ هذا سيعنى أن اليمن ستكون دولة معزولة بدون أي تنمية، ليكون وضعها مشابها للصومال".
وفي ظل ذلك المتغير التكتيكي العارض في الخطاب والمزاج الرسمي الأمريكي، دُفعت اليمن مُجدداً من بوابة الاقتصاد إلى مُفترق طرق، يقود أحدها إلى خطوات تصعيد تدفع باليمن إلى جولة جديدة من الحرب، ويتيح الآخر مواصلة السير في مسار السلام من خلال البناء على التقدم المُحرز فيه، بعد أن كان اليمن قاب قوسين أو أدنى من توقيع الأطراف على خارطة طريق لإرساء السلام بعد توقف العمليات العسكرية المُباشرة، وعلى رأسها الهجمات الجوية للتحالف بقيادة السعودية والإمارات خلال فترة الهدنة الموقعة بين الأطراف، في 2 أبريل/ نيسان 2022 برعاية الأمم المتحدة، والتي أدت إلى إعلان مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن، هانس غروندبرغ، في 25 ديسمبر/ كانون الأول 2023، عن توصل أطراف النزاع في اليمن إلى اتفاق يقضي بالالتزام بمجموعة من التدابير التي تشمل تنفيذ وقف إطلاق نار يشمل عموم اليمن، والمُضي بإجراءات لتحسين الظروف المعيشية، ودفع جميع رواتب الموظفين في القطاع العام، واستئناف صادرات النفط، وفتح الطرقات في تعز وأجزاء أخرى من اليمن، ومواصلة تخفيف القيود المفروضة على مطار صنعاء وميناء الحديدة، بالإضافة إلى حُزمة من تدابير وإجراءات بناء الثقة، تمهيدًا لاستئناف عملية سياسية جامعة تحت رعاية الأمم المتحدة من شأنها التأسيس لسلامٍ دائم في اليمن، وهو أهم اتفاق بعد نحو عقد كامل من الحرب التي اندلعت مع سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين) على العاصمة اليمنية صنعاء في 21 سبتمبر/ أيلول 2014، وإعلان عمليات التحالف بقيادة السعودية والإمارات في 26 مارس/ آذار 2015.
قرارات البنك المركزي في عدن
من جانبها، رأت الأطراف اليمنية المناوئة للحوثيين المنضوية في إطار مجلس القيادة الرئاسي والحكومة المعترف بها دولياً، في المتغير التكتيكي الطارئ على المزاج والخطاب الأمريكي بشأن اليمن، فرصةً غير مسبوقة لتحقيق أكبر قدر من المكاسب منه، يتصدر مكاسبها المأمولة تعديل موازين القوى المُختل على أرض الواقع، عسكرياً وأمنياً وسياسياً واقتصادياً، تبعاً لذلك المتغير الذي طرأ على المزاج الأمريكي، تحت عنوان مواجهة التصعيد الحوثي في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، حيثُ لم تكتفِ الأطراف اليمنية المناوئة لجماعة الحوثيين بالدعوة إلى حشد أكبر دعم لها ولتعزيز قدراتها الدفاعية والهجومية والمالية والاقتصادية، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، بمبادرتها إلى تقديم عروضٍ سخية -منفردةً ومجتمعة- لتمكينها من التصدي للتهديد الذي شكلته هجمات جماعة الحوثيين على الملاحة الدولية، ولإسقاط الجماعة التي يتصاعد نفوذها عسكرياً وسياسياً ومالياً واقتصادياً، ليس على المستوى اليمني وحسب، بل وعلى المستوى الإقليمي.
وفي ذلك الإطار، أصدر محافظ البنك المركزي في عدن، أحمد غالب المعبقي، حُزمة من القرارات الرامية -في ظاهرها- إلى استكمال تنفيذ عملية نقل مركز القرارات المالية والاقتصادية إلى عدن، والتي ما كان لها أن ترى النور في هذا التوقيت الحرج والحساس، لولا رفع "الڤيتو" الأمريكي الذي كان نافذاً ومتكفلاً بتجميدها منذ إعلان الرئيس عبد ربه منصور هادي، المُعترف به دولياً، في 18 سبتمبر/ أيلول 2016، قرار نقل البنك المركزي اليمني من العاصمة صنعاء إلى مدينة عدن المُعلنة كعاصمة مؤقتة للحكومة المعترف بها دولياً، (رغم كل ما ترتب على ذلك القرار من انقسام للقطاع المصرفي وللعملة الوطنية، ومن توقفٍ لدفع مرتبات مئات الآلاف من الموظفين الحكوميين)، إلاّ أنَّ "الڤيتو" الأمريكي تكفَّل -عبر المؤسسات المالية الدولية- بتأمين قنوات اتصال وتنسيق ظلَّتْ مفتوحةً بين بنكي صنعاء وعدن حتى وقت قريب.
ورغم الخطورة المُحتملة لتلك القرارات، لم يكن هناك ما يُشير إلى وجود خُطة استراتيجية مدروسة للتعامل مع كل تداعياتها على القطاع المصرفي في عموم البلاد، وعلى أوضاع الأفراد والكيانات، وعلى مسار السلام، والتي يُمكن أن تُمثِّل -في تلك الحالة- ركلةً مُباغتة تدفع بالأوضاع الهشة إلى أُتون جولةٍ صِفرية من التصعيد من شأنها أن تُباعد أكثر بين اليمن والسلام.
ورغم الإشكالات الكثيرة التي خلقتها تلك القرارات في الواقع، فإنها كانت قد تُساهم (في حال كانت تلك القرارات تتأسس على خطة استراتيجية مدروسة) في خلق قواعد جديدة للتفاوض بين الأطراف اليمنية، تحوْل دون استفراد طرفٍ واحد بامتياز إملاء وفرض الشروط الأُحادية على طول الخط، ليعود اليمن في تلك الحالة إلى مضمار التسويات الداخلية التي تتأسس على قدر معقول من التوازن البنَّاء، بعد أن ظلّ مُغيباً عن المشهد الوطني على امتداد عقد كامل من عمر الصراع الحالي في اليمن.
خطوات التصعيد الحوثية
ونظراً للأثر البالغ لتلك القرارات على المركز المالي لسلطات جماعة أنصار الله (الحوثيين)، فقد صعَّدتْ الجماعة من خلال التحريك المفاجئ لملف المُحتجزين من موظفي السفارة الأمريكية، والذي كان هو الآخر مُجمداً منذ سنوات، ككرت ضغطٍ ومناورة لتعزز موقفها التفاوضي، حيث دفعتْ بقيادات أمنية عليا لتصدره بصورة غير مسبوقة، مع شن الجماعة حملة اعتقالات واسعة طالت ما يزيد عن 35 موظفًا وموظفة في المؤسسات الدولية والمحلية والبعثات الدبلوماسية، واحتجزت في مطار صنعاء أربع طائرات تابعة للخطوط الجوية اليمني، ما أدى إلى وقف رحلات الطيران المحدودة من وإلى مطار صنعاء، ثم ذهبت أبعد من ذلك بتهديد السعودية بأن البنوك في الرياض مقابل البنوك في صنعاء، وأن المطارات في الرياض مقابل المطارات في صنعاء، كوسيلة للضغط على السعودية وعلى المجتمع الدولي.
قرار سعودي حازم بإنهاء التصعيد
وبعد أشهر من الحياد السعودي النادر على امتداد ما يزيد عن ستة أشهر من التصعيد المُتفاقم، كسر قرارٌ سعودي حالة التحشيد والتصعيد في المشهد اليمني، وعلى مجلس القيادة الرئاسي والحكومة المعترف بها دوليًا التراجع عن كافة القرارات المُتخذة من قبل البنك المركزي في عدن، حيث أعلن المبعوث الخاص للأمم المتحدة لدى اليمن، هانس غروندبرغ، في بيان نشره صباح الثلاثاء 23 يوليو/ حزيران، يفيد بتسلُّمه اتفاقاً مكتوبًا من طرفي النزاع (جماعة أنصار الله (الحوثيين) والحكومة المعترف بها دوليًا)، يتضمن عدداً من النقاط الجوهرية التي كانت محط خلاف وتصعيد على امتداد شهور، ويقضي الاتفاق إلغاءَ القرارات والإجراءات الأخيرة ضد البنوك من الجانبين، والتوقف مستقبلاً عن أي قرارات أو إجراءات مماثله، واستئناف طيران اليمنية للرحلات بين صنعاء والأردن، وزيادة عدد رحلاتها إلى ثلاث رحلات يوميًا أو بحسب الحاجة، وعقد اجتماعات لمعالجة التحديات الإدارية والفنية والمالية التي تواجهها الشركة. وقد تضمنت النقاط -المتفق عليها من جانب الطرفين- البدء في عقد اجتماعات لمناقشة كافة القضايا الاقتصادية والإنسانية بناء على "خارطة الطريق"، على أن تلعب الأمم المتحدة دورًا داعمًا لتنفيذ ما سيتم الاتفاق عليه. سينبني على الاتفاق استئناف للمفاوضات بين الأطراف اليمنية، التي كانت قد انطلقت أحدث جولاتها في العاصمة العمانية مسقط في 30 يونيو/ حزيران الفائت، برعاية وإشراف من الأمم المتحدة.
حالة انعدام التوازن في اليمن
إن من الأهمية بمكان استعراض أبرز العوامل وثيقة الصِلة بحالة اختلال التوازن في إطار السياق الأوسع للمشهد اليمني بكل ارتباطاته الإقليمية والدولية، وبكافة أبعاده السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، كمُحصلة لسلسلة من أخطاء الفاعليين المحليين والإقليميين والدوليين، وعلى رأس السياسات الأمريكية التي جعلت التحالف العريض الذي يساند تحالف مجلس القيادة الرئاسي والحكومة المعترف بها دولياً المناوئ لجماعة أنصار الله (الحوثيين)، يقف في حالة انكشاف على أرضية هشة في كل اختبار لم تتوفر الحد الأدنى من الشروط الأساسية لخوضه، ومن أهم تلك العوامل:
• تواجه مجموعةُ من الأطراف المُتنافرة المُنضوية في إطار مجلس القيادة الرئاسي والحكومة المعترف بها دولياً (ككتل غير مُتجانسة؛ متعددة الرؤوس والولاءات والمرجعيات، ضمن خارطةٍ مُشطَّرة تفتقر إلى أي روابط ذاتية بينها سوى رابط إرادة التحالف) الطرفَ المقابلَ المُتمثل بمكوِّنَ جماعة أنصار الله (الحوثيين) المتماسك؛ بقيادة واحدة ورؤية واحدة، ويبسط سيطرته على جُغرافيَّةٍ واحدة. • تُهيمن على علاقات الأطراف المنضوية في إطار مجلس القيادة الرئاسي، جُملة من التباينات العميقة، الكُلية والأساسية والفرعية، حدَّ التصارع، وجُملة من التشوهات الهيكلية والبنيوية والعملياتية والنظرية لكافة المسارات الأمنية والعسكرية والمالية والاقتصادية والسياسية في جميع مستويات بُنى سلطة مجلس القيادة الرئاسي والحكومة المعترف بها دولياً، والذي أخفق في إحراز أي تقدم في عملية صهر التشكيلات الأمنية والعسكرية المُختلفة في إطار عمل مؤسسي متجانس وفاعل، في ظل وزارتي الدفاع والداخلية. • فشل مجلس القيادة الرئاسي في القيام بمسؤوليات تأمين الحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم لملايين السكان الخاضعين اسميًّا لسلطة مجلس القيادة الرئاسي والحكومة المعترف بها دولياً. • فشل مجلس القيادة في تقديم أنموذج خلاَّق في السياسة والإدارة والقيادة كأحد متطلبات حيازة قبول الناس بسلطته والتفافهم حوله، كأساس لاكتساب شرعية ومشروعية تمثيلهم وتمثيل مصالحهم وتطلعاتهم. • تصاعد حالة الصراع الإماراتي السعودي في أكثر من ملف، أحدها ملف النفوذ وحالة تضارب المصالح والأهداف والتصورات في اليمن، بعد أن تسللت الإمارات إلى مساحات كانت في قلب مجال الأمن القومي السعودي، جنوب وشرق وغرب اليمن. • مُتطلبات والتزامات مسار التهدئة السعودية مع إيران في المنطقة برعاية صينية. • الخبرة السلبية السعودية والإماراتية والخليجية عموماً مع تقلبات مزاج السياسات الأمريكية الخارجية في المنطقة وحول العالم، والتي أدت إلى تلاشي الثقة بها كحليف، ولذلك فقد امتنعت السعودية عن الانضمام للتحالف الأمريكي البريطاني ضد الحوثيين، واكتفت السعودية بتكرار دعواتها الباردة للأطراف بضبط النفس وخفض التصعيد في اليمن. • ارتفاع سقف المطالب السعودية والإماراتية والخليجية في سبيل التوصل لاتفاقات أمنية وعسكرية مع الولايات المتحدة بسبب أزمة الثقة. وهي عوامل تتظافر بمجملها لجعل خوض جولة جديدة من التصعيد والصراع والمُغامرة بإحراق المراكب التي رسختها جهود السلام محضَ قفزات في الظلام لا أُفق حقيقي لها، في ظل بقاء الكثير من تلك العوامل التي أدَّتْ إلى كل المآلات البائسة لكل الجولات الحربية السابقة، والتي تجعل من الرِّهان على متغير تكتيكي عارض في الخطاب والمزاج الرسمي الأمريكي، ليس فقط تكراراً لتراكمٍ طويلٍ من التجارب الفاشلة التي حملت في أحشائها ذات المقدمات والعوامل، رهاناً على متغيرات تكتيكية -في المزاج والخطاب-، والتي ثبت فشلها الذريع، بل وأدت في الأغلب الأعم منها إلى نتائج عكسية لوعودها وأهدافها المُعلنة والمُضمرة وقتئذ، والتي صُدرت بذات الحماسة واليقينية والدوغمائية التي ترافق نسختها الحالية، ما يجعل الذهاب إلى التصعيد، بأي مستوى من المستويات في ظل تلك العوامل الإقليمية والمحلية، مُجرد عملية استئناف للسير في طريق المجازفات غير المدروسة، والذي اختُبر مراراً على امتداد ما يقارب عقدٍ كامل من عمر الصراع، لذات المقدمات والعوامل والملامح، وسيكون له حتماً ذات المآلات.
النتائج والاستخلاصات
لقد أثبت التراكم الطويل لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام واليمن بشكل خاص، أن موجهاتها وثوابتها وغاياتها تتناقض كلياً مع مصالح مجتمعات ودول وكيانات هذه المنطقة من العالم، ومع متطلبات استقرارها وازدهارها وأمنها، وأن إداراتها -الديموقراطية والجمهورية- تعمد إلى تعزيز وتكريس عوامل الضعف والاحتراب والانقسام والتفتيت فيها، طبقاً لمنطلقات إرث الاستعمار البغيض ومخلفاته ووكلاء مصالحه في المنطقة، مثل إسرائيل والأنظمة الدكتاتورية والتشكيلات المادون وطنية، التي تضمن إبقاء مجتمعات الشرق الأوسط غارقة في فوضى دورات الصراع الطائفية والجهوية والمناطقية والسياسية، رهن حالة ما قبل الدولة الوطنية الحديثة، وأن هناك حالة تطابق متأصلة بين يمين ووسط ويسار "نُخب أمريكا" تجاه منطقة الشرق الأوسط.
الانتخابات الأمريكية كفرصة للمحاسبة
وفي ظل غياب كلي لقضايا السلام والديموقراطية والعدالة وحقوق الإنسان والحريات والازدهار الاقتصادي عن البرامج الانتخابية، وتطابق السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط وفي غير مكان من العالم، فإن الانتخابات الأمريكية المُزمع إجراؤها في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، تُمثل بالنسبة للجاليات المساندة لحقوق الفلسطينيين والمناهضة لجرائم إسرائيل، فرصةً غير مسبوقة، لمحاسبة وتأديب (الحزب الديموقراطي) على سياسات (إدارة بايدن)، وعلى تورطها الكامل في الجرائم الخطيرة المُرتكبة بحق الفلسطينيين خلال عام كامل من حرب إسرائيل، تملقاً لمزاج اللوبي المساند لإسرائيل، المُنظم والمتماسك والفاعل والمؤثر في الانتخابات الأمريكية، سواءً لجهة تغطية تمويلات الحملات الانتخابية، ووسائل الإعلام، والمؤسسات والمراكز الموجهة للرأي العام، أو لجهة تأثير تلك اللوبيات على حصة وازنة وحاسمة من الهيئة الناخبة.
إن تحدي الحزب الديموقراطي لقاعدة عريضة من المساندين لحقوق الفلسطينيين وقضاياهم، مردهُ قناعة راسخة بكونها كتلة هشة غير متماسكة وغير مُنظمة، وهو ما يضمن حياديّتها وسلبيتها بصورة تُشجع جميع الفاعلين، صقوراً وحمائم، يميناً ووسطاً ويساراً، على عدم مراعاة قضاياها ومصالحها واتجاهاتها ورضاها ومزاجها في كل الاستحقاقات والاختبارات الداخلية والخارجية.
إن الأهم من فوز هذا وخسارة ذاك في السباق الانتخابي القادم، يتمثل في كونها فرصة لاختبار قوة تأثير الأصوات المساندة لحقوق الفلسطينيين والمناهضة لجرائم إسرائيل بالاحتشاد الجماعي المُنظم، لإنجاز مهمة تأديب إدارة بايدن ومحاسبتها على تماديها الفج والسافر، والتي ستمتد آثارها إلى كل التفاعلات والتحولات في المشهد السياسي الأمريكي على امتداد عقود قادمة، حيث لن يجرؤ بعدها أي فاعل أمريكي (ديموقراطي أو جمهوري) على التمادي في سياساته الداخلية والخارجية تجاه قضايا وحقوق يساندها قطاع عريض من الهيئة الناخبة.
وبمراجعة تراكم طويل من السياسات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، فالثابت أن جوقة الحزب الديموقراطي معارضون صالحون فاعلون في الدعاية والخطابة والتنظير؛ يتحدثون كثيراً عن قيم حقوق الإنسان والديموقراطية والعدالة والسلام، لكنهم حين يتولون أي مسؤولية، فبالإضافة إلى سمات الضعف والركاكة والفشل، ما يجعلهم غير مؤهلين للصداقة ولا للخصومة، حيث يتحولون إلى جماعة باطنية؛ تفعل في الظلام وخلف الكواليس وتحت الطاولات ما يناقض كل ما تقوله وتزعمه وكل ما تعهدت والتزمت به، وهو ما يجعل من وجود خصم صادق وواضح وفاعل كترامب، أفضل بما لا يُقاس من وجود صديق كاذب ومراوغ، وعديم الكفاءة وضعيف كـ بايدن وأوباما.
يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.