عندما قابل أمين الريحاني الإمام يحيى مطلع عشرينيات القرن الماضي، سأله الأخير عن أمريكا وإيرلندا، وعن جورج واشنطن الذي قال: "في السلم استعدوا للحرب". كان الإمام يستسقي معارفه عن العالم الخارجي من خلال بعض المجلات والدوريات العربية التي تأتيه من القاهرة. وهذه مصادر غير كافية بالنسبة لمحارب يمني قديم آتٍ لتوه من كهوف كفاح الأتراك؛ كان يتوجب عليه أن يعرف أموراً تتعلق ببناء الموازنة العامة، وأن يكون لديه معلومات كافية عن الإدارة والخرائط وكيفية إنشاء الجيوش الحديثة.
لذلك، عندما سأله الضيف (أمين الريحاني) عن عدد سكان اليمن، أجاب: "خمسة ملايين نسمة." وبناءً على تلك الإجابة، أضاف عليه سؤالاً: "كم عدد الذين يدينون لجلالتكم بالطاعة والولاء؟" ضم الإمام أصابع يده اليمنى وعضّها مضمومة على راحة كفه الأيسر وحبس الكلام. كان أحد معاونيه الأتراك حاضراً، يتابع مجريات الحوار بين الإمام والرحالة العربي الكبير القادم من عواصم العالم العريقة، وقد حاول أن يرد نيابة عن الإمام الذي اكتفى بحركة أصابعه كإجابة تقديرية. قال المعاون التركي: "كل هؤلاء المواطنين يدينون بالطاعة لسيدنا الإمام حفظه الله".
كان الإمام أكثر حذقاً في إجابته تلك (بحركة أصابعه الخمس التي تعني حسب فهم الريحاني: "حفنة")، والريحاني القادم إلى صنعاء من عدن براً كان يعرف أن الإدريسي يسيطر على تهامة كلها. كان أمين الريحاني قد عبر مناطق التماس بين أقصى حدود مملكة الإمام يحيى الجنوبية في ماوية شرق تعز، التي تشهد قتالاً بين قوات علي بن عبد الله الوزير (عن الإمام) وقوات سلطنة الحواشب ومقاومة شعبية في نواحي عدة هناك.
وعندما التقى الريحاني بالأمير علي بن عبد الله الوزير في ماوية، وقدّم إليه رفيقه قائلاً: "وهذا السيد قسطنطين". رد الوزير بسؤال مباشر: "حسني وإلا حسيني؟" وهي إجابة تنطوي على جهل بتقاليد وبروتوكولات اللياقة الرسمية، كما تفصح عن وعي متخلف لا يفسر ولا يرى العالم إلا ضمن قوالب وعيه الديني، حيث إن السيد قسطنطين لبناني من طائفة مسيحية شديدة التعصب للعروبة جاء إلى اليمن إعجاباً بما يسمعه ويقرأه عن صيت هذا القائد العروبي الإمام الذي يناجز الأتراك.
لقد صُدم الرجل وداهمته مشاعر القلق! وعندما وصلا إلى صنعاء وقابلا الإمام يحيى، وجدا الوعي الديني ذاته محفوراً في عقلية الإمام مع شيء من الحذق والتحفظ. سألهم الإمام عن سر تسمية المسيح بهذا الاسم عندما عرف أنهما مسيحيان، وقد تضايق أمين الريحاني من هذه الأسئلة. وتضايق أكثر عندما سمع وجهة نظر الإمام يحيى من فكرة إنشاء الجامعة العربية، حيث يريدها الإمام أن تكون الجامعة الإسلامية. فجادله الريحاني بأننا عرب ننتمي إلى الطائفة المسيحية، فما هو موقع مسيحيي العرب تحت مظلة الجامعة بصفتها الإسلاموية التي يريدها الإمام؟!
هذه واحدة من عوائق نشوء واستقرار ركائز الدولة الوطنية في المنطقة العربية. إذ كلما لاح مفهوم المواطنة، تعترضها الإسلاموية كهوية أوسع لا تنظر للأقليات والطوائف الأخرى إلا كـ"ذميين." ولعل هذه العمليات المتقاطعة هي التي فطنت إليها بريطانيا مبكراً عندما هندست لفكرة نشوء ظاهرة الإسلام السياسي: الإخوان المسلمون! حيث، وعلى طول خط التاريخ الممتد لقرابة المائة عام، لم تكن هذه الجماعة في يوم من الأيام نصيراً لأسس العمل الوطني ولا للعروبة كقوم وجغرافيا ولغة، ولا لحركات التحرر المناجزة للاستعمار.
ربما كان الإخوان المسلمون لهذا السبب يطمحون إلى ترشيح الإمام يحيى لتبوؤ عرش الخلافة الإسلامية الذي يطمحون لاسترداده، كما تقول الكثير من المرويات ومن بينها بعض مؤرخي الجماعة، لكن الإمام اعتذر عن قبول هذا العرض قائلاً: "خلوني على هذه البقعة وبس!" فقُتل.
بعد ربع قرن تقريباً على لقاء الريحاني بالإمام، نشأت جامعة الدول العربية، وكانت اليمن أحد الأقطار العربية المؤسسة لهذا الكيان المركزي للأمة العربية ضمن سياق طموح: "الوحدة". كان حسين الكبسي ممثل الإمام يحيى في نقاشات الجامعة العربية واجتماعاتها لاحقاً، وكانت التعليمات لديه: "استمع فقط ولا تتفوه بكلمة".
التزم حسين الكبسي بهذه التعليمات الصارمة من الإمام ومارس الصمت حتى باتت كلمة "كبسي" في مصر نكتة دارجة على الألسن، حيث تعني "الصمت". حسين الكبسي أُعدم لاحقاً على خلفية انقلاب حركة قضاة 48، كواحد من أبرز رجال تلك الحركة التي أودت بحياة الإمام يحيى ودفعت بعبدالله بن أحمد الوزير إماماً بديلاً بحكومة ودستور ومجلس شورى، ولم تؤيدهم جامعة الدول العربية بحسب وعود قطعها لهم عبد الرحمن عزام كما قيل.
الموقف نفسه المناوئ لفكرة نشوء جامعة الدول العربية ينسحب على جماعة الإخوان المسلمين وعلى بريطانيا ومثيلاتها من قوى الاستعمار في المنطقة العربية يومذاك. وهكذا كانت جهود الحكومات العربية ومشاريع التحرر الوطني تجهض بدعاوى إسلامية: "الجامعة الإسلامية" التي انبثقت لاحقاً في كيان بديل باسم "منظمة مؤتمر العالم الإسلامي" التي تأسست كبديل لجامعة الدول العربية ومناوئ لها. والسؤال اليوم يوجه لهذه القوى التي مارست التحريض على قيادات ومؤسسات ومشاريع العمل العربي: لماذا يتساءلون اليوم بسخرية: أين جامعة الدول العربية من قضية الصراع العربي الإسرائيلي، وهم الذين لم يعترفوا بها طوال تاريخها؟!
يعمل المركز، على إثراء البحث في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في اليمن والمنطقة العربية، وتعزيز فهم تلك القضايا والأحداث المرتبطة بها من خلال الأبحاث والدراسات الميدانية المعمقة، والتقارير والإصدارات المتنوعة، وأوراق السياسات العامة، والكتب العلمية المُحَكّمة، وعقد المؤتمرات وورش العمل والندوات المتخصصة، وبرامج التدريب ودعم قدرات البحث العلمي.