في المؤسسات كافة، بما في ذلك مؤسسات النفع العام، لا تقل إدارة المورد البشري في أهميتها عن إدارة الموارد المالية، لجهة ضمان كفاءة الموارد البشرية وجاهزيتها، لكل المهام والمسؤوليات المناط بها إنجازها على المستوى المعرفي، وعلى المستوى المهاراتي، ومستوى إنجاز المهام في دورة العمل اليومي، في المواعيد المُخططة.
ويبدأ التحدي بالنسبة لأي إدارة، منذ لحظة إعداد الشروط المرجعية للإعلان عن الوظيفة، ثم بعملية فحص السير الذاتية، مروراً بمرحلة الاختبار التحريري، وصولاً إلى إجراء المقابلة، حيث تتركز مهمة لجنة التوظيف في محاولات التحقق من معارف المتقدمات والمتقدمين ومهاراتهم ومؤهلاتهم، بمعزل عما يتصورونه، أو ما يحاولون تصويره عن معارفهم وخبراتهم ومهاراتهم.
ولا تصل أي إدارة إلى مرحلة اليقين الإداري، إلا بعد استلام الشخص للوظيفة وبدء المسار العملي في ميدان العمل، وبالطبع، فالتجربة العملية خلال المدة التجريبية تقدم صورة دقيقة عن معارف أي موظف وعن مهاراته وخبراته، وكثيراً ما تكشف عن مهارات استثنائية لم تقدمها السيرة الذاتية أو الاختبار التحريري أو مقابلة العمل، وهي من تنقل الموظف أو الموظفة من المدة التجريبية إلى تعاقد أطول أو العكس، فقد تثبت كذلك عدم صلاحه للوظيفة، وبالتالي خسارة الفرصة.
وخلال دورات العمل، من المهم إجراء تقييمات دقيقة بصفة دورية تختبر فاعلية وإنتاجية كل عضوة وعضو في الفريق، لجهة الزمن، والمهام المُنجزة، وجودة المهام، والكلفة المالية، والمواعيد، مع تخصيص نسبة مئوية معقولة للفاقد، فهناك متغيرات تطرأ على الموظفة أو الموظف بين كل فينة وأخرى، وكما أن هناك مسؤوليات على أي إدارة على الموارد البشرية ذات الكفاءة والفاعلية، هناك كذلك مسؤوليات على الموظفة أو الموظف للحفاظ على الفرصة.
فعلى سبيل المثال، وجدت خلال تقييم سنوي أشرفت عليه في أكتوبر/تشرين الأول 2023، أن أحد أعضاء الفريق لم يُنجز أي مهمة عمل منذ أشهر، وراجعت سجل الدوام خاصته، فوجدته أقل أعضاء الفريق حضوراً إلى مكتبه، لكنه بالمقابل كان يمتلك أعلى رصيد إجازات مُستحق، وحين دققت في ملفه، وجدت أنه قد لجأ إلى حيل عدة جعلته يُحافظ على ذلك الوضع، أولها: أنه أكثر أعضاء الفريق تذمراً من ضغط العمل عليه، إذ يُروج أن كل عمل المؤسسة مرمي على ظهره، وبهدف تعويض ساعات الغياب يُقدم ساعات عمل إضافي في الإجازات وخارج ساعات الدوام الرسمي (مفبركة)، وفضلا عن ذلك، يرفع التماساً بالإعفاء من المهام لأسباب صحية كلما كان هناك مهام محددة يتوجب عليه إنجازها.
وخلال عملية التقييم تلك، تبين أن نحو 10% من الهيئة العاملة، قد اكتسب الاعتلالات نفسها، والحيل نفسها، ومع مرور الوقت، ومع الاحتكاك والمعايشة والعدوى، وحين قيمنا إنتاجية كل القوة العاملة للمؤسسة، كانت إنتاجية تلك المجموعة تدور حول الصفر، في حين أن نشاطها السلبي المدمر لبيئة العمل كان هو عمل تلك الكُتلة الذي تُنجزه يومياً، حيث تعمدت العناصر الخاملة مهاجمة العناصر النشطة في دورة العمل وتثبيطها، مع مهاجمة كل تقييم إداري، والتحالف للنيل من فريق التقييم والتشكيك فيه، ونجحت في خلق (فوبيا التقييم) لدى فريق التقييم الدوري ولدى الإدارة.
والمفاجئ بالنسبة لنا أثناء التقييم، أن تلك الكُتلة قد طورت نظريات إدارية ثورية، بحجج براقة، مثل: وعود رفاه الموظفين، ومراعاة سلامتهم النفسية والاجتماعية، ومراعاة الظروف العامة للبلد، والمشاكل العائلية، وندوب الطفولة الغائرة، ومُعكرات المزاج في الشارع، ومن أغرب مقولاتها:
إن الدوام نوع من أنواع العبودية، وإن العمل المكتبي مُدمر للإبداع، وقائمة طويلة من مقولات المُتبطلين والكُسالى.
لقد كادت كُتلة لا تمثل أكثر من 10% من العاملات والعاملين، أن تنجح في توجيه دفة العمل المؤسسي وإدخال مؤسسة كاملة في حالة من الشلل المؤسسي، والعملياتي، وفرض مزاج الكسل والتسويف وعدم التقييم والمحاسبة، ونظريات التبطل العدمية، قبل أن نتمكن من تشخيص المشكلة وحصرها بنسبتها الحقيقية، إذ تكفل قرار إداري واحد، على صعوبته وقتئذ، بإعادة الحياة لعمل المؤسسة، في مختلف مستويات العمل المؤسسي.
إن أحد الدروس المُستفادة من تلك التجربة العملية، أن المرونة في العمل الإداري مهمة لتسيير العمل، والتسامح الإنساني مع بعض القصور البشري أثناء دوران عجلات العمل أمر مهم عند إدارة فريق متنوع القدرات والمهارات، وأن وجود نقاط ضعف مُحددة في أي من العاملات والعاملين أمر وارد، ويُمكن بتقديم الملاحظات تلافيها، وهو أمر يختلف عن حالات استحكام طبائع الكسل والتسويف والتذمر المُكتسبة، وعن ملاذات رهائن تلك الطبائع داخل دورة العمل، فالتعامل الإداري الحازم مع كل حالة مُفردة منها، واجب إداري ومؤسسي، وهو أيسر بكثير من عملية إزالتها وتعقيم مجال العمل من آثارها بعد أن تستفحل وتُصبح كُتلة وازنة من قوام القوى العاملة.
إن الإدارة الجيدة، تعني إدارة معادلة بالغة الدقة، وأبرز عناصرها: الموارد المالية، والموارد البشرية، والمهام والمسؤوليات والواجبات، وساعات العمل اليومية، والدورة المستندية، وخط الزمن، والإنتاجية، والجودة، والابتكار، والريادة المؤسسية، والتقييم والتدقيق والمحاسبة، والرؤية والرسالة والأهداف والخطة الإستراتيجية، دون فساد أي عنصر من عناصر المعادلة.
إن عمل العاملات والعاملين، طبقاً للتعاقدات والمهام والمسؤوليات الموقع عليها، بفاعلية وتكامل، هو عمود العملية المؤسسية، وحقوق العاملات والعاملين واجبة الإيفاء، تقابلها مهام وواجبات ومسؤوليات واجبة الإيفاء.
وعلى امتداد سنوات عملي، كثيراً ما عملت على إيجاد بيئة عمل تراعي رفاه الموظفات والموظفين، وتقديم امتيازات وظيفية يستحقها فريق عامل وكفء، ولطالما أسهم ذلك في تحسين بيئة العمل، وانتاجية العاملات والعاملين، وهي منهجية تضاعفت أهميتها بالتوازي مع تطوير نظام تقييم صارم، يتتبع كفاءة أداء العاملات والعاملين وفاعليتهم، ويرصد نقاط الخمول والتكاسل، ويتكفل بإزاحتها خارج دورة العمل بطرق قانونية، كونه واجبا تقتضيه مبادئ العدالة، ومسؤولية إدارة مؤسسة نفع عام، فذلك جوهر العمل المؤسسي، وجوهر الحوكمة والإدارة الجيدة.
إن مساحات العمل، هي مجال إنجاز مهام ومسؤوليات، تربط فيها بين الإدارة والعاملات والعاملين بتعاقدات مكتوبة، وسياسات ولوائح، وقوانين، ودورة مستندية، وثم عمليات تقييم ومحاسبة إدارية عن حالات الإخلال بتلك الالتزامات التعاقدية، وعن حالات الإهمال والتكاسل والتحايل على لوائح العمل وسياساته، وهناك من يتناسى كل ذلك، ويتوهم حالة الدرجات الوظيفية الحكومية الأبدية، دون أي واجبات أو مسؤوليات، ودون أي تقييم أو محاسبة، فيصدم عند أي عملية تقييم ومحاسبة عادلة كلياً.
ومنعاً للخلط الكيدي من قبل بعضهم، فإن ما توفره المؤسسات من خدمات دعم نفسي واجتماعي، للعاملات والعاملين فيها، لا تعني أن جهات العمل أصبحت مستشفيات لتقديم دعم ونفسي واجتماعي، فهناك مشافٍ مُتخصصة، على الأفراد اللجوء الواعي إليها، أو أن مجال العمل مكان للتعافي طويل الأجل من أي عارض صحي، فللصحة النفسية كما الجسدية مشافيها، وصحة الأفراد النفسية مسؤوليتهم أولاً وأخيراً، وعلى جهات العمل مساندتهم في رحلات التشافي وتوفير خيارات للمساعدة.
إن الخلط الكيدي بين نتائج عمليات التقييم والمحاسبة الإدارية لطبائع الإهمال والتكاسل والتحايل على لوائح العمل وسياساته، وبين مسائل الصحة النفسية ومتطلبات ضمان العناية بها من قبل الأفراد والمؤسسات، لن يؤدي إلى شيء، وإذا كان الأمر قائم على نظرية إدارية، فسننتظر نماذج مؤسسية تُطبق تلك الأمنيات في بقعة على هذه الأرض، بعيداً عن أمنيات تسليم أي من المؤسسات القائمة لمزاج الكُسالى والمتبطلين!
يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.