لم يحدث أن عايشتُ -على المستوى الشخصي- ضجة عالمية رغم القتل والدمار المنتشر حول العالم، مثل تلك التي رافقت مقتل الصحفي السعودي-الأمريكي جمال خاشقجي في السفارة السعودية بتركيا، وفيلم "حياة الماعز"، الفيلم الهندي المقتبس من قصة معاناة حقيقية، كحدثين يبينان التأثير العاصف لـ"القوة الناعمة"، التي يمكن أن تغير القناعات عبر تمرير رسائل مبطنة حول حالة حقوق الإنسان في السعودية مع القليل من البروباغندا. ما الذي يمكن أن يضيفه الكاتب أو المهتم، الناقم أو المتأثر، الساخر أو الجاد، لفيلم "حياة الماعز"، الذي أسال الكثير من الحبر لدرجة يصعب احتواؤه؟
في مطلع العام 2021، وقبل أن يعرف العالم شيئاً عن قصة اختطاف الشاب الهندي، سرد رجل دين نحيل على قناة المجد السعودية وقائع تلك القصة كما عرفها من محافظ مدينة سعودية (لم يسمه) ومن أقارب السعودي الذي اختطف الرجل الهندي بطل القصة عام 1993 من مطار في السعودية. حيث قام "الكفيل" السعودي باختطاف رجل هندي وصل لتوه من قريته إلى مطار بلد أجنبي، لا يعرف عنه شيئاً، ولا يستطيع التحدث مع أحد، ولا يجيد غير الهندية، وأخذه الكفيل من المطار إلى الصحراء ليرعى الغنم.
سينتبه الرجل بعد مدة أنه مختطف، وبلا راتب، وتحت رفض الكفيل إطلاق سراحه أو إعادته إلى بلده، أو أخذه إلى المدينة، أو إعطاؤه راتبه. سيقوم الهندي بقتل كفيله، وهو سياق جديد من القصة تم اجتزاؤه من الفيلم لسبب ما، حيثُ لم يجد المقتول تعاطفاً من أبناء البلد. والرجل الذي كان على وشك أن يتم وضع رأسه على المقصلة سيتم العفو عنه، وسَيُمنَح مبلغ 170 ألف ريال سعودي مقابل عمله لعشر سنوات، وهو مبلغ تبرع به السعوديون لإعتاق رقبة الهندي.
وبينما كان الرجل يستعد لمغادرة السعودية، كان قد أشهر إسلامه تأثراً بردة الفعل، قائلاً إن ذلك الرجل الذي قتله لا يتمتع بالأخلاق التي رآها من أبنائه حين عفو عنه ومن السعوديين الذين منحوه هذا المبلغ. هذه الرواية جاءت طبقاً لما قاله الداعية عبد الرحمن الدعيلج عبر قناة المجد، تحت عنوان "خطف هندي من المطار وأرسله يرعى الغنم"، وهي دقيقة إلى حدٍ كبير، كونها قُدمت في وقتٍ بعيدٍ عن الصراع بين مؤيد ومعارض للفيلم، رغم أنها لم تُقدم أي إشارات حول إشكالات نظام الكفيل، التي تندرج الكثير من ممارساته في إطار الظلم والاستعباد.
وبالنظر إلى فيلم "حياة الماعز"، الذي تُقدر تكاليف إنتاجه بنحو 10 ملايين دولار، والذي عُرض منتصف العام 2024 بعد زهاء ثلاثة عقود من الواقعة، فقد كان طويلاً بما يكفي لتصوير شخصية السعودي الشرير وتطورها، ليقدم صورة مشيطنة للجميع، الكافية لتكريس الصورة النمطية التي رسمها الغرب، وهي، متخلف، قذر، وظالم. على الرغم من أن الظلم موجود أيضاً حتى في أكثر البلدان الأوروبية تقدماً، فقد نجح المخرج بتمرير رسائل سلبية، وفي المقابل تجاهل الجانب المضيء في القصة، والذي يتمثل في عفو أولياء الدم عن قاتل أبيهم، وما حصل من تبرعات سخية اتجهت في نهاية المطاف لجيب الهندي الذي غادر إلى بلاده بسلام من السعودية.
ودخلت منظمة "هيومن رايتس ووتش" على الخط، واعتبرت أن الانتهاكات التي يسردها الفيلم لا تزال واسعة الانتشار أكثر مما يود المنتقدون السعوديون الاعتراف به. وقالت إن الفيلم يبالغ في بعض عناصر قصة بطله "نجيب" لأغراض سينمائية. وقد أثار الفيلم، عقب عرضه، ضجة عارمة، إذ دعا مواطنون سعوديون إلى مقاطعة "نتفليكس" على منصات التواصل الاجتماعي، متحججين بأن الفيلم "يبالغ بشكل كبير" في وصف حالة معزولة من انتهاك حقوق عامل وافد، ويعزز الصور النمطية السلبية عن الثقافة السعودية، وهو وصف قديم وخاطئ بالأساس لمعاملة السعودية لعمالها الوافدين.
ومع التأكيد على بشاعة وقائع القصة التي ارتكز عليها صُناع الفيلم، وعلى الكثير من الإشكالات في نظام عمل الوافدين في السعودية، فإنه لا يمكن إغفال جملة موجهات صناعة الفيلم. أبرزها أنه أُنتج وعُرض عقب سلسلة من خطوات الإصلاح السعودية في العديد من المجالات، منها قطاع العمل، رغم مرور زهاء ثلاثة عقود من وقوع الجريمة التي سادها التجاهل التام. ويأتي إنتاج وعرض الفيلم في ظل محاولات دولة الإمارات استهداف تلك التحولات، بفتح جبهات صراع ضد مسارات التحول في السعودية، بالإضافة إلى مساعي غربية لمواجهة تصاعد علاقات السعودية بالصين، تستخدم ملفات حقوق الإنسان كإحدى أوراق الضغط والابتزاز. حيث عمد الفيلم إلى تقديم صورة بالغة القتامة، بمعزل عن أي إيجابيات أو خطوات إصلاح، كما يُفترض بأي معالجة موضوعية أن تعرض الواقع بسلبياته وإيجابياته بصورة متوازنة.
وبغض النظر عن هوية من يقف خلف إنتاج وعرض فيلم "حياة الماعز"، وعن موجهاته ودوافعه وأهدافه، فلا يمكن إغفال تأثيرات الفيلم السلبية المشوشة على الصورة الذهنية للسعودية الجديدة، على نطاق واسع حول العالم، والتي لا يمكن تداركها إلا بالمزيد من خطوات الإصلاح في قطاع العمل، بصورة تضع معالجات جذرية لكافة الانتهاكات التي تطال العمالة الوافدة. بدءاً من نظام الكفيل، إلى عقود العمل، والأجور، وساعات العمل، والتشغيل، إلى الإجازات، والبدلات، والتأمين الصحي، والتأمين الاجتماعي، وآليات الدفع، ونظام الإقامة، وصولاً إلى نُظم التملك والاستئجار والاستثمار، وأشكال الجباية غير القانونية.
يقول الجيل الجديد من القادة السعوديين إنهم يقودون المملكة نحو عهد جديد في إطار رؤية 2030، وإن كانوا جادين في مساعي الإصلاح الشامل، في سبيل إنجاز تحول تاريخي في المملكة، فإنه يتوجب أن يشكل لهم هذا الفيلم دافعاً لمناقشة مشاكلهم المتعلقة بحقوق الإنسان، ومعالجتها بشجاعة، كواجب إنساني وأخلاقي أولاً، وقطع الطريق على كل محاولات النيل والضغط والابتزاز ثانياً، من قبل أي طرفٍ كان، في أسوأ الظروف وأحسنها.
يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.